لفيلسوف التجريب الأسكتلندي الأصل ديفيد هيوم (١٧١١–١٧٧٦م) عبارةٌ مشهورة، يذكُرها مؤلِّف هذه الرواية البديعة في الفصل الذي عقده عنه، وتصلح لأن نبدأ بها هذا العرض النقدي لها: «إذا وقع بين أيدينا أي كتاب فعلينا أن نسأل أنفسنا: هل يحتوي على أي استدلال نظري عن الكم أو العدد؟ – لا. هل يحتوي على أي استدلال تجريبي عن مسائل تتعلق بالواقع والوجود؟ – لا. فليس فيه علمٌ رياضي ولا علمٌ طبيعي، ولا بد أن يكون كتابًا في الميتافيزيقا أو في اللاهوت؛ إذن فليُلقَ به في النار! لأنه لا يحتوي إلا على سفسطة وأوهام!»
والواقع أن العدد الأكبر من الكتب التي وُضعت في لغتنا أو غيرها من اللغات عن تاريخ الفلسفة، ومعظم ما لدينا أو لدى غيرنا من مدخل إليها، لا ينجح إلا في شيءٍ واحد، هو إخراجنا من عالم الفلسفة، والفرار بنا إلى مَشاغلنا اليومية، مع التصميم الأكيد على عدم العودة إليها! ولا يرجع هذا إلى افتقار هذه الكتب للمعلومات الكافية عن قضايا الفلسفة وفروعها ومسائلها الأساسية، وتطوراتها المختلفة بين الاتجاهات والمدارس والمذاهب التي لا حصر لها، ففيها بِحارٌ زاخرة من المعلومات التي تُغرِق أمهر السباحين، ولا يرجع أيضًا إلى خلوِّها أو خلوِّ معظمها من العرض الواضح المبسَّط الذي قد يبلغ أحيانًا حد التشويق المُثير، وإنما يرجع إلى فشلها في إقناع القارئ بأن أسئلتها الكبرى عن الوجود والمصير والمعنى والحقيقة … إلخ، هي أسئلته هو نفسه التي لا يتوقف في العادة عندها، ولا يهتمُّ بالتفكير فيها كما يفعل الفلاسفة، وأن قضاياها ينبغي أن تكون بالنسبة إليه قضايا حياة أو موت، تبدأ من وجوده الخاص، وتمتدُّ إلى لغز الكون الهائل العجيب، الذي هو جزءٌ حي منه، ونبضةٌ واحدة من نبضات قلبه الكبير الذي يدقُّ من مليارات السنين، ثم إن هذه الكتب، التي تستحقُّ أن تُلقى في النار، لا تنجح في تعليمه ممارسة التفلسف — أي المشاركة في ملحمة التفكير العقلي — الذي بدأ منذ أكثر من ألفَين وخمسمائة عام على أقل تقدير، ولن يتوقف أبدًا ما بقي على الأرض إنسانٌ قادر على التساؤل والاندهاش، وهي لا تأخذ بيده لاختيار الطريق الذي يسير عليه في حياته في هذا العالم، ومع الناس الذين يعيشون معه، أو الذين عاشوا قبله، وسألوا أسئلته نفسها وحاولوا الإجابة عليها، وهي في النهاية لا تُساعِده كثيرًا على اتخاذ موقف نقدي مما يدور حوله من أحداث، وما يُصادِفه من أنماط الفعل والفكر والسلوك؛ ولهذا فهي تتركه يغوص في «فراء الأرنب الأبيض» الذي أخرجه حاوٍ أو ساحرٌ عجيب — كما سيقول المؤلف — من قبعةٍ طويلة سوداء، ولا تُعينه على الوقوف فوق شعرات هذا الأرنب ليُطلَّ على ما حوله، ويفكر فيه بنفسه تفكيرًا مُستقلًّا. وحتى الحالات القليلة التي لجأ فيها بعض الكُتاب إلى وضع قصص فلسفية، أو تأليف روايات أو مسرحيات عن بعض الشخصيات المتميِّزة في تاريخ التفكير الفلسفي — سواء من الشرق مثل «بوذا» أو «كونفوشيوس»، أو من الغرب مثل «سقراط» أو «أفلاطون» وغيرهما حتى «نيتشه» — حتى في هذه الحالات القليلة لا يمكنَّا أن نقول إن القارئ — والقارئ الشاب بوجهٍ خاص — قد استطاع أن يُشارِك في تلك المغامرة العقلية الكبرى التي نسمِّيها تاريخ الفلسفة، ولا يمكننا أن نجزم بأنهم قد ساعدوه على توجيه حياته توجيهًا حكيمًا، أو إنارة باطنة بأنوار الحكمة، أو حتى على إيقاظه من نعاسه اليومي المضطرِب؛ لكي يندهش من وجوده ووجود العالم، ويفتح عينَيه ووعيه المُغمِض على تلك المغامرة العقلية المتَّصِلة من ثلاثة آلاف سنة من عمر الحضارة والإنسان؛ ولهذا وفَّق المؤلف توفيقًا كبيرًا عندما استهلَّ كتابه بسطرَين استمدَّهما من المقطوعة الخيرة للقصيدة الثالثة عشر من كتاب «الضيق»، وهو أحد كتب الديوان الشرقي-الغربي للشاعر «جوته»، يقول فيها بالحرف الواحد ما ترجمته: «إن مَن لا يتعلم كيف يقدِّم لنفسه الحساب عن ثلاثة آلاف عام، فسوف يبقى مُفتقِدًا للخبرة، ويتخبط من يوم ليوم في الظلام.»
ولا شك أن اختيار هذه الأبيات قد أعطى إشارة البدء للانطلاق في هذه المغامرة التاريخية الغامضة والمُذهِلة، التي استمرت كل هذه السنين وما زالت مستمرة، كما دعا القارئ للانخراط بدوره في هذا العالم العجيب الذي سمَّاه عالم الحكمة أو «عالم صوفيا».
وأول سؤال يخطر على البال هو: من هي صوفيا هذه التي يريد المؤلف أن يجعل عالم الفلسفة وتاريخها هو عالمها وتاريخها الخاص؟
الكلمة اليونانية الأصلية تُترجَم عادةً بالحكمة، ومحبة الحكمة (الفيلوسوفيا) هي الكلمة التي نُسبت صياغتها إلى فيثاغورس أو هيراقليطس، واكتسبت معناها الإنساني — أي السعي إلى الحكمة لا امتلاكها — منذ سقراط، وترجمها العرب بالفلسفة، وعرَّفوها بأنها: العلم بحقائق الأشياء بقدر طاقة الإنسان. ولكن صوفيا هي تلك الصبيَّة اللطيفة التي تعيش مع أمها وحيواناتها (القطة شيريكان، والسلحفاة جوفيندا، والأسماك الحمراء، والعصفورَين الملوَّنين) في البيت رقم ٣ مَمرَّ النرجس بإحدى المدن النرويجية، وكأنها تعيش في جنة عدن مليئة بالطمأنينة والصفاء والسلام. ولا تلبث الصبيَّة — التي ستتمُّ بعد قليل عامَها الخامس عشر — أن تتلقى رسائل غامضة تعثر عليها في صندوق البريد، أو يحملها إليها بعد ذلك الكلب هرميس، أو تُصادِفها في أماكن مختلفة (على رصيف الشارع، أو في ذيل طائرة ورقية، أو على قاعدة نافذتها). وأول رسالتَين تتلقاهما الفتاة، ويتكفلان بإخراجها من جنتها الآمنة، وإيقاظ الاندهاش في نفسها الصغيرة (والاندهاش هو أصل الفلسفة، كما قال أفلاطون وأرسطو، وكما تروي الحكاية المؤثِّرة عن طاليس أول الفلاسفة الإغريق الذي استغرق في تأمل السماء، والاندهاش لجمالها أو حتى لوجودها، فوقع في بِركة ماء، ورأته خادمة أو إحدى الفتيات التراقيات، فاندهشت، وأغرقت في الضحك عليه!) وكانت أول رسالتَين وصلتا إلى صوفيا تحملان هذَين السؤالين الصغيرين: من أنت؟ ومن أين جاء العالم؟ وأثار استغرابَها أنهما موجَّهان إلى فتاة اسمها هيلد مولر كناج/طرف صوفيا إموندسن، من الأب الذي يعمل ضابطًا في الكتيبة النرويجية التابعة لقوات الأمم المتحدة لحفظ السلام في لبنان. سؤالان يُثيران الدهشة، واسم فتاة لا تعرفها تكتب الرسائل إليها من أبيها، وتُرسِل إليها نُسخًا متتالية منها على زعم أنها توجد طرفها، وأنها ستوصِّلها إليها. وتتتابع الأحداث المشوِّقة، كما تتتابع فصول حكاية شعبية أو خرافية، ببساطة وتلقائية وعذوبة لا حد لها. ويستمر الاندهاش الطفولي، ويتصاعد مع توالي المَشاهد والأحداث، وتوافُد الشخصيات العبثية التي يعرفها ويُحبُّها كل الأطفال من الحكايات الخرافية، وتزداد حيرة صوفيا حتى بعد أن يعرِّفها بنفسه معلِّم الفلسفة المجهول، الذي يبعث إليها فصلًا بعد فصل من تاريخ التفكير العقلي — الغربي أساسًا — في قضايا الوجود والنفس والعالم والمعرفة والأخلاق وحرية الإرادة والعلاقة بين الروح والجسد وطبيعة الإنسان والعالم الذي نعيش فيه … إلخ، ولا تقلُّ حيرتها حتى بعد أن تراه في شريط الفيديو الذي أرسله إليها، وظهر فيه بقامته المتوسطة، وذقنه السوداء المدبَّبة، وهو واقف أمام معبد العذراء «البارثينون»، فوق قمة الأكروبوليس المُطلِّ على أثينا، ولا بعد أن تلتقي به في كنيسةٍ عتيقة من القرن الثاني عشر ليشرح لها فلسفة العصور الوسطى المسيحية، ثم في بيته في وسط المدينة، وهو البيت الذي يدلُّها عليه الكلب هرميس، وفيه تحاورت معه عن الفلسفة في عصر النهضة والباروك وعن ديكارت والعقلانيين … إلخ. ولا يقلُّ الغموض، ولا يفتر الحماس للكشف عن ألغاز الوجود والعقل والحياة والموت وأصل الكون ومصيره، ولا يرتفع الستار عن حقيقة صوفيا ومعلِّم الحكمة والشخصيات الخرافية البديعة التي تصطدم بها الفتاة أو تُفاجئها من حين لآخر، حتى يتبيَّن لنا — بعد رحلة شاقة، ولكنها شائقة في تاريخ التفلسف الغربي والعلم الغربي أيضًا! — أن صوفيا ومعلِّمها ليسا سوى أفكار أو خيالات دارت في ذهن كاتب الرواية، وهو والد هيلد، الضابط ألبرت كناج، الذي كان يتسلى أو يستمتع بكتابة تاريخ الفلسفة لابنته على شكل رواية، أو مغامرة من مغامرات الأطفال في الحكايات، وأنه كان يهدف منها أن تكون هديته إليها في عيد ميلادها الخامس عشر، وأن تكبر معها شيئًا فشيئًا، وتُساعِدها على عبور سنوات التحول والنضوج، وتعلِّمها أن تختار طريقها في الحياة، وتقِف موقفًا نقديًّا من كل شيء؛ أي أن تقِف على طرف شعيرات فراء الأرنب الأبيض، ولا تنزلق في أعماقه كما يفعل العاديون من الناس، الذين لا يستيقظون أبدًا على الأسئلة الكبرى، ولا على السؤال البسيط: من نحن؟ وما هو دورنا في هذا العالم؟ ولا يُثير فيهم شيء مما حولهم ذلك الاندهاشَ الذي حرَّك أول إنسان في الشرق أو الغرب، فتفلسف وسأل: ما هذا العالم؟ ولماذا نوجد فيه، ولا بد يومًا أن نموت كما مات من قبلنا، كل الذين سألوه أو لم يسألوه؟
من المستحيل، بل من العبث، أن نحاول تلخيص رواية تقع ترجمتها العربية الموفَّقة (وقد وصفتها بالموفقة لأن لها ترجمةً عربية أخرى لا يمكن أن تُطلَق عليها هذه الصفة!) في أكثر من ستمائة وخمسين صفحة من القطع الكبير؛ فالعمل الفني يستحيل تلخيصه. إنه يطلب منك أن تدخل في عالمه، وتتجول في دروبه وغُرَفه ودهاليزه وأنفاقه، وتُعايِن بنفسك مَناظره وصوره، وتجرِّب تجاربه ومواقفه، وتُحاور شخصياته أو على الأقل تسمعها بنفسك، وتتأمل بناءاته، وتستمتع بإيقاعاته، وتعجب أيضًا لحِيَله وأفانينه. ويكون نجاح العمل بقدر ما ينجح في إشراكك في عالمه؛ أي في قضاياه وإشكالاته وأسراره، بل إشراكك في «خلقه» أو إعادة إبداعه وإنتاجه على طريقتك كما يقول بعض نُقاد هذا العصر. وأقصى ما نستطيع أن نفعله مع عمل ضخم ورائع كهذا (يُقال إن الرواية تُرجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة، وبيع منها أكثر من مليون نسخة!) هو أن نسأل بعض الأسئلة، ونحاول الإجابة عنها:
إلى أي حد وُفِّق الكاتب في الحفاظ على التعجب والاندهاش الذي لا يستغني عنه التفلسف، والذي يبدأ به ويسيطر عليه في كل خطواته ومراحله؟
هل وُفِّق في عرض تاريخ الفلسفة وأهم أفكاره وقضاياه على صوفيا الصغيرة؟ وهل ثمة انتقاداتٌ يمكن أن تُوجَّه إلى هذا العرض، أو إلى بعض الأفكار والهموم التي بثَّها المؤلف في روايته؟
أما عن السؤال الأول، فقد نجح المؤلف في إثارة ارتباك صوفيا الصغيرة — وارتباكنا أيضًا، والارتباكُ أو الحيرة وراء كل تفلسف كما قال هيجل — بمجرد وصول الرسالتَين الأوليين إليها وفي داخلهما السؤالان البسيطان: من أنت؟ ومن أين جاء العالم؟ فقد أخذت المسكينة تنظر إلى نفسها في المرآة، وتتأمل جسدها ووجهها وشعرها الأشقر، وتسأل عن طبيعة وجودها، هل لها نفس وعقل أم إن عقلها حاسبٌ آلي كما قالت صديقتها نورا؟ هل هذه النفس خالدة كما تعلَّمت في دروس الدين؟ وما نوع هذا الخلود؟ ما العلاقة بين النفس أو الروح وبين الجسد الذي تراه في المرآة، وتُحسُّ بنبضاته ونموِّه المُفاجئ؟ من أنا؟ ويا لَهذا السؤال الذي لم يسبق لها أن طرحته على نفسها! ومن هي أمها التي يبدو أن لا شيء يُدهِشها أو يُخرِجها من حياتها المألوفة. ثم من أين جاء هذا العالم؟ هل انبثق في لحظة الخلق من العدم، أو وُجد منذ الأزل (وهي مشكلة الحدوث والقِدم التي شغلت المتكلِّمين والفلاسفة في تراثنا)؟ ومن الذي أوجده وكيف وُجد؟ هل يشعر الله بها أيضًا ويُحسُّ بحيرتها، أم له وجود من نوعٍ آخر؟ ألا يمكن أن يكون حاضرًا فيها وفي زهور حديقتها وحيواناتها الحبيبة إلى قلبها، أم هو هناك في السماء وبين النجوم، أو يسري مسرى الروح الخفيفة دون أن نستطيع معرفته أو تحديد طبيعته؟
وتكبر معها الدهشة والحيرة مع كل رسالة تصلها وفيها فصل جديد من فصول المغامرة العقلية الكبرى، لبشرٍ مثلها لم يكفُّوا عن التساؤل ومحاولة البحث عن إجابة، في كل عصر وفي كل حضارة صنعها البشر، منذ عهد الفلاسفة الطبيعيين الذي ستعرفهم واحدًا واحدًا، إلى سقراط وأفلاطون وأرسطو وديمقريطس والرواقيين والأبيقوريين، إلى أفلوطين والأفلاطونيين الجُدد، ثم من أوغسطين والقديس توما الأكويني إلى رُواد العقلانية والتجريبية الحديثة، من ديكارت وأتباعه وبيكون ولوك وهيوم، إلى كانط وهيجل والرومانسيين، حتى داروين وماركس وكيركجارد وفرويد، وصولًا إلى سارتر بوجهٍ خاص، وإلى أحدث حقائق العلم الحديث عن البيئة والوراثة وعن أصل الكون والانفجار العظيم. ومع كل قراءة وكل حوار مع معلِّمها الفيلسوف المجهول — الذي تعرَّفت عليه بعد ذلك، واستأنفت معه المناقشة والتساؤل — لا تنقطع دهشتها، ولا تقلُّ حيرتها أمام الألغاز الكثيرة التي تحرِّكها وتحرِّك الرواية عن العالم والإنسان والإدراك والمعرفة والحياة والموت والأخلاق والجمال والخير والشر، وعن هيلد أيضًا ووالدها الذي يؤلِّف هذه الرواية وتشعر أنه يُراقِبها ويحرِّكها ويحرِّك معلِّمها.
صحيحٌ أن من الصعب تصوُّر قدرة فتاة صغيرة على استيعاب الكم الضخم الذي يُقدَّم لها عن تاريخ الأفكار والإجابات الشديدة التنوع على الأسئلة الكبرى، ولكن التشويق المستمر، والتوتر المتَّصِل، مع زيادة الألغاز والأسئلة غموضًا، ولقاءاتها المتكرِّرة في الغابة أو أمام باب شاليه الضابط المُطِل على البحيرة، أو حتى وهي تعبُر الشارع والميدان، بشخصياتٍ خرجت مِن كتب الحكايات الخرافية التي سبق لها قراءتها، كل هذا يجعلنا نعيش معها حكايةً خرافية كبرى، مليئة بالعجائب والغرائب والمفاجآت التي تستفيد من فلسفة العبث والواقعية السحرية، وتتخللها فصولٌ فلسفية تلخِّص أفكار أهم الفلاسفة تلخيصًا أمينًا مُنصِفًا ومبسَّطًا بقدر الإمكان. ومع ذلك يظل السؤال مُلحًّا: هل تقدر صبيَّةٌ صغيرة — سواء كانت هي صوفيا أم كانت هي هيلد التي تتزامن قراءتها لهدية أبيها المكتمِلة بمناسبة عيد ميلادها الوشيك مع قراءة صوفيا لها — أقول هل تقدر صوفيا الصغيرة على تحمُّل هذا الجبل الفكري الثقيل الذي ينهال عليها حجرًا بعد حجر، على الرغم من مشاركتها المستمرة في السؤال والاستيضاح، ومن جهود معلِّمها الصبور في توصيل رسالة الفلسفة إليها، وإقناعها بأن تتفلسف بنفسها، وتُساهِم في صنع عالم إنساني خالٍ من الصراعات والحروب والتلوث والإرهاب والتعصب … إلخ؟
وقبل أن نحاول الإجابة عن السؤال الثاني المتعلِّق بعرض المؤلف لتاريخ الفلسفة، نجد لزامًا علينا أن نتناول هذه الرسالة التي يسعى المؤلف لتوصيلها إلينا من خلال المعلِّم العجيب وتلميذته الحلوة البريئة (أم تراها قد خسرت البراءة بمجرد أن تفتَّحت عيون وعيها الصغير على أسئلة الفلاسفة وإجاباتهم التي لم تخلُ أبدًا من التعقيد والخرابة؟) يشعر القارئ منذ البداية بأن المؤلف يحمل رسالة إليه، ويريد إبلاغها قبل كل شيء للملايين الذين غاصوا في «فراء الأرنب الأبيض»، فانطمروا كالنمل تحت أعباء الحياة اليومية، وأصبحوا أُسارى المعتاد والمألوف والوضع القائم، فلم يتمكنوا من الصعود على أطراف شعيرات ذلك الفراء ليفكِّروا ويتأملوا ويسألوا، ويحاولوا تجاوُز عالمهم المعتاد أو العلو عليه نحو «العالم» على إطلاقه، ولم يخطر على بالهم أن يوجِّهوا إليه النقد ابتغاءَ تغيير حقائقه المألوفة، وتحويله إلى عالمٍ أفضل وأعدل وأكثر استجابة لإنسانيتهم ولأحلامهم بالمستقبل، أو على الأقل عالمٍ أكثر وضوحًا وأقل اضطرابًا وتناقضًا. والرسالة ببساطة هي تحقيق واقع إنساني آخر، تتحد فيه البشرية فوق هذا الكوكب الضئيل بالقياس إلى الكون الشاسع الممتد المُذهِل بروعته وغموضه ورهبته وجلاله وجماله (كما تدلنا الصفحات الأولى من الفصل الأخير)، فتتجنَّب الحروب والصراعات الدينية والعِرقية، وتطهِّره من ضيق الأفق والتعصب والتلوث، وتحيا أخيرًا في ظل السلام؛ لعلها تتعاون على كشف أستار الغموض المحيط بها من كل جانب. وإذا كان هذا حلمًا بعيدًا أظهرت الأيام والتطورات التاريخية والعلمية والتكنولوجية أنه يزداد بُعدًا وخفاءً، فلا أقلَّ من التوسل بالوسيلة المُتاحة لأي كاتب، ألا وهي إعلان كلمته التي تُشيع التفكير الفلسفي في كل قارئ، لا في صوفيا وهيلد وحدهما، وتشجِّعه على التفكير بنفسه، وتكوين آرائه الشخصية، والإمساك بحقيقته الذاتية قبل الانتقال إلى التساؤل عن حقيقة الوجود وأصله ومعنى وجودنا فيه. ولا شك أن عمل المؤلف — ونقصد به الضابط الذي يبعث برسائله من لبنان حيث يعمل في قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام — له دلالةٌ واضحة على اقتناعه بضرورة توحيد البشرية بقيادة هذه المنظمة التي لم تتمكن حتى الآن من القيام بدورها؛ لنفس الأسباب التي تكرِّس تمزُّق البشرية، وتسلُّط الأقوياء على أقدار الضعفاء. ولا شك أيضًا أن مؤلف الرواية مُقتنِع بأن حاجتنا اليوم إلى التفلسف قد اشتدَّت أكثر من أي يوم مضى (لسببٍ بسيط لم يصرِّح به؛ لأن الجميع يعرفونه، وهو أن أسلحة الدمار الشامل المتوافرة عند الدول العظمى وبعض الدول الصغيرة، تكفي لإبادة البشرية والحياة على الأرض آلاف المرات)، وهو يضع ثقته في الفلسفة، ويُوحي إلينا بأنها هي التي ستُساعد على إعادة الإنسان لإنسانيته، وتوحيد البشرية، وتجنب الحروب، وتنوير الشباب السادر في غياهب اليأس والتمرد العدمي والعنف العبثي والمخدرات المغيِّبة للوعي، فيحاول بكل وسيلة أن ينبِّهه ويُوقِظه. ومع تسليمنا بأن الإيقاظ وتنبيه الوعي الغافي (وكم ذكر خلال الرواية أن سقراط كان هو النحلة التي لا تتوقف عن لسع الحصان الأثيني الغافل المستسلِم لزيف الواقع وتزييف الحق!) مع تسليمنا بهذا، فإن وضع الأمل كله في تنبيه البشرية وإيقاظها في كفة الفلسفة أمرٌ لا يمكن أن يخلو من التفاؤل الشديد أو حسن النية، وربما يكشف عن «حلم مثقَّف» غاب عنه أن الواقع أشد تعقيدًا مما يتصور، وأن التفكير النظري أو حتى النقد الفلسفي الذي يحرص على تعليمه لصوفيا ولنا، لن يستطيع وحده تغيير هذا الواقع المعقَّد بعناصره المختلفة، وتراكماته التي لا آخر لها، وأن ممارسة التفلسف حول وجودنا الذاتي أو وجود العالم، لن تستغني عن الالتحام بالعمل — على اختلاف تصوراتنا له — لتغيير الواقع البشري المتردِّي، ولا سيَّما واقع القِسم الأكبر من البشرية الذي يُعاني من الفقر والظلم والجوع والتخلف واستبداد النُّظم المتحكِّمة فيه، إلى آخر ما نعلم وما نعجز عن تغييره بأحلام المثقَّفين، مهما كانت عدتهم من الأفكار النقدية والتطلعات اليوتوبية والتنظير الفلسفي. وأحسب أن صوفيا أو هيلد المنعَّمة في جنتها النرويجية الصغيرة لن تستطيع، مهما تزوَّدت بالعلم والنقد الفلسفي، أن تُحسَّ ببؤس الواقع البشري في أجزاءٍ أخرى من «العالم الآخر»، الذي هو قطعة من الجحيم بالنسبة إلى جنتها السعيدة.
أضِف إلى ما سبق قوله أن تحقيق رسالة المؤلف والرواية معًا، كان يستلزم بالضرورة أن ينعكس على طريقة العرض نفسها للآراء والمذاهب والاتجاهات الفلسفية؛ لأن العرض المُحايد لن يؤدي وحده — في تقديري على الأقل — لا إلى تغيير الوعي، ولا إلى تغيير الواقع، ولكننا قد وصلنا بهذا إلى العرض نفسه لتاريخ الفلسفة، ولا بد من كلمة عنه قبل محاولة نقده. إن الإنصاف يقتضينا القول بأنه في مجموعه عرض موضوعي مُنصِف، رُوعِي فيه التبسيط والتشويق بكل وسيلة معقولة أو لا معقولة، ومع ذلك لم يُغفِل «جوهر» المذاهب والمدارس والأفكار التي تناولها بالشرح والتوضيح والتقريب لفتاة صغيرة، ولم يترك أهم ما يجب معرفته عن كل مذهب أو فيلسوف على حِدة، دون الإغراق بطبيعة الحال في التفصيلات والتفريعات التي لن يفتقدها إلا المتخصِّص في دراسة الفلسفة. وأحسب أن اشتغال مؤلف الرواية نفسه سنواتٍ عديدة بتعليم الفلسفة للشباب في المدارس الثانوية، قد درَّبه تدريبًا كافيًا على تبسيط أعوص المسائل، وتحويل عرضه النابض بالحياة والحيوية إلى ما يُشبِه في بعض الأحيان أن يكون حكاية شديدة التشويق، أو قصيدة بل أغنية فلسفية طويلة ومُثيرة للقلب قبل العقل في كثير من الفصول. وطبيعيٌّ أن يلجأ المؤلف إلى هذا؛ لأن المتلقِّي عنه ليس طالبًا أكاديميًّا، ولا حتى جمهورًا مثقَّفًا في محاضرة ثقافية عامة، وإنما هي صوفيا الصبيَّة التي يتفتح وعيها بالتدريج على أغرب الأسئلة وأغرب الإجابات، وكأن العرض قد أصبح بالنسبة لها — على الأقل في بعض الفصول وليس فيها جميعًا — حكايةً أخرى من نوع الحكايات الخرافية الشعبية أو الفنية التي قرأتها لهانز كرستيان أندرسون الذي ذكر أكثر من مرة أو لغيره. دع عنك الشخصيات العديدة التي تُقابِلها في الغابة، أو عندما تفتح باب شاليه الضابط، أو حتى عندما ينحشر جسدها الصغير بين الأغصان المتشابكة، فتأتي الأوزة التي تحوِّلها بضربة من جناحها إلى عقلة الصباع، وتطير بها في السماء! وربما ساعد على حيوية العرض في معظم الفصول، وخلوِّه من أي أثر للجفاف المدرسي والجفاء الاصطلاحي والتعقيد والغموض اللذَين يتصور الكثيرون أن لا فلسفة ولا عمق بغيرهما، ربما ساعد على هذا أن العرض يتم من الداخل؛ أي عن تجربةٍ مَعيشة أتاحت للمؤلف أن يحيا الأفكار بكل كيانه، ولا يكتفي بفهمها واستيعابها بعقله، ثم إنه يتم بصورةٍ مستمرة، ابتداءً من الحاضر الذي تعيشه الفتاة وتُعاصِره؛ ولهذا تُشارِك فيه في معظم الأحيان بالتعجب أو الاستنكار أو السخط أيضًا إذا وصل الأمر إلى حد ظلم المرأة وحرمانها من حقوقها السياسية والإنسانية. وقد نتج عن هذا أن صوفيا بدأت تعيش الأفكار — كما يبدو من أسئلتها الكثيرة لأمها المُشفِقة عليها من تلك الدهشة المستمرة التي لم تجرِّبها هي نفسها أبدًا — كما أن الأفكار تنعكس على بعض تصرفاتها، ولا تنزوي حبيسة رأسها فقط، وكأن كل ما تعلَّمته وتتعلمه درسًا بعد درس هو جزءٌ من لعبة أو مغامرة كبيرة بدأت تنخرط فيها، وهي لعبة فهم العالم والحياة والذات، وتكوين وعي نقدي يمكن أن يساعدها على إيقاظ النائمين من حولها «في قاع فراء الأرنب الأبيض»، أو على الأقل يُساعِدها على الوعي بروعة الحياة نفسها وغموضها، والمشاركة بدورها في جعلها لعبة أو حكاية أو مغامرة حية حافلة بالجمال ومتعة المعرفة، وحفَّزها على المشاركة في حل ألغازها وإضفاء المعنى عليها، قبل أن يحصدها مِنجل الحصاد المتربِّص في كل لحظة لهذه النعمة القصيرة العمر.
سبق أن قلنا إن المؤلف كان حريصًا منذ البداية — بل منذ الشعار الذي استهلَّ به الكتاب، واستمدَّه من شعر جوته — على أن تعرف بطلته الجذور التاريخية المُوغِلة في أعماق تربتها الحضارية؛ لتصبح إنسانًا حقيقيًّا، وتتطلع إلى مستقبلٍ إنساني لنفسها ولغيرها من إخوتها في الشرية، وتعمل على التعجيل به بقدر استطاعتها. ومع ذلك يظل السؤال السابق مُلحًّا: هل تقوى مثل هذه الفتاة الصغيرة على ابتلاع جبال المعلومات التي تنهال على رأسها الصغيرة؟ ألا نشعر أحيانًا بالانفصام أو التباعد بين فصول حياتها والفصول الغنية بالمعلومات؟ وهل كانت هي الشخصية المناسبة للاضطلاع بالدور، أو حمل الرسالة التي أراد المؤلف توصيلها للقارئ؟ أم إن جهده اتجه قبل كل شيء إلى «إحياء» الفلسفة نفسها بعرض تاريخها بالصورة التي ذكرنها؛ لإغراء القارئ بإعمال عقله في الأسئلة الكبرى، واتخاذ موقف نقدي من حياته ومن الحياة بأكملها، بعد أن نجحت الرواية في إقناعه — أي القارئ العادي من أي سن أو جنس أو لون أو عقيدة أو لغة — بأن تاريخ التفكير الفلسفي هو في نفس الوقت تاريخه الخاص، وأن مغامرة العقل التي خاضها الإنسان الغربي والشرقي أيضًا (وإن لم يذكُره المؤلف إلا لمامًا!) كما خاضتها الصغيرة صوفيا هي أيضًا مغامرته (وإن كان التعليم قد أخفق في إشراكه فيها، كما أخفق معظم مؤرِّخي الفلسفة ومعظم الفلاسفة أنفسهم في جذبه للانخراط فيها).
وقبل أن أتعرض لمسألة الشرق، وإغفال المؤلف له بوجهٍ عام، أرى من باب الإنصاف أيضًا أن أؤكِّد أنه نجح نجاحًا فائقًا في تقريب كل الفلاسفة والعلماء الذين شرح أفكارهم إلى القارئ العادي، الذي أظن أنه كان يقصده قبل غيره، ولا يعود هذا التقريب — كما سبق القول — إلى اقتصار عرضه على الحقائق الأساسية أو الجوهرية التي تهم كل مثقَّف حريص بطبيعة الثقافة نفسها على الاتصال بالجذور، بل إلى وصلِ هذا العرض بآخر ما حقَّق البحث الفلسفي والعلمي أيضًا، سواء بالنسبة للفلاسفة أنفسهم أو للقضايا الكبرى في العلم، كالوراثة والتطور وطبيعة المادة وأصل الكون الذي أفرد له الفصل الرائع الأخير. ومن هذه الناحية يمكن القول بأن العرض كله يكشف عن سعة اطلاع المؤلف وتعمقه، ولا يقدر على العرض البسيط الحي لأعوص المسائل إلا متمكِّنٌ واسع الاطلاع، فما بالك إذا كان إلى جانب ذلك روائيًّا واسع الخيال أصيل الموهبة، وواسع الاطلاع أيضًا على الأدب الحديث والمعاصر وتقنياته وتجاربه ومغامراته، كما يشهد على ذلك استفادته من بيراندللو الذي عبَّر في مسرحياته — وبالأخص مسرحيته ست شخصيات تبحث عن مؤلف — عن خلود الشخصية التي يبتكرها خيال المؤلف الفاني. واستغلاله لتيار العبث أو اللامعقول وللواقعية السحرية عند ماركيز وغيره في كثير من المواقف والتصرفات، على نحو ما نرى في الفصل الثالث والثلاثين في حفل الحديقة، وفي الزج بعددٍ كبير من شخصيات الحكايات الخرافية الذين لا يقلُّون حيويةً عن الأحياء من البشر إن لم يفوقوهم فيها. وساعد على حيوية العرض أيضًا أن المؤلف قد حرص على اقتران الموضوع الفلسفي بالجو الذي يُلائمه ويتساوق معه؛ ففلسفة العصور الوسطى تُعرَض في كنيسةٍ عتيقة في الرابعة صباحًا، والذي يعرضها هو معلِّمها الفلسفي المتنكِّر في ثوب راهب من رهبان تلك العصور (الفصل الخامس عشر)، وقصة أثينا ومجدها وازدهار الفكر فيها بالحوار السقراطي الحي، تُعرَض من خلال شريط فيديو لتعيش بطلته الأحداث وسط أطلالها، وفي أماكنها القديمة التي تتمنى أن تُعيد الأمم المتحدة بناءها وترميمها؛ لتكون شاهدًا حيًّا على حيوية الفلسفة وأهميتها (بحيث لا يقتصر الأمر على إحياء الألعاب الأوليمبية وحدها منزوعةً من سياقها الثقافي والأدبي والمسرحي الذي كان يُلازِمها)، وعرض فلسفة عصر النهضة وعصر الباروك من خلال بعض التُّحف القديمة كالبوصلة والبندقية، ولقاء صوفيا للغني البخيل الذي يعُد أمواله في الغابة، ويضنُّ على الفتاة الفقيرة الحافية القدمَين بشراء علبة ثقاب؛ ليكونا خير تمهيد للفصل الذي عقده عن ماركس وثورته على ظروف العمل البائسة في عصره، ثم ذلك الرجل العجوز الذي يطرق باب الشاليه، ويُعطي صوفيا لوحةً تمثِّل شجرة الأنساب لأنواع الحياة النباتية والحيوانية وصورة لسفينة نوح؛ للتمهيد للفصل العسير عن داروين ونظرية التطور عن طريق الانتخاب الطبيعي، واختيار القهوة الصاخبة التي تلتقي فيها صوفيا مع معلِّمها ألبرتو لشرح فلسفة سارتر، التي ارتبطت أكثر من أي فلسفة وجودية أخرى بالمقاهي وحياة الناس العاديين.
وإذا جاز لي — كأستاذٍ سابق لتاريخ الفلسفة — أن أقول إن الكتاب لم يحمل إليَّ معلوماتٍ جديدة كل الجدة — باستثناء الفصلَين المتميِّزين عن دارون وعن أصل الكون والانفجار العظيم — فيطيب لي أن أعترف بأن بعض الفصول قد قرَّبت إليَّ عددًا من الفلاسفة الذين كنت أتعرض لهم في دروسي بصورةٍ عابرة، ولم يتسنَّ لي التوقف عندهم أو البحث فيهم والكتابة عنهم، مثل بركلي وهيجل، بالإضافة إلى روعة العرض وشموله التاريخي والاجتماعي والفكري لعصورٍ طالما قرأت عنها وقدَّمتها لتلاميذي — مثل عصر النهضة والباروك والتنوير والعصر الوسيط كله — ولكن لم يسبق لي أبدًا أن عشت فيها بمثل هذه الحيوية التي لا تُضارِعها سوى حيوية لوحة رائعة بريشة فنان بارع ونافذ البصيرة.
وأرجع إلى المسألة التي أثَرتها من قبلُ عن هذا العرض للفلسفة الغربية دون الفلسفة الشرقية، ومنها الفلسفة العربية الإسلامية إذا جاز أن نضمَّها للشرق أو نصفها بأنها شرقية. صحيحٌ أننا لا نستطيع أن نلوم المؤلف لأنه اقتصر في عرضه لتاريخ الفلسفة على تاريخها الغربي، ولا أعتقد أن من الإنصاف أن نتهمه بالوقوع في شَرك المركزية الأوروبية أو ما يُشبه ذلك من اتهامات؛ فقد ذكر بوذا أكثر من مرة، كما تحدَّث حديثًا عابرًا عن تشوانج تزو، وهو من أهم فلاسفة الطاوية في الصين القديمة، وتطرَّق إلى التفرقة بين الحضارة الهندو-أوروبية والحضارة السامية، وذكر فضل العرب في نقل التراث اليوناني إلى الغرب دون الخوض في أية تفصيلات عن أي فيلسوف إسلامي. ورأيي باختصارٍ أن هذه المهمة متروكة للشرقيين والعرب والمسلمين أنفسهم، وليتنا نحظى في المستقبل بعرض أو عروض تُنافِس في حيويتها وجاذبيتها الآسرة هذا العرض، لتاريخ الفكر الشرقي والإسلامي، أو على الأقل لأحد عصوره أو أعلامه، وأملي — إذا تحقَّق — أن يختار شخصية أو شخصيات يُدير حولها هذا التاريخ، وتكون معبِّرة عن الإنسان المطحون المحروم من نعيم «الجنة البرجوازية» التي تعيش فيها صوفيا، أو يهيم فيها خيال الضابط النرويجي الذي نسج قصتها من خياله، وحكم عليها في النهاية أن تعيش حياةً فانتازية لا أدري هل يُوافِق المؤلف وبيرانديللو أيضًا على أنها أبقى وأخلد من حياة أمثالنا أم لا توافقهما.
***
المصدر:
تجارب فلسفية (٢٠٠٨)
عبد الغفار مكاوي
Comments