ولد المختار في 18/09/1963 ببلدة الزارات من ولاية قابس وقد قدمت قبل ذلك الزارات للشعر التونسي علمين شهيرين رغم اختلاف توجّهاتهما السياسية والشعريّة وأقصد بذلك المرحومين أحمد اللغماني والمختار اللغماني. وقد بدأت مسيرته الثقافية في المسرح الذي مارسه هواية واحترافا بعد تلقيه تكوينا في ذلك الفنّ من 1985 إلى 1987. ودرس بعد ذلك العربية والاجتماعيات بمعهد المعلمين المركزي ببغداد حتى سنة 1993 وهو اختصاص يجمع بين تدريس العربية وبيداغوجيا وعلم نفس التلميذ لكنه لم يتمّ لأسباب خارجة عن نطاقه ثم عاد من جديد هذه المرة الى ليبيا ليدرس بقسم التاريخ حيث نال شهادة ختم المرحلة الأولى من التعليم العالي ومنع مجددا من مواصلة الدراسة. ومنذ مستهلّ الثمانينات ترجم ولعه بالشعر والأدب إلى كتابات ومقالات بالصحف التونسيّة سرعان ما اصطدمت بواقع سياسي رفضها وضيّق عليها الخناق نتيجة انتماء صاحبها لخطّ سياسي ثوري جعله يشارك في حرب العراق سنة 1991 رغم اختلافه النظري مع النظام البغدادي البعثي. وتعاون مع جريدة 'الوحدة' لسان حزب الوحدة الشعبيّة وعانى من المسألة الأمنيّة ووصل الأمر إلى حدّ التجويع والتهميش. ثم مارس التدريس "ابتدائي وإعدادي" كمعوّض قبل دخوله للوظيفة كإداري حيث لم يسلم من المضايقات والضغوطات المتنوعة. راسل جريدة 'العرب' اللندنيّة لمدة ثلاث سنوات إلى حد 1994 قبل ان ينسحب وينشر مقالاته وكتاباته الشعريّة بجريدة 'الصحافة' ثم بجريدة 'الشعب' 2008 وبجريدة 'مواطنون' وعاد للكتابة والنشر بجريدة 'الشعب' منذ اندلاع {الثورة} من سنة 2011 إلى 2014. والشاعر حاليا رئيس موقع الكتروني "مراجعات" وعضو باتحاد الكتاب التونسيين وعضو اتحاد الكتاب العرب وعضو اتحاد كتاب المغرب العربي وعضو اتحاد كتاب آسيا وإفريقيا. ورئيس جمعيّة "مراجعات ثقافيّة " أمّا عن مؤلفاته فقد تمكن من نشر أربعة كتب شعريّة على حسابه الخاص هي كما يلي: فاتتك أغنيتي سنة 2011 صفر أيلول سنة 2013 فصل في تخريب الجحيم سنة 2015 مخلوق من شهوات السلالة 2016 وله عدّة أعمال منشورة الكترونيا منها: كتاب المشروع الوطني الانتقالي (42 صفحة) ورقات من تاريخ نهب إفريقيّة (116 صفحة) كتاب النهضة التاريخ والنشأة (68 صفحة) دفتر هلوسات مجنون رسمي المشروع الوطني الانتقالي {نحو تركيز سلطة الدولة} (210 صفحة) انتفاضة الزوّالي {مشروع رؤيا ورأي حول "انتفاضة مغدورة"} (199 صفحة) الاصلاح العقلاني الحقيقي للتعليم والتربية في تونس (152 صفحة) تتوزّع هذه المؤلفات على أربعة محاور هي السياسي والاجتماعي والثقافي والشعري وبالجانب الشعري في كتاباته سنهتم في هذه المقاربة لأهميتها في نفس الكاتب مادام قدّمها على غيرها وآثر طبع مجاميعه الشعريّة ورقيّا رغم التكلفة والعناء الماديين بينما اكتفى بنشر غيرها الكترونيا. هذه المدونة الشعريّة التي تتضمن عشرات القصائد المكتوبة في معظمها باللغة العربية الفصحى بينما كتب عدد ضئيل من بينها بالدارجة المحكيّة أو العاميّة تأخذنا إلى عوالم الشاعر المشوبة بالغرابة والطرافة في آن. تبدأ الغرابة قبل ولوج النصّ باسم مؤلفها الذي يتنوع ويتغيّر ويتبدّل من كتاب لآخر ومن مجموعة لغيرها فهو المختار الزاراتي وهو المختار المختاري وهو المختار المختاري ولد الرازي وهو المختار المختاري ابن الخيام وهو أخيرا المختار الأحولي. هذا التنوع في أسماء هذا الفرد المتعدد يطرح عدّة تساؤلات ترى هل يحاول الشاعر البحث عن ذاته الضائعة أم يحاول التخفّي والانفلات من اسم واحد يجعله معروفا ومقصودا؟ هل هو عدم استقرار على حال أم رحلة بحث عن كينونة متشظية؟ هل يريد أن يقول لنا أنه جمع بصيغة المفرد أم يريدنا أن نبحث عنه فلا نجده وما نكاد نعرفه اسم حتى نجده اختفى باسم آخر؟ هل أن المضايقات السياسية والأمنية التي تعرّض لها في فترات مختلفة من حياة مليئة بالصراعات والخوف والاحتياط والمفاجآت جعلته يعمد إلى تبديل هويته مرارا وتكرارا لتمسّ هذه العمليّة كتابته الإبداعيّة وصفته كمبدع أو شاعر؟ في هذا الاطار كذلك يندرج مفهوم الجنون المتردّد بكثافة في عديد النصوص فقد رأينا عنوانا لأحد كتبه {هلوسات مجنون رسمي} كما أمضى إهداء كتاب {صفر أيلول} بالمجنون الرسمي كذلك له قصيد بعنوان 'وصيّة مجنون رسمي' و 'من رسائل مجنون رسمي' و 'يوميات مجنون رسمي' لتنضاف تسمية أخرى إلى قائمة الأسماء التي أطلقها على نفسه. يقول مثالا: مجنون أنا ملعون بالحبّ والحبّ لعنة أبديّة لو تدرون.. لا أطيق فراق جنوني حين تتفتحين في عيوني أو كقوله: إلى من ملكتني حتى فاض ما امتلكته من عمري جنون إلى كلّ ما فينا من جنون الواله... أو كقوله: من باب العلم بالسيء أختتم اليوم انتباهي لأشباح جنوني الرسمي وأدخل مرحلة الجنون الانساني { متعاقد مع الجنون} لماذا هذا الالحاح على صفة أو مفهوم الجنون ولماذا يعلن الشاعر مرارا وتكرارا جنونه وما نوعيّة هذا الجنون الذي يشير اليه؟ هل هو جنون فلسفي على طريقة نيتشة وجبران عندما صرخا في وجه العالم المبني على قيم زائفة جسّدها تحالف السلطة الدينيّة والسياسيّة لاستغلال الانسان حيثما كان؟ هل هو جنون إبداعيّ كذلك الذي عصف بفانغوغ حتى قاده إلى الانتحار بحثا عن أحاسيس مختلفة زمواضيع وألوان غير معهودة؟ هل هو جنون مقلوب يعني به أن العالم اليوم يعيش في حالة هيستيريا وجنون استهلاكيين جعلا الجانب المادي فيه يقتل كلّ ما هو روحاني وشعري؟ هل هو جنون مرضي ناتج عن سنوات عمر أثقلته المضايقات السياسيّة والمطاردات والمسائلات الأمنيّة والضغوطات البوليسيّة؟ هل يؤكده الالحاح على استعمال نعت "رسمي" وتدعمه تسمية المختار ولد الرازي التي أطلقها على نفسه في اشارة لمستشفى الرازي للأمراض العقليّة بإحدى ضواحي تونس. أم لغاية التظاهر بالجنون اصطنعه الشاعر للإفلات من قبضة أولئك المطاردين والمخبرين الذين عششوا في حياته ونغصوا عليه عيشه؟ وإن كان تظاهر به في الحياة اليوميّة فلماذا يلحّ عليه في الشعر ويردده مرارا في النصوص خاصة وأن الشعر مرآة النفس الصادقة التي تعكس حقيقة الذات في انصع تجلياتها وخاصة وأنّ الوضع السياسي في البلاد تغيّر كما هو معلوم واصبح يمكن على كلّ حال التعبير عن الأفكار والأحاسيس والهواجس والأحلام بأكثر حريّة وجسارة؟ نعتقد أن جنون المختار فيه شيء من كلّ هذه الأنواع وهو حالة شعريّة تأخذه عند الكتابة ليفصح عمّا يعتلج في أعماقه من ذكريات ومن تخوفات ومن تمرّد وإصرار ومن تشبّث بثوابت لم يحد عنها ومن أحلام راودته ولم تستطع السنون ثنيه عن محاولة تحقيقها. الحقّ أن المختار الزاراتي مرّ بظروف قاسية وذاق الأمرين ومورست ضدّه عدّة سياسات تجويع وتشويه ولا شكّ أنّه كان يجد في الكتابة متنفسا وعزاء يفرغ فيها كلّ الشحنات السلبيّة التي راكمتها الأعوام ويطلق فيها العنان لجنونه الذي كثيرا ما كان يسانده اللجوء الى المشروبات الكحوليّة يغيب فيها عن وعيه الأليم ويطلق العنان لشطحاته الجنونيّة والشعريّة في آن ويمزج بين الجنون والخمر في قصيد { أغنية نبيذ الجنون الرسميّ } غايته الاستقواء على ما يعيشه يوميا من تنكيل وإقصاء لذلك نجد عديدا من القصائد مثل {خمرزاد} تمتلئ بالحانات أو تملأ الحانات وتسكب فيها الخمور وأنواع مشروبات روحيّة كثيرة وتتجرّع على نخب انتصار لابدّ أن يعقب الانكسار وفي صحّة عديد من الرفاق المسجونين أو المضطهدين وإحياء لذكرى من استشهد منهم في سبيل الأمل والحريّة. من أجل غد أفضل. ومن بين تلك المرثيات أو البكائيات نذكر مثلا: قصيد {عشيري سينان} يرثي فيها 'سينان العزّابي' الذي سقط كما يقول وهم أي الرفاق في مستهلّ التحيّة: عشيري أنت الآن في الممرّ تفسّر لصمت القبر بحزن الغياب وأنانيّة الذي يسبقنا إليه في لحظة الصعود من أسفلنا إلى أعلى الهامش الخرافيّ الساكن في فطرتنا وفي هذا الاطار يتنزّل رثاء الشاعر الفلسطيني محمود درويش وخاصة مرثيّة "شكري بلعيد" الذي كان اغتياله كارثة هبطت على الشاعر وصاعقة مدوية زلزلت أوصاله وهدّت كيانه إلى حدّ أنه نعته {بتوأمه في مرآة الحزن} ومما جاء في هذا النصّ الفاجع: وطني خطير.. وطني أنا وكلّ فقير يسير في ركب الحبّ وموكب الزغاريد إنه عرس الذئب يا رفاقي فلا تغادروا القلب الآن ولا تتركوا درب الحبّ يذهب إلى قبري وقبري رحم للقادمين... وعند التحدث عن مقتل شكري بلعيد لا مناص من الحديث عن (الثورة التونسيّة) أو ما سمي كذلك، تلك التي اندلعت أحداثها في نهاية سنة 2010 وبداية سنة 2011 وما عقبها من أجواء مشحونة ومن تجاذبات وصراعات حزبية واغتيالات سياسية وتحالفات من أجل اعتلاء السلطة. وفي هذا الخضمّ من الأحداث الهائلة التي أثرت حتما في الشاعر بطريقة كبيرة يموقع نفسه سياسيا في نثره فيقول: أنه لا ينخرط في أي حزب من الأحزاب ولا ينضبط لتعليماتها وأوامرها لا شخصا ولا قلما... ويحدد انتماءه الايديولوجي عندما يكتب *{ فأنا الشيوعيّ المنتمي فكريّا للتوجه التروتسكي والمنتمي سريّا منذ 1985 لتنظيم الشيوعيون الثوريون في تونس} ويعلن عن هذا الانتماء شعريّا في أكثر من نصّ: " نعم تركوك لي أنا سيّد الكفّار قالوا.. وآخر شيوعي الأرض القدسيّة..." (قصيد المطبعون) أو في موضع آخر من نفس القصيد قوله: " أنت علمتنا ننتصر أو ننتصر حتّى بموتنا ننتصر وكلامك حقّ.. شيوعيتنا فخر منك ونحن فجرك فافتخر بنا ربّ القدس لك كلّ الحقّ أن تفتخر..." (قصيد المطبعون). وكان لابدّ لهذا الفكر الشيوعيّ الثوريّ أن يصطدم ببرامج الأحزاب ذات المرجعيّة الدينيّة والتي فرضت وجودها في المشهد السياسي وكان لابدّ للشاعر أن يهاجم ممثليهم ومخططاتهم وأهدافهم التي يلخصها في استغلال الذين وجعله مطيّة لبلوغ مآرب سياسية وتنفيذ مخططات جاهزة هي حسب رأيه حلقة أخرى من حلقات السياسات الامبريالية الاستعماريّة تخدم أجندتها وتروّج لفكرها ويتّسم شعره في هذا المجال بعنف شديد قد يصل أحيانا إلى الإقذاع المسفّ الذي قد تبرره حالاته الجنونية وشطحاته الخمريّة لكنه في معظم الأحيان يصاغ في شعر جيّد مليء بالخيالات والصور. يقول: " آه يا ربّ قلبي كم كنت تجود واليوم تجود لنجود ونكون ولن يوقف نارنا ما أعدّوا لنا من حكّام ومن مناف وسلاسل الحديد نحن صوتك بلا نفاق نحن لا نصلّي نحن من يسكر على الحان كلماتك الحقّ ويحمل في الصدر لها معاني للثورة والحبّ الانساني..." وكما استشرف الطاهر الهمّامي تحقق المشروع السياسي وكتب "تجّار الدين في تونستان" منذ عقود. استعمل الشاعر ذات النمط وسمّاه "الله استان" في أكثر من قصيد وأكد على استحالة العيش في مجتمع يخلط الذين بالسياسة ويخنق الحريّة والمساواة والثورة باسم الله... ورغم كثرة الهواجس السياسية والاجواء والعوالم والالفاظ والاتجاهات المستمدة من عوالم السياسة فإنّ هذه القصائد ليست في رأينا قصائد سياسية تنتصر لحزب دون آخر. بل هي قصائد انسانية لا تستثير الهاجس السياسي وتلتصق بالواقع والناس رغم اغراقها في استعمال الأنا الباحث عن نفسه وعن اتزانه اللذين لن يكونا الاّ في عالم متزن مبني على قيم آمن بها من خلال تشبّعه بمضامينها الفلسفيّة والايديولوجيّة منذ شبابه الأوّل. وفي هذه القصائد النثريّة رغم العنف الذي تتسم به احيانا كثير من العشق وكثير من الحبّ وهو ليس حبّا كما هو متعارف عليه بين رجل وحبيبته بل هو حبّ انسانيّ شامل يعانق الانسان حيثما كان وقتما كان ويشعر بالغربة والوحدة والحزن مثل معظم الشعراء أثناء هذه الرحلة الشاقة التواقة إلى الحبّ. يقول مثلا: من قصيد { موعد الغريب مع رصيف الله استان } " سألتني سيّدة .. 'أيكون المختار زوجا صالحا؟' فكان جوابي.. قطعا لا سيدتي صدقا لا... فأنا سيّد الغرباء الخونة للريح مدمن على تعاطي الحبّ وعبادة جمال الله في سيّدات أرض من خيال..." لذلك لم يكن الحبّ الذي يفعم مجاميعه الشعريّة موجّها لامرأة أو سيّدة بل ان حبيبته هي القصيدة الملتزمة الهادفة وهي الخمرة الصهباء الصافية وهي الفكرة الثائرة وهي الثورة الشعبيّة الهادرة وهي الانسانية جمعاء. وما يزيد في ألمه هو احساسه بأن ما يسمى بالثورة التونسيّة هو في الحقيقة انتفاضة مغدورة منهوبة وقع الركوب عليها وتغيير مسارها الطبيعي الشعبي النازع نحو الحقّ في الحريّة والكرامة والشغل. يقول الكاتب الفرنسي (أنطونا ارتوا – Antonin Artoud ) " ما من أحد كتب أو رسم أو نحت أو فصّل أو شيّد أو اخترع الا ليخرج في الحقيقة من الجحيم". وكم يتردّد صدى المقولة في عنوان أحد مجاميع الشاعر وهو (فصل في تخريب الجحيم) إن كتابته الشعريّة محاولة للخروج من الجحيم الذي اكتوى بلظاه ومحاولة كذلك لجمع شتات ذاته المتشظية التي تلملمها القصائد وتحدّ من وطأة الغربة والحزن والغضب وتبعث فيه اصرارا على التعلّق بالحلم والثبات على المبادئ وصفته المميزة أثناء كلّ ذلك هي الادمان فهو مدمن على الجنون ومدمن على الخمور ومدمن على الشعر ومؤمن به كوسيلة للتغيير والاصلاح والتبشير بعالم تسوده القيم التي تنأى عن الاستغلال والاضطهاد وترقى بالإنسان وتحقق وجوده وذاتيته في أكمل تجلياتها. وفي كلّ هذه الحالات نرى عصارة شعره ونسمع لسان حاله يتماهيان مع مقولة المفكّر الشيوعيّ الكبير 'أنطونيو غرامشي' (لا فائدة لهذا المجتمع من مثقّف يراكم معرفة نظريّة أو تنظيريّة منفصلا عن الحياة وعن الناس).
حمام الأنف (04/05/06) مارس 2019
Comments