التصق اسم الكسندر باسترناك سولجنتسين بمعاداته للنظام الشيوعي السوفياتي وادانته وكشفه لتجاوزات النظام الستاليني في حق فئات كثيرة من الشعب الروسي وخاصة في حق كثير من المفكرين الذي كلفتهم حرية تفكيرهم وتعلقهم بمثل مغايرة لتصورات نظام بلادهم اضطهادات كثيرة وتضييقات لا تحتمل وعلى رأسهم الشاعر والكاتب والروائي "بوريس باسترناك " صاحب رائعة الدكتور جيفاكو الذي أرغم على رفض جائزة نوبل، ومات بعد أشهر من ذلك مقهورا. أما سولجنتسين ولد في "كيسلوفودسك" سنة 1918 في خضم أحداث الثورة الروسية التي سيدينها فيما بعد ويعتبرها من أكبر المجازر التاريخية وأشنع المظالم التي حاقت بالشعوب الروسية، وسرعان ما تغلبت عليه الميولات الأدبية والفكرية في شبابه فترك دراسة الفيزياء والرياضيات ودرس الأدب والفلسفة في موسكو وشارك في الحرب العالمية الثانية برتبة ضابط لكن ألقت عليه السلطات السوفياتية القبض قبل نهايتها بعد أن اكتشفت بعض مراسلاته الشخصية تحتوي ﺁراء وأحكاما مناهضة لستالين ولطريقته في الحكم وبدأت منذ ذلك التاريخ إقامته المتكررة في السجون التي صور عذاباتها وﺁلامها فيما بعد في أعمال أدبية كثيرة وأشهرها "ابنة الحب والبريء" (1954) و"الحلقة الأولى" (1968) وخاصة "يوم في حياة ايفان دينسوفيتش" (1962). وما كاد يطلق سراحه سنة 1953 حتى نفي بكازاخستان ثم أعيد إليه الاعتبار أثناء حكم "خروتشوف" الذي حاد عن الخط الستاليني الصلب لكن لم تلبث أن عاودته متاعبه في فترة "بريجنيف" فلم يستطع أن يطبع في روسيا واحدا من أشهر كتبه "جناح مرضى السرطان" وفصل من اتحاد الكتاب السوفيات الذي قاوم جموده واضطهاده للفكر الحر في كتاب "حقوق الكتاب". واقترح عليه أن يهاجر لكنه رفض الاقتراح مثبتا تعلقه بالأرض الروسية وقرر ألا يذهب إلى السويد لتسلم جائزة نوبل التي منحها سنة 1970.
وإلى حد ذلك الوقت كانت كل روايات سولجنتسين مستمدة من سيرته الذاتية التي تزخر بالأحداث والتجارب التي عاشها لكنه واثراء لتجربته الكتابية اعتمد استيحاءات أخرى فكتب رواية تاريخية بعنوان "الرابع عشر من أوت" وهي الأولى من حلقة روائية بعنوان "العجلة الحمراء" موضوعها الثورة الروسية جمع فيها ملفات ضخمة عن الاضطهاد السياسي الذي مارسته الحكومة الشيوعية والقمع الذي سلط على المثقفين والمفكرين مدة أكثر من نصف قرن وظهر هذا خاصة في رواية "أرخبيل الكولاﭪ" وقد أثار هذا العمل غضب الحكومة الشديد فاعتقلته عام 1974 وجردته من الجنسية السوفياتية وأطردته من الأراضي الروسية. واحتضنت الولايات المتحدة سولجتنسين وانقض الاعلام الغربي على هذه الحادثة ليهاجم الاتحاد السوفياتي من خلال هذا الكاتب المتمسك بأرائه وتصوراته في تلك السنوات خاصة بطلا من أبطال مقاومة الاستبداد وعاشقا عنيدا للحرية. وظل يكتب طيلة تلك السنين بغزارة بنفس الاصرار وفي فس الموضوع داعيا إلى استبدال الايديولوجية الشيوعية بمثل قومية وروحية كما في كتابه "رسالة إلى قادة الاتحاد السوفياتي". ولا شك أن الأحداث التي شهدتها نهاية الثمانينات والتي انتهت بانفجار الاتحاد السوفياتي وسقوط المعسكر الشرقي ومعظم الأنظمة الشيوعية ملأت قلب سولجنتسين بهجة وانشراحا ولا شك أنه لم ير في ذلك سوى نهاية حتمية لتلك الأنظمة وأنه قد تنبأ وبشر بسقوطها فزاد ذلك صورته ائتلاقا وعمل الغرب على تلميعها أكثر جاعلا منه طرفا فاعلا في ذلك السقوط وقد قال في ذلك في أحد أعماله: "أثناء صمت الخمسينات المطبق أحدثت أول شرخ في جدران الكذب" فلا غرو أن يعتبر بعد ذلك بقية الشروخ التي أودت بحائط برلين وبحدود الاتحاد السوفياتي مواصلة لذلك الشرخ الذي أحدثه وظلّت كتاباته في المنفى توسّعه. وقد قرر الكسندر سولجنتسين أن يعود إلى وطنه الروسي بعد ثماني عشرة سنة في المنفى الاضطراري بعد أن زالت أسباب المقاطعة مثبتا مرة أخرى تعلقه بالأرض الروسية ولكن هل أن سولجنتسين الذي يعد حقائب العودة إلى أرضه هو نفسه الذي غادرها منذ عقدين من الزمن وهل أن الأحداث التي يشهدها العالم اليوم جعلته يحافظ على نفس المواقع الفكرية والسياسية ويحتفظ بنفس الصورة النضالية المكافحة؟ إن المعاناة التي عاشها الكاتب في السجون والمنافي والتجاوزات التي مارسها الحكم الستاليني جعلت سولجنتسين يقف موقف المعاداة من كل الحركات التحررية في العالم ليرى فيها أنظمة مستقبلية مستبدة فليس للإنسان المقموع سوى العودة إلى المثل الروحية المسيحية يمتلئ بها ويقاوم بها القهر، وهذا يجعل صورة البطل السولجتنستيني تضيق لتصبح نموذجا للإنسان المضطهد من الأنظمة الشيوعية وليس الإنسان المقموع من أي نظام استبدادي سواء تستر بالدين أو بالقومية أو غير ذلك ولم يقف الأمر به عند الأحداث التي عاشها وعايشها بل بلغ به إلى التعميم ليدين كل الثورات التاريخية الكبرى فلا يرى في الثورة الفرنسية سوى إرهاب ورؤوس مقصولة وجثث ودماء لم تحقق أي مكتسبات ولم تصنع أي إنجازات للبشرية بل انها في خفايا نفسه ليست سوى البذرة الدموية التي انتصر فيها الشر على الخير وانبتت فيها بعد ظلمات الشيوعية التي قاسى عذابتاها ولهذا السبب نجده يشارك في فرنسا في احتفالات انتفاضة لافندي" وهي إحدى حركات الردة الملكية التي اندلعت ضد الجمهورية الفرنسية الأولى. لقد أمسي في سولجنتسين بطل التحرر شيء من التحجر يمنع عن الإنسان التوق إلى الحرية إذا كان ذلك داخل تصور يخالف تصوراته ولكن هذا بالضبط ما لامه على الأنظمة الشيوعية وحاربها من أجله وهو في كل ذلك أسير تجربة مريرة.
الصحافة 30 سبتمبر 1993
Comentarios