مزّق آهات اللّيل الطّويل صوت أنين.. شقتّ صمت المكان ذكريات من الماضي تتجلّى في حذر.. تنبعث في الدّجى كشبح رجليه في الأرض ويديه تعانقان السّماء.. تحي سوادا دفينا طالما رسا في الأعماق لا يطفو إلاّ نادرا.. وإذا طفا أرهق فؤادا أحبّ الحياة وآمن يوما بالجوى.
هناك.. في ذلك الرّكن العاتم ..سطّرت السّنون قسوتها على روح جريحة.. أفقدتها جمالها.. كستها سوادها.. تجرّعت كؤوس الألم.. امتدتّ اليْها أياد قاسية لا ترأف ضعفها ولا ترحم وهنها.. تلطّخ براءتها.. تغتال طهرها.. تركتها أشلاء تتجرّع القسوة وتزحف على الأشواك النّاتئة.. لا حراك فيها ولا ترانيم.. تئنّ بحرقة.. كبُوم عليل..
في تلك اللّيلة كانت الرّياح كعادتها منذ سنين تلعب بباب الغرفة السّابحة في الظّلام ..تدفعه يمينا وتلقي به شمالا وكأنّها تلعنه سرّا وعلنا وتلومه على استقباله للذّئاب واحتضانه لنزواتهم.. يتوغّل شعاع القمر خجولا.. ينثر الأمل.. في ظلّ ذاك الصّمت والمجون ينبثق صوت قريب بعيد.. يسأل الصّوت الضّعيف وقد كرِه منذ أمد التّواصل واتخذ من الوحدة رفيق... "من يطرق بابنا وقد أوصدناه منذ عهد بعيد؟". يجيئها الصّوت سائلا عن صاحبة الدّار.. تبتسم في سرّها هازئة.. "وهل توجد دار حتى توجد صاحبتها؟".. ويعيد صاحب الصّوت السّؤال.. يرتجف فؤاد ضاعت فرحته بين الدّروب الشّائكة.. أنّ للفرح أن يحلّ بأرض هجرها الهناء منذ سنين؟
يُنبت السؤال بين أضلعها وخْزا.. يصرّ ذلك الصّوت على ولوج العتمة وتمزيق الذّكريات الرّابضة في الأعماق.. ماذا أعاده ومن دلّه الى معزلي؟ ..أ بعد هذه السّنين يطرق بابي؟ أ بعد العذاب يأتي ليؤجّج نارا أخمدتها السّنون؟ ألقت ببصرها بعيدا فرأت طيْفيْن متعانقيْن.. ألّف الهوى بين قلبيْهما.. يسيران جنبا الى جنب.. يرسمان على الزمان حدائق الأمل.. ينيران الدّروب بقناديل حالمة.. يتخطّيان حواجز الجامعة بسرعة.. يرسمان الأيام مسارا هنيّا.. تسعد ويسعد.. تضاء نجمة حالمة.. تطالبه بتوثيق روابط المحبّة بعقد من حرير.. لا يتردّد.. يبدي بشرا.. يتّخذ معها موعدا.. وتتخّذ الأقدار معه موعدا.. مرّت الأيّام وابتلعتها الأحزان.. واجهت ألمها بعيْن دامعة وقلب سكنه القهر والأسى.. صرخ داخلها صوت يطالب بحقّه في الحياة.. حاولت أن تطمس ذلك الصّوت الصّارخ بشتى الوسائل.. لكن هيهات هيهات.. أصرّ على المجيء.. أصرّ أن يُلبسها رداء العار والفضيحة.. اختارت العزلة لتهرب من نظرات السّخط في مجتمع يتسامح مع خطئ الرّجل ويقسو على المرأة إن أخطأت.. آعتكفت في وحدتها تغزل من الذّكريات والأنين لحافا اداري به الزّائر الكريه.. انقطعت صلتها بهذا العالم الموبوء.. وجاءها المخاض فحلّت عليها لعنة السّماء.. جاء المولود ذكرا يذكّرها كلّ لحظة بخطيئتها وبذلك الذّئب الذي افترسها تحت ستار الهوى.. نقمت عليه كنقمتها على ذلك القاسي.. رفضته.. لم تشأ أن تهبه لبنها.. يُستقبل المواليد بالزّغاريد.. واستُقبل مولودها بالكراهية والسخط.. صرخ.. توسّل.. تضرّع الى الله متمنيّا أن يرقّ قلب أمّه .. فما من ذنب اقترفه حتى تقسو عليه .. هجرته.. أصمّت أذنيها عن صراخه.. ارتفع صوته باكيا.. متألّما.. ضعفت.. تألمت لألمه.. مدّت له ضرعا ضعيفا يشكو القهر والذلّ.. ارتوى.. صمت.. نام.. عاوده الصّراخ.. عاودها الألم.. ارتفعت حرارته.. سكنت الأوجاع روحها.. غادرت الغرفة الغارقة في الظّلام تبحث عن طبيب.. وجدت الطّبيب وما وجدت أجرة الطّبيب.. وجدت الأيادي تمتدّ بسخاء.. وجدت الجسم الحزين يدفع الثّمن.. وكأنّ جريمتها رفضت أن تنموَ وسط جريمة أبشع.. عاوده البكاء.. سكنه الهزال.. خارت قواه.. رفض واقعا مريرا.. انتقل الى عالم فسيح.. بكته.. لا تعرف كيف ولمَ ذرفت دموعها؟ أ لأجله أم لأجلها؟ لكنّها بكته بحرقة.. نهش الحزن فؤادها.. تقوقعت داخل أحزانها.. اعتزلت الأيادي السخيّة.. لاحقتها تلك الأيادي تعد بمضاعفة العطاء.. لا .. لن تعود إلى لعبة الأخذ والعطاء.. كرهت اللعبة القذرة.. كرهت جسدها.. كرهت أنوثتها.. كرهت أنّها أرض خصبة للشّقاء.. ابتسمت ورفعت رأسها إلى السّماء.. ليتها كانت هناك.. هنا بدأت رحلة العذاب وهنا تنتهي.. أسدلت ستائر الماضي.. لا تمتّ الى هنا.. هنا انطفأت أحلامها.. هنا ذُبحت كمطيّة ذات عيد.. هناك قطعة منها.. هناك سيكون لها مقاما.. فلتستعدّ لذلك اللقاء.. أغلقت أبوابها على من حولها.. لا تأبه لهذا العالم.. لا تأبه بتغيّراته.. لا تهتم بساساته.. بموت ضمائرهم.. بكذبهم.. بنفاقهم.. بنكث عهودهم.. لا تأبه لفصول السنة ولتعاقبها.. لا تهتمّ بالمهرجانات ولا بالوفايات.. ارتدت الظّلام واعتكفت تغزل رداء النّسيان يقيها الشرّ.. وتمرّ سنوات الاغتراب بطيئة.. وينال منها الزّمان.. يبتلع شبابها.. يغتال جمالها.. يلقيها على شفا البؤس والشّقاء.. ويأتيها الصّوت في الظّلام.. يطرق بعنف ذكرياتها.. يدفعها الى أعماق الماضي.. وجدت نفسها تعود الى غابر الأيّام.. ماذا يفعل هنا؟ ماذا يريد؟ رفعت بصرها فوجدته أمامها.. شامخا.. أنيقا.. هل علم بأمره؟ هل عاد ليحاسبها على عشقها؟ هل عاد ليعاقب الزّمان وتعنّته؟ وتنهال عليها الأسئلة انهيالا مخيفا.. يزداد الزّائر منها اقترابا.. يخفق فؤادها رهبة.. رفعت خصلات شعر أغْبر تحدّى الزّمن وتمدّد في غضب على كتفيْن أثقلهما الأنين.. رفعت يديها تتحسّس وجهها وكأنّها تبحث فيه عن بقايا سحر وجمال.. أقترب الصّوت من الجسم المنهوك.. جثا على ركبتيْه.. اقتربت أنفاسه.. ألهبت روحها.. كم تاهت في عبق أنفاسه.. كم سافرت في دروب هواه.. هو.. نعم هو ببهائه.. بعطره.. ببريق عينيه.. خفق أعاد اليها الحياة.. إستغربت أمرها.. أ مازالت فيها أوتار تتراقص؟ اقترب منها حتى لامس كتفيْها.. أنِست اليه .. أمسكها وقرّبها منه.. همس.. "أشتاق.. انفضي عنك تعب السّنين.. القي بها على صدري.. هلمّي الى أحضاني.. هي لك مرفأ أمان"
تجمّد الدّم في عروقها ..فقدت السّيطرة على روحها الطّاهرة.. هيهات.. هيهات.. هل تنسى ما مضى وفات؟.. هل تفتح جارحا كبّلتها الآهات؟ هل تئد العذاب وتولّد الأفراح؟ تاهت بين آلامها وأحلامها.. توقّف الزّمن.. توّقفت الآلات.. البوصلات.. المراكب .. الطّائرات.. ناعورات الهواء عن الدّوران.. شيء واحد ظلّ يخفق.. قلب المرأة العاشقة.. يتحدّى المحن ويسعد بحبيب وصل بعد جفاء.. تغلّبت على بقايا ألم.. تدحرجت دمعة حارة.. مدّ يديه.. مدّت يديها.. استندت الى ذراعه تروم الارتماء بين أحضانه.. للحظة لفٌها النّسيان.. للحظة عاودها الحنين.. للحظة أغرتها الحياة ببهجتها.. رفعت إليه عيْنيْن هائمتيْن.. كم ترغب في قبلة تعيد إليها الدّفء والحياة.. كم ترغب في روح تتسرّب الى روحها فتنسيها حزن اللّيالي وقسوة الأيّام.. ابتسمت.. نظرت الى السّماء.. هناك موعد ولقاء..
نعيمة المديوني
Comments