top of page
Search
Writer's pictureasmourajaat2016

سرديّةُ اللاّوعي في "ممرّات سريّة" للشاعرة التونسيّة أمامة الزاير: بقلم ناظم بن ابراهيم

المقال المنشور سنة 2017 في جريدة صوت الشعب

المقال المنشور سنة 2017 في جريدة صوت الشعب

سرديّةُ اللاّوعي في "ممرّات سريّة" للشاعرة التونسيّة أمامة الزاير:

بقلم ناظم بن ابراهيم

رغم طبيعتهِ المتجاوِزة والمنفلتة من عقال أيّ تحديد مُسبَق، قدْ يُعَرّفُ الشعر بأنّهُ "فنُّ السيطرة علـى فقدان السيطرة"، أي القدرة على التحكّم في الانفلات الّذي يفتـرضهُ وفق نسق جماليّ مساوقٍ للحظة التـي يحضرُ فيها. وقد يعود ذلك لما يمكن أن يحكُم الحدث الشعريّ من ملابسات وعمليّات ذهنيّة يتقاطعُ فيها الوعيُ مع ممكنات اللاوعي وقوانينه العميقة المسيّرة لكيفيّات تمثّل العالم والأشياء. غيـرَ أنّ هذا الأمر يظلُّ طبيعيّا وقائم الذّات في أيّ عمل فنـيّ قد تتقاطع داخلَهُ الذاكرة الفرديّة للمبدع وتمثّلاته وهواجسه مع وعي جمعيّ يساهم في إنتاجه تأثيـرا وتأثّرا داخل شكل الكتابة القادر على استيعاب الجماليّات التـي يقترحها حدثُ الشعر نفسه. لكن، ماذا إذا اختار الشاعر الإقامة في اللاّوعي نفسه؟ ماذا إذا قُلبت العمليّة الشعريّة، وأصبح اللاوعـيُ هو موضوع الكتابة لا موجّهها العميق؟ وإلى أيّ مدى يمكنُ المراهنة على هذا الطفل الشقيّ وحدهُ (اللاوعي) في إنتاج اقتـراح شعريّ جديد؟

إنّ مجملَ هذه الأسئلة، لم تتعلّق ونحن نطرحها بمتابعة دقيقة لأطروحات فرُويد أو كتب مدارس التحليل النفسيّ المختلفة، ولا بقراءة كتاب عن دور اللاّوعيْ في تحديد جماليّات الأعمال الفنيّة تصعيدًا ومحايثة وانعكاسًا، بقدر ما كانت مساوقة لقراءة كتاب شعريّ صدر في الأيام القليلة الماضية للشاعرة التونسيّة "أمامة الزاير" بعنوان "ممرّات سريّـة". هذا الكتاب الّذي تلوح منذ عتباته إشارات إلى إقامته في ما هو هامشيّ وما هُوَ سرّيّ. غيـرَ أنّ هذه الهامشيّة نفسها لا تتوسّلُ بالـ"الخارج" كما يمكن أن نجدَ في كثيـر من نصوص الشعرية العربيّة المعاصرة التـي توجّهت نحوَ إنتاج غنائيّة جديدة Un nouveau Lyrisme (على حدّ عبارة الفرنسيّ ميشال كولّو) متأسّسة على تفاصيل اليوميّ والهامشيّ والبسيط، بقدر ما تستندُ إلى "الدّاخلِ" دون تحويلهِ أو تحوير صيغه، لتكتفي بالاستماع إليه. وليسَ هذا الاستماعُ أمرًا بسيطا كما يمكن أن يتخيّلَ البعض مستحضرين صورة أخصائيّ في علم النفس وهو يستمعُ إلى هذيانات محاوره باحثا عن خيوط الربط بينها (فهذا النوعُ من الحوار يتطلّبُ في كلّ الأحوال متكلّميْـن Deux Locuteurs ويظلُّ الأمر داخلا في إطار العلاج النفسيّ). لكن حينما يتعلّقُ الأمر بالإبداع وبالكتابة الشعريّة خاصّة، يتحوّلُ هذا الاستماعُ إلى تمثّلٍ مستمرّ للـحالة اللاواعية التي تعيشها الذّات، وتنتهـي فاعليّة أحد المتكلّميـْن بأن يُصبحَ الآخر (الموضوع) متكلّمًا ومستمعًا فـي الآن ذاته. غيـرَ أنّ هذه العمليّة لا تخضعُ إلى قوانين التكلّم Locution بل تتجاوزُ ذلك نحوَ التلفّظ Enonciation الّذي يكون معه المتلفّظُ "متكلّما صامتا" على حدّ عبارة كاثرين أوركيوني. وفي خضمّ سيطرة "الداخل" على حساب "الخارج" وهيمنة "التلفّظ" على حساب "التكلّمِ"، كانتْ أغلب نصوص "ممرّات سريّة" نصوصا صامتةً، ولا يتوقّفُ هذا الصّمت عندَ حدود الدّلالة الممكنة التي تفترضها مواضيع اشتغالها اللاواعية، بل يتجاوزُ ذلكَ نحوَ التّدلال على متعلّقاته (المتكلّمة) باللغة وفي اللغة ليُصبحَ "ضربُ البندير عادة سريّة" و"تخميـرة بنت العشرين جرحًا غائرًا" (ص26) و"البـردُ أقواسًا داخل أقواس" (ص35). ولتتوسّعَ ممكناتُ هذا التكلّم الصامت داخل محاولات إعادة تسمية الأشياء، تصيرُ الأسماءُ نفسها "ثرثرة بين غريبيْـن" ويصيرُ سؤال "ماذا تعني الأسماء؟" (ص77) أحدَ محاور العمليّة الشعريّة نفسها.

وليسَ هذا الاشتغال على المعنى الّذي يصعبُ إمساكهُ داخل العبث اللغويّ الّذي قد يقترحهُ اللاّوعيُ مجرّدَ إعادة إنتاج للدّلالة في جدوليّة جديدة داخل محور الاستبدال L’axe paradigmatique فحسب، بل هي تُسائلُ التواضعَ Convention نفسَه، أي منطلقَ الحدث اللغويّ وملابساته قبل الشعر وأثناءهُ وبعده. ولمّا كانت هذه الدّلائليّة خاضعة إلى موضوع حفرها (اللاوعي) "السرّي" تشكّلت وفقَ سرديّة عابرة لكلّ الممرّات التي أقامت فيها الشاعرة، والتي تبدأ مع إيهام بالغناء (النصّ الأول المعنون بـ"هارمونيكا") وتنتهـي بـ"ليلة في الرّازي" (مستشفى الأمراض العقليّة) حاشدة في مسارها نحو الجنون "أصابعها المهجورة وعاداتها السّيئة وتداعياتها وهذياناتها وتأتأتها وتوحّدها وفصامها وكوابيسها"، وهي عناوين نصوص من الكتاب لا تخلو من حفرٍ في هذه الممرات السريّة التي حاولت أمامة الزاير مقاربتها في الشعر معطية الحقّ للّاوعي في أن تكون لهُ سرديّتهُ المخصوصة أيضا.

ولئـن تشكّلت هذه السرديّة داخلَ الأنساق الممكنة التـي تقترحها قصيدة النثـر العربيّة المعاصرة وما تتيحهُ من حريّة في إعادة تشكيل المادة الشعريّة وإنتاج دلالتها، فإنّ "ممرّات سريّة" لم يخلُ من مقاطعَ إيقاعيّة (جاءت في أغلبـها على تفعيلة المتدارك) متموْقعة داخل نسق القصائد ونثـريّـتها. ورغم السؤال الممكن حول قيمتها الإيقاعيّة داخل النصوص أو حول الخيار الجماليّ الّذي اختارته الشاعرة لمقاربة مواضيع اشتغالها، فإنّ هذه المقاطع قابلة للتفسيـر من جهة اللاوعي نفسه، أي من جهة الإيقاع الكامنِ داخل الممرّات التي عبرتها وحاورتها. ويتأكّد هذا الأمر حيـن يكون انكسار الإيقاع ملازمًا لصياغة الدّلالة الشعريّة، فـ"للهذيان كسور عروضيّة مفتعلة" (ص60)، وقد ساهم مجمل هذا في تشكيل ملامح ذاتٍ هواميّة قلقة مليئة بالاضطراب والتخيّل.

إنَّ أهميّة الاشتغال على اللاوعي ومحاولة بناء سرديّة مخصوصة لهُ (في كتاب "ممرّات سريّة") لا يتعلّقُ بمجرّد اختيار مواضيع نفسيّة وتطويعها للموضوع الشعريّ، بل هُوَ قائمٌ على نوع من الوعي أساسهُ إقحامُ الشعر في مواضيع جديدة قد تكون بعض الأشكال الفنيّة الأخرى قد تناولتها داخلَ ممكناتها الجماليّة. الأمر الّذي يجعل من كتابة اللاوعي شعريًّا في سياق ما نحن إزاءهُ مشروعًا مفتوحًا يتلقطُ هذياناته الممكنة ويعيد صياغتها بالشعر وفي الشعر. وليسَ أدلّ في "الممرات السريّة" على هذا الانفتاح ممّا نجدهُ في الصفحة 62 :

"للهذيان سياسيّون / وخرائط ومتاحف / للهذيان مواخيره/ وزناته وجباة ضرائبه / للهذيان مخبروه / شرطة سير وقتلة مأجورون / للهذيان أرقامه وحروفه وأحلامه / ونوباته القلبية والعصبيّة / الهذيان عالم آخر لم ندخل دولته بعْدُ."

ناظـم بن ابــراهيم (شاعر وباحث تونسي)

28 views0 comments

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page