يحيا الفيلسوف اليوم في شبه عزلة تفرضها عليه أحوال الاجتماع الإنساني الذي تقيده ذهنية الخضوع لناموس العولمة القاهر. نادرون الشجعان الذين يجرؤون على معاكسة التيار الغالب، فيدافعون عن تصور فكري مختلف يتناولون به حقائق الوجود الإنساني. لذلك يجدر التأمل في سيرة الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632-1677) الذي أفضى به تمرده الفلسفي إلى الانتباذ والإقصاء.
أعجب العجائب في عمارته الفلسفية أنه أتاح للقوة الحدسية أن تفتح له فتوحات إشراقية جليلة، فاستند إلى حسه الباطني الاستدراكي الرقيق حتى يخرج لنا بحقائق هزت الوعي الإنساني هزاً عنيفاً. من هذه الحقائق تماهي الله بالطبيعة أو الطبيعة بالله، وتعريف الإنسان كائن الرغبة الحية الوثابة، وتصور الحرية فعل إدراك يعترف بالضرورات الوجودية اعترافاً رضياً، وتأويل آيات الكتاب، لا سيما في عهده القديم التوراة، تأويلاً يفضي إلى نزع القداسة عن المجال العمومي وفصل الدينيات عن السياسيات في زمن كان يجعل المؤسسة الكنسية الحاكمة بأمر الله في شؤون المدينة الإنسانية.
على مثال معلمه سقراط، كان يجسد شخصية الفيلسوف الذي تنبذه مدينته وبيئته وجماعته، ولكنه أيضاً كان يمثل قوة الاعتراض والانتفاض والثوران والهدم. قبل نيتشه (1844-1900) أكب ينتقد الأنظومات المتافيزيائية والدينية والأخلاقية التي تكبل حرية الإنسان. زعزع بانتقاداته السديدة كل ضروب العقائديات المتصلبة، وصاغ تصوراً في الفلسفة ينطوي على أشد متطلبات السبر والاستقصاء والإحاطة، فأبان أموراً شتى، أولها أن التفكر في كينونة الكائنات يضطر الإنسان إلى استجماع الأنا والعالم والطبيعة والله في رحابة صاهرة متنوعة في انقباضها الاتحادي مضبوطة في انبساطها اللامتناهي، وثانيها أن الحياة الحق تجسدها المعرفة الأرقى مرتبة، وثالثها أن الاتحاد العقلي بالله أو بالطبيعة عنوان الحرية والفضيلة والمسرة. كان من أوائل مؤسسي الدموقراطيا الحديثة والمدافعين عن الحريات الفردية وعن قيم التنوع والاختلاف واستقلال الدولة في تدبير شؤون المدينة الإنسانية، أما أثره الأوضح فتجلى في أعمال روسو الذي يدين له بكثير من آرائه.
الفيلسوف المنبوذ الثائر على منطق الانتماء
ولد سبينوزا في أسرة تنتمي إلى الجماعة اليهودية الإسبانية (الماران) التي اضطرت إلى الارتداد القسري إلى المسيحية، ولكنها واظبت على ممارسة طقوسها في السر. جاره الأقرب كان الرسام الشهير رمبرانت (1606-1669) في حي أمستردام اليهودي، ذلك بأن اليهود كانوا يلجأون إلى أمستردام خوفاً من الاضطهاد، فينعمون بالسلام المدني. غير أنهم كانوا شديدي الحرص على إيمانهم وعقيدتهم، فلم يطيقوا أن ينبري واحد من أبنائهم فيبتدع ويجدد ويجازف في استجلاء وجوه جديدة من الفهم الوجودي. كانت مدن هولندا وجوارها البلجيكي (روتردام، أمستردام، أنفرس، وسواها) تنعت بأرض الحرية يلوذ بها اليهود من جميع الأصقاع، شأنها في ذلك شأن البندقية وهامبورغ وليڤورن، وبعض مدن السلطنة العثمانية كإزمير التركية وتسالونيك اليونانية.
يحمل في اسمه دلالة البركة، إذ إن باروخ تعني بالعبرانية المبارك، على نحو بِنديكتس اللاتينية، وهو الاسم الذي طفق يستخدمه في توقيع منشوراته من بعد أن نبذته وكفرته جماعته اليهودية. درس التلمود على علماء اليهودية، لاسيما الحاخام الآتي من البندقية صموئيل لفي مورتيرا (1596-1660)، وما لبث أن أتقن فن تأويل النصوص الدينية، فطفق يتبحر في المصنفات الفلسفية، لا سيما تلك التي أنشأها الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون (1138-1204). في سن الـ 23 نزل عليه حرم السلطات الدينية كالصاعقة يجرده من جميع حقوقه ويجعله منبوذاً حتى الممات. لم تعرف أسباب الحرم الديني هذا، ولكن أغلب الظن أنه عقاب الذين كانوا يجرؤون على مناهضة تعاليم السنة اليهودية والتقليد اللاهوتي المتواتر.
اضطر إلى الهجرة ومغادرة البيئة اليهودية المحافظة وذلك من بعد أن عاين سقوط شهداء الحرية الفلسفية من أقربائه وأصحابه اليهود. يمم شطر مدينة لايدن الهولندية، وأكب يحصل في جامعتها العريقة العلوم الفلسفية من غير أن يهمل العمل اليدوي الحرفي في قطع الزجاج وشطفه وصقله وتضليعه لكي يسد به عوزه اليومي، وما لبث أن أقام في مدينة لاهاي يدرس الفلسفة ويؤلف في مواضيع شتى جعلت شهرته الإلحادية تتنشر بين الناس، مع أنه كان يكتب باللاتينية التي لم يكن يقرؤها سوى أهل النخبة الثقافية. عمد إلى ترصيع يده بخاتم نقشت عليه عبارتان تدلان على منهجه الفكري: على سبيل الحيطة (cauta) والتكتم تحت أعراض السر (sub rosa).
بعد أن اجتاحت جيوش الملك لوي الـ 14 الفرنسية هولندا واستولى على العرش غيوم (ويليام) الأورنجي (1650-1702)، انتهى زمن الحريات الفكرية وانتشرت بدعة تجريم المفكرين والفلاسفة، إذ وضعت مؤلفات سبينوزا على لائحة المنشورات الكفرية المحرمة. لم يجرؤ حينئذ على نشر كتاب الأخلاق، بل اقتدى بنصائح أصدقائه، ومنهم لودوڤيك ماير الذي عاد فنشر معظم المخطوطات بعد وفاة الفيلسوف الذي ما عمر أكثر من 44 سنة، وكان قد رفض اللجوء إلى قصر أمير مقاطعة البالاتينا الألمانية شارل لوي الأول (1617-1680) لشدة حذره من بطش السلاطين السياسي.
كتب باللاتينية، شأنه شأن معاصريه الفلاسفة والأدباء، فألف ضمة من الكتب الفلسفية أشهرها كتاب "الأخلاق وبحث في اللاهوت والسياسة". غير أن الكتاب الوحيد الذي شهره بعد أن نشره إبان حياته كان "مبادئ فلسفة دكارت". يأثر عنه أصدقاؤه أن كلماته الأخيرة قبل وفاته جاءت في صيغة الاستسلام الإشكالي إلى المشيئة الإلهية ينسب إليها كل أقواله الابتداعية، "خدمت الله مستنيراً بالأنوار التي قذفها في صدري. كان يمكنني أن أخدمه خدمة مختلفة لو كان قد قذف في صدري أنواراً أخرى". ذاع صيته الفلسفي في أروبا فقصده رهط من علماء الزمن ومفكريه، وفي مقدمهم الفيلسوف الألماني لايبنيتس (1646-1716) الذي حيا نبوغه الاستثنائي.
سبيل الحقيقة الحقيقة عينها
يبني سبينوزا عمارته الفلسفية على أساس معرفي يجعل الفكرة تنطوي في أصلها على كامل الحقيقة، من غير الاستعانة بموضوع معرفتها. الفكرة وحدها تحمل الحقيقة بصرف النظر عن الغرض الذي ترتبط به. في مقدم كتاب "الأخلاق" يبين في مقاربة مختلفة أن الفكرة الحق ينبغي أن تتناسب والموضوع الذي تحمله وتنتسب إليه. ليس في هذين القولين أي تناقض، إذ إن نظرية سبينوزا في المعرفة تقوم على عقلانية جذرية مفرطة تعاين انفطار الكائنات كلها على بنية عقلانية لصيقة بها، "إن نظام الأفكار وترابطها هما عينهما نظام الأشياء وترابطها". ينبثق هذا المبدأ من تصوره الذي يقضي أن صفات الجوهر اللامتناهي وكثرة أحواله اللامتناهية التي تفصح عنه إنما تنشئ كتلاً متوازية، بحيث إن كل حال من الأحوال المتناهية في الأشياء يناسب حالاً من الأحوال المتناهية في الفكر، لذلك كانت الفكرة في الوقت عينه الفكرة الحق والتناسب الملائم بين منطق ترابط الأشياء ومنطق ترابط الأفكار.
في أقصى الاعتبارات تضطلع الفكرة الحق بمسؤولية ضمان التناسب بين جميع الأحوال المختلفة التي بواسطتها يعتلن اقتدار الله اللامتناهي واللامحدود.
في عمق الكائنات
خلافاً لدكارت الذي يفترض كثرة من الجواهر القائمة بذاتها، يقول سبينوزا بجوهر واحد يحوي الكل عنيت بها الله، تتحد به اتحاداً وثيقاً ضمة من الصفات تغتني به وتغنيه. يعرف الجوهر بأنه الله أو بالأحرى الطبيعة (Deus sive natura). استقى سبينوزا هذه العبارة من نصوص دكارت في الجزء السادس من كتاب "التأملات". تدل الفكرة على أن الله جوهر وحيد يختزن عدداً لامتناهياً من الصفات، ومنها على وجه الخصوص الفكر والامتداد في الطبيعة، لذلك يعلن سبينوزا أن "قدرة الإنسان، من حيث إننا نعللها بماهيته الراهنة، جزء من القدرة اللامتناهية، أي من ماهية الله أو من ماهية الطبيعة" (سبينوزا، "الأخلاق:). يظن بعضهم أنه استعارها من نصوص موسى بن ميمون. غير أن الصفات ليست آثاراً خارجية تطرأ على الجوهر، بل إنها الجوهر عينه في كيفيات مختلفة. ذلك بأن الجوهر والصفات أمر واحد، بحسب عبارة سبينوزا في كتاب "الأخلاق". الحقيقة أن الصفات هي الجوهر، وقد عاينته أنظار الناس الذين لا يستطيعون أن يدركوا إلا صفتين من صفاته، الامتداد والفكر، مع أن الجوهر يختزن عدداً لا متناهياً من الصفات.
يميز سبينوزا الطبيعة الطابعة (natura naturans) من الطبيعة المطبوعة (natura naturata)، إذ تحتوي الأولى على الجوهر والصفات، في حين أن الثانية تشتمل على كثرة لا متناهية من الأحوال التي هي بمنزلة التحولات التي تصيب الجوهر والتي يستثيرها الله عينه في صميم ذاته، ذلك بأن الأحوال طرق ينتهجها الجوهر في الوجود تدرك تحت أعراض كل صفة من صفاته، فالكائن الإنساني جسد، أي حال من أحوال صفة الامتداد، وروح عاقل، أي حال من أحوال الفكر، ولكنه أيضاً في نظر العقل اللامتناهي أمر آخر يعجز عن تصوره العقل المحدود المتناهي.
يوضح الفيلسوف الفرنسي مارسيال غرو (1891-1976) في الجزء الأول من كتابه "سبينوزا" معنى الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة، ويحيل المفهومين إلى كتابات الفيلسوف والطبيب السكولاستيكي الوسيطي ميشال سكوت (1175-1232)، وعلى نصوص ابن رشد وتوما الأكويني.
حقيقة الأمر أن سبينوزا يستهل فلسفته كلها بفكرة الله معترفاً ببداهة الرحابة الإلهية المنغلة في جميع الكائنات، أما علة ذلك كله فترتبط بمنهجيته القائلة بأن الفكرة الحق لا تحتاج إلى أي سند خارجي لكي يسوغها، بل تستطيع وحدها أن تسوغ جميع الأفكار والمعارف. إنها، لعمري، فكرة الكائن الأكمل التي تنطوي على كمال الحق، ذلك بأن الله يتماهى بالحق، "الله أو ما هو في نظري الأمر عينه على وجه الدقة، عنيت به الحقيقة" (سبينوزا، "بحث موجز في الله"). على غرار هيغل، يجعل سبينوزا الحق في المقام الأشمل الذي يتماهى بالكلية الأرحب حتى إن بسط الأنظومة الكاملة بسطاً هندسياً (more geometrico) يكشف لنا اقتران الأجزاء بالكل الحاضن، ومن ثم فإن فلسفته كلها تقول بكمون الإلهيات في التاريخيات كموناً يجعل الله الكل في الكل، فيكف عن انفصاله المتعالي على العالم، بحيث يتماهى بالطبيعة كلها التي لا يحدها حد ولا تستبقي كائناً واحداً خارج شموليتها المطلقة.
من جراء التناول الفلسفي الجريء هذا يعرض سبينوزا عن اصطلاحات الأديان التوحيدية الثلاثة، فيرفض تصوير الله في هيئة الكائن الشخصي المتعالي المنفصل الذي يخلق العالم من عدم، ويضعه في موضع العابرية والزائلية والقابلية المشرعة على احتمالات السقوط والرفعة، بيد أن تحرير الله من القاموس اللاهوتي لا يفضي إلى اعتماد الحلولية الصريحة التي كان ينادي بها الفيلسوف الألماني المثالي شلينغ (1775-1854) في طور كتاباته الأول، أو شوبنهاور في تصوره وحدة الوجود على الطريقة الهندوسية، ذلك بأن سبينوزا كان يناهض جميع ألوان الإنشاءات الفلسفية السرية الضبابية الغامضة الملتبسة التي يلجأ إليها أهل التصوف وأصحاب لاهوت التنزيه. جل عنايته أن يكشف عن معقولية الكينونة ومعروفية الوجود ومعلومية العالم.
نظرية الخلق ونظرية الفيض
إذا كان اصطلاح الله يدل على الطبيعة اللامتناهية، فإن اسمه الحق هو الجوهر الذي يشير إلى قوام الكائنات وشرطها الأثبت والأرسخ، أما الجوهر فإنه من صلب ذاته واحد وحيد، علة نفسه، يقوم بذاته من غير سند خارجي، ويعي نفسه وعياً مباشراً. إنه ماهية الأشياء في صلب كينونتها. ليس في هذا التصور أي فيض تلقائي يذكرنا بنظرية أفلوطين، بل إقرار بصفات الله اللامتناهية ملتصقة التصاقاً راسخاً بجوهره الصمدي. بفضل حرية الله المطلقة لا يكف الجوهر الإلهي هذا عن الخلق اللامحدود الذي منه تنبثق جميع ضروب الموجودات، شرط أن تظل ملتصقة به من غير أن تخرج منه وتنفصل عنه في عالم دوني، ومن ثم فإن الصفات المنعقدة في الجوهر الإلهي تتمتع بالضرورة الكيانية عينها، إذ تنبثق وتعتلن وتتحقق في سياق انبساط حتمي يجعلها تفصح عن غنى الجوهر إفصاحاً متنوع الدلالات. وحده الإدراك البشري الناقص يعاين التناقض بين الجوهر الإلهي والصفات المعتلنة، ويرتبك بالاحتمال الجائز الذي يتحرى عنه في شأن هذه الصفة أو تلك.
لا بد، والحال هذه، من الاستفسار عن الفوارق اللطيفة التي ينبغي استخراجها بين الجوهر (الطبيعة الطابعة) والصفات (الطبيعة المطبوعة)، وإذا أسقطنا مقولة الخلق ومقولة الفيض، واعتمدنا التلاصق الضروري بين الطرفين، وجدنا أن التمييز الوحيد الممكن قائم بين فكرة الجوهر اللامتناهي بوصفه كلية مطلقة، وفكرة الصفة المتعينة التي تحدد طبيعة الجوهر في كيفية واحدة، كقولنا إن الامتداد في المكان والزمان كيفية من كيفيات الجوهر. ثمة تمييز آخر يجعل الجوهر يتمتع بعلية أو سببية حرة وضرورية في آن واحد، منبثقة من عين ذاته، في حين أن الصفة تنعقد في حركة انبساط الجوهر لا في ذاتها، ومن ثم يدرك المرء التمييز اللطيف الناشط بين الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة.
رأس الكلام أن الله هو الطبيعة، أي الجوهر الوحيد اللامتناهي الذي يملك وحده القدرة على الانوجاد والفعل الذاتي الحر. كل كائن من الكائنات الجامدة والنباتية والحيوانية والإنسانية يفصح إفصاحاً خاصا دقيقاً محدداً فريداً عن جوهر الله ووجوده المطلق، ومن ثم فإن الأحوال التي تختزنها الطبيعة المطبوعة تؤثر في الجوهر على قدر ما يتيح لها الجوهر ذلك، بحيث يعسر علينا أن ندرك كيف أن كل كائن من الكائنات ينتسب في الوقت عينه إلى جميع صفات الله اللامتناهية. المثال على ذلك أن الشجرة شجرة أولاً، ومن ثم فكرة شجرة، وأيضاً شيء آخر يجهله عقلنا المحدود المتناهي. يذهب سبينوزا إلى أن كل كائن ينطوي على فكرة تختزن روحاً يجعل الكائنات كلها تمور في إحيائية كونية معقدة.
أعلى مراتب التعقد في الإحيائية الكونية الكائن الإنساني الذي يفوق الجوامد والنباتات والحيوانات غنى فائضاً وتشابكاً حياً وترابطاً فاعلاً وإدراكاً ناشطاً، أما ما يحرك الكائنات قاطبة فالرغبة المجاهدة (conatus) التي تجعلها تواظب على الوجود والحياة على الرغم من صروف الدهر ومعاكسات الضرورات الحتمية. للمواظبة وجه جمودي يقتصر على صون الكائن في كينونته المكتسبة، ووجه حيوي ناشط يدفع به إلى الاستزادة أو الاستنقاص. وعلاوةً على ذلك، فإن الكائنات يتأثر بعضها ببعض تأثراً يجعلنا إما سعداء إذا جاء التأثر يستنقص من إمكاناتنا، وإما تعساء إذا أتى يستزيد منها. يصاحب السعادة شعور البهجة الكيانية والملذة الوجودية والحب التشاركي، في حين أن التعاسة ترافقها اختبارات الألم والحقد والتشفق. معنى ذلك أن كل فرح ينبثق من الشعور الذي يجعلنا نعي تنامي إمكاناتنا الكيانية والوجودية، في حين أن كل حزن ينجم عن إحساس التضاؤل والتقهقر والاستضعاف.
استثارة الجرأة الفلسفية الإبداعية
ثمة ثلاث صفات تصف عمارة سبينوزا اللاهوتية: الكمونية، والحلولية، والإلحادية. غير أنها كلها لا تنصفه إنصافاً صائباً. قد تكون الشمولانية الصفة الأقرب إلى خصوصية أنظومته الفلسفية. في جميع الأحوال اعتبره الفلاسفة قامة جليلة، فرسم هيغل (1770-1831) أن فلسفته تنعطف بالفكر الإنساني الحديث انعطافاً حاسماً بحيث يصبح الاختيار محصوراً بين أمرين، إما سبينوزا وإما سقوط الفلسفة في العدم. عاين فيه نيتشه رائداً من رواد انتقاد المنطق التعليلي الغائي الاستهدافي الذي يفترض في كل حركة تاريخية مقصداً محجوباً من مقاصد التسامي العليا، أما برغسون فكان يصرح بأن كل فيلسوف رصين مبدع ينطوي فكره على فلسفتين: فلسفة برغسون عينه وفلسفة سبينوزا.
من اللافت أيضاً أن يقرأ جيل دلوز (1925-1995) فلسفة دجون دنس سكوتس (1266-1308) قراءة سبينوزية، فينسب إليه التصميم على معاندة أونطولوجيا توما الأكويني (1225-1274) المستندة إلى التمييز بين الكينونة في الكائنات المخلوقة والكينونة في الكائن الإلهي الأسمى، وصوغ تصور فلسفي حديث طليعي يضع الكينونة والفكر في سياق المحايثة التاريخية أو الكمون الأونطولوجي الذي يجعل الموجودات كلها تنتسب إلى نطاق الكينونة عينها. في إثر القراءة التجديدية هذه، يعلن دلوز أن سبينوزا "أمير الفلاسفة" أجمعين.
اندبندنت عربية
留言