كل ما كتبه الروائي اليماني علي المقري يمكن أن يُدرج في باب القصص المثيرة، فرواياته تبحث عن كل ما يمكث خلف ستارة الإجماع القيمي، ولكن لا أحد يستطيع القول إن شخصياته مخْتَرَعة، او مغْتَرِبة عن حياة بلد مثل اليمن، جمع ذات مرة على ضفتيه حكم الشيوعيين وسلطة القبائل. كاتب مثل المقري يتعمّد إحداث صدمة عند قارئه، وبالأخص القارئ المحافظ، ولا يتورع أن يمضي به بعيداً في الحديث عن المخفي بلغة مكشوفة. لعله يقوم بدور " الملعون" ولكن هذه اللعنة أو اللوثة لا تخفي انحيازها إلى كل من عانى الظلم والتهميش في بلده.
في روايته " طعم أسود .. رائحة سوداء" ، اختار المقري عالماً غرائبياً، أقرب إلى مستعمرة شبه معزولة يسكنها السود الأفارقة الذين قدموا إلى اليمن منذ أزمنة غير محددة، ويطلق عليهم أهل البلد " الأخدام" أي الخدم الذين يعيشون على فتات الموائد ويفتقدون أبسط حقوقهم.
هذه الرواية تثير الكثير من الفضول، مثل روايات المقري الأخرى، فهي تكشف عن أسرار مجتمع يعيش على الفطرة ويكافح العزلة والنبذ بسعادات الجسد وبالتكاتف الفطري. ولكننا إن شئنا أنْ نجد لها خطاباً أبعد من هذا المكان، سنرى ان ما يشغل الكاتب موضوع الفصل الاجتماعي، قانوناً عاماً لا يشمل هؤلاء المساكين وحدهم، بل يكاد يكون القاعدة التي تحدد علاقة القوي بالضعيف، الأكثري بالأقلّي، كما تحدد نوع وطبيعة العمل المُذِل والآخر المحترم. ليس السود الذين جلبوهم كعبيد يعيشون على حواف الحياة كمنبوذين فقط، ولكن المزينيّن " الحلاقين" يحسبون أيضا من الفئات المحتقرة، والاحتقار الذي يكنه الآخرون لهم لا يقتصر على سلوك السادة، بل يشمل الفقراء من أمثالهم، لأن العمل مراتب عند صاحب النسب الصحراوي.
يطرح المقري في رواياته المرأة باعتبارها بؤرة الصراعات التي تدور حولها الأعراف والقيم المجتمعية، ولكنها في مجتمعات لا تعرف المراتبية او الطبقات والمقامات تملك حريتها . وهذه مقولة انثربولوجية يتابعها السارد عبر كشف النقاب عن طريقة العيش في مستعمرة السود المقصية عن عالم المدينة. ومن عالم المهمّشين الآخر ينتقي البطلة "الدغلو" التي تنتسب إلى المزينين، وهي راعية مثل البطل تتورط معه بعلاقة يضطر فيها الاثنان الرحيل عن القرية. وكي نكون على بينّة من أمر هذا التاريخ، علينا معرفة قصة المرأة التي قُتلت رجماً بسبب حملها من البطل عندما كان في أول مراهقته، وكانت أخت الدغلو . تلتحق الدغلو والبطل بأعشاش السود قرب مدينة " تعز"، ومن هذا العالم ينطلق السارد في سرده الكرنفالي .
الكرنفالية التي تحفل بها روايات المقري، وليس فقط روايته هذه، تتحدد في خواص منها شعائريتها، وما تتضمنه من تدنيس وتجديف. وفي الظن أن الواقع في رواية المقري يجري إخضاعه إلى محاكاة ساخرة عبر تلك الكرنفالية التي يجري فيها إظهار الغفلة عن ما تعنيه العلاقة مع قارئ عادي. فن التهكّم الذي يكمن خلف خطاب المقري في روايته، يشتغل في حيز من المضمرات يتقدم فيها الجنس والنجاسة على كل المكونات الأخرى. وسيكون للاثنين هذا الحضور الساطع في هذه الرواية، باعتبارهما الشيفرات التي ترسيم الحدود في المراتبية الاجتماعية. ففكرة القذارة والنبذ ترتبط بالآخر الأقلي أو المختلف جنسيا أو المستبعد جسديا من علاقات سوية مع الأعلى. وعندما يختار البطل مستعمرة السود اضطرارا، يكون كمن يستجيب إلى نداء الفطرة في حياته الأولى عندما كان طفلا وأثارته رائحة النجاسة في جسد امرأة منبوذة .
العودة إلى الطبيعة تتطلب طقساً احتفاليا يجري فيه التعبير عن الحرية الجسدية التي تكمن خلفها مأساة العيش داخل أكواخ تغص بالقذارة والأمراض والجوع. وهكذا تكون طقوس هذه المستعمرة حيث تعبّر الانثى عن رغائبها الفطرية دون مواربة، وتتباهى الجماعة بالقوة الجنسية للفحل والأنثى معا.
وفي المنقلب الثاني يضع المؤلف خطابا سياسياً مضاداً حين يكون الأشخاص الذين يعيشون وسط المشاعية البدائية، ليسوا على مبعدة من التمرد والثورات، بل هناك بينهم من وصل بهم اليأس حده الأقصى، فيفتتح المقري روايته بصوت أحدهم وهو يخطب في محكمة جرّمَته : " كلنا خونة يا حضرة القاضي. الإنسان كائن خائن. لكنه يفقد ذاته وصفته في اللحظة التي يتم فيها إثبات خيانته. عندما يبدأ بممارسة خيانة جديدة يسترجع وجوده وصفته في الحال" . ربّاش العبد المتهم بالخيانة وانتهاك حرمة إحدى الأسر الكريمة، جرّمه القاضي الشرعي قبل عشر سنوات بسبب انتسابه إلى الحزب الاشتراكي، ولكونه أيضا وقع في حب ابنة مخدومه، ولكن الاتفاق بين شطري اليمن أطلق سراحه. اما العبد " سرور" الذي ينتسب إلى " محوى زين" وهي العشش الكارتونية والصفيحية التي تقع فيها أحداث الرواية، فقد كفله في المحكمة ابن الشيخ الذي يعمل عنده كخادم، وعندما يرجع بدون عمل يستكمل مشواره في السخط على أهل تعز . من خلال هذه الشخصية يتعرّف القارئ على الوجه الآخر لسكنة العشش، حيث يكمن خلف اللامبالاة بالحياة والعيش على اللحظة، وعي حاد بمأساتها، هذا الوعي يصل التمرد بالفعل السياسي، أو العدمية المطلقة.
من هذا العالم الغرائبي علينا اكتشاف شخصيتين تستكملان كرنفال الرواية، الأولى: البغي الفاضلة التي كانت تُطعم الجماعة من عملها، ولهذا سميت الأكواخ باسمها " زين" والتي ماتت في الثلاثين، شأنها شأن الكثير من أهل المكان، ولكن بعد ان ركع تحت أقدامها أهل المدينة. والمرأة الأخرى " بهجة"، الناشطة السياسية التي درست وتدرّجت في المرتبة الحزبية أيام الشيوعية في اليمن الجنوبي، وهي تختفي بعد الانهيار بين أناسها المنبوذين وتسجن في النهاية. وبهذا تبلغنا الرواية رسالة تقول إن اليمن الجنوبي السابق وحده كان يقبل هؤلاء كأناس كاملي الأهلية.
في طقس الرواية الكرنفالي تصبح الأغاني شيفرات الرسائل المتبادلة عبر حوار غير منقطع، كما اعتاد المؤلف في رواياته الأخرى، فهو شديد الاهتمام بذاكرة الفولكلور، وهي ذاكرة تجمع الوعي باللاوعي، الشِعار بالمروية. وبخطابه التهكمي، يطرق أبواب التابوات الثلاثة المعروفة، ومن خلالها يحدد الزمان والمكان، حيث تختفي معالم تعزْ المدينة وتظهر بدلها معالم العشوائيات، ولكن الحضور المتبادل بين الاثنتين يُدرك في كلام المقصيّن أو المبعدين وليس السادة، فهم يسمون المدينه وأهلها " أمبو" وهو لفظ أفريقي على ما يبدو، وهكذا تتجذر غربتهم عن عالم المدينة التي يذهبون للعمل فيها ككناسين أو في مهن تسحق كرامتهم. ولكن السارد لا يضع حدوداً لوعي متعلمي تلك العشوائيات وهم قلة اكتسبوا تعليمهم في السجن او عبر الانتساب الى الحزب الاشتراكي، فعالم العبودية شائك، والوعي به يحمل قدراً من التعقيد كما يبرز في وجهة نظر الرواية . سرور الذي خرج من السجن يقول " نحن الأخدام حتى إذا أردنا امتلاك شيء نحاول امتلاك حقنا في العبودية" أصحابه يغنون لسالم ربيع علي وأيامه في اليمن الديمقراطي " سالمين قُدّام قدام / سالمين ما احناش أخدام" ولكن تلك الصحوة القصيرة انتهت بموت الرئيس وانهيار الجنوب. يبحث سرور المتمرد الأكبر بينهم عن حرية مختلفة " لماذا لا نصبح أحراراً بأسمائنا وصفتنا؟ لماذا نتبع هؤلاء الأمبو حتى حين نريد أن نتحرر. أليس من حقنا اختيار شكل حريتنا؟ " إنه يرفض حتى فكرة الوعي : " لا يشرفني أنْ أحمل مثل هذا العقل أو هذا الوعي" . ضربٌ من العدمية التي تجعل فكرة التمرد تتجاوز مفهوم السياسة في تحديد أبعاد ووسائل الوصول إلى المساواة. عند هذا الفاصلة تختم الرواية " وجهة النظر" المحتملة لهذا العالم الذي تزحف إليه الجرافات لتنهي وجوده مطلع الثمانينات.
المقري في هذه الرواية تنقّل بين أصوات مختلفة كي يعرض وجهات النظر، ولكنه على المستوى العام بقي مشدوداً إلى فكرة أو مقولة تنبثق منها الشخصيات والفعل الدرامي والأماكن والأزمنة. ومع أن الموضوع يحمل شحنة عالية من الميلودراما، غير ان السارد استطاع النجاة منها، بأن حولها إلى طقس احتفالي، فمادته تتعدى العاطفة، وربما تناوش مفاهيم العبودية ككل، عبودية الجسد، عبودية المال، عبودية التقاليد، وبينها يظهر مقصدها الأول، عبودية اللغة.
Comments