top of page
Search
Writer's pictureasmourajaat2016

رمضان كريم نص للشاعرة والأديبة التونسية نعيمة المديوني



نعيش شهر رمضان الكريم.. شهر الصّوم والصّبر..شهر التّسامح والتآزر..شهر التّوبة النّصوح ومحاسبة الذّات.. إلّا أنّ هذا الشّهر الفضيل على وشك السّفر والتّرحيب.. على وشك لملمة دثاره والعودة إلى دياره.. ياترى بما سيعود وكيف سيعود؟ أ سيعود مثقّلا بالهدايا؟ متزوّدا بعذب الأمال؟ أم سيعود والخيْبة رفيقه.. ترهقه الأحزان ويشقّ منامه الإحباط؟ في ما مضى يهلّ علينا سيدي رمضان كيف ماكانت تسميه أمي وخالاتي وجدّتي.. يهلّ بالبركة وتفوح رائحته قبل شهريْن من تشريفه.. وأنا صغيرة كان بابا الله يرحمو يخرج مع أميّ يمشيو لباب بحر.. كانت أمي تلبس السّفساري التونسي.. الحرير اللي يشريهولها بابا من نهج القصبة.. يسترها ويزيدها حشمة على حشمة.. بابا الله يرحمو م الرجال اللي يغيرو برشة على نساهم.. يقلها ياحاجّة هبّط السّفساري على وجهك.. ما نحبش الذّبان ذكر يخزرلك.. خلّي كان عينيك.. لا لا موش لازم أنا عينيك اللّي ترا بيهم الدّنيا.. وما كانش بابا يبالغ في كلامو.. كان بالفعل كل شيء في حياة أمي.. كان بوها وخوها وزوجها وحبيبها.. كان سرّها وبهجتها.. كان عرضها وشرفها.. والحقيقة كانت أمي مرا طيبة.. تسمع كلام راجلها وما تلويش العصا في يدّو.. اللّي يطلبو منها تعملو بصدر رحب وبقلب صافي.. المهم اللّه يرحم بابا ويطول في عمر أمي.. كان يقعد يدور ويدور وما يوّقف كرهبتو كان أمام المغازة العامة مقابل الكنسية.. قبل ما يفتح باب كرهبتو يلقي نظرة تفحصّية على المكان .. كان لقى راجل متعدّي يقلها ماتهبطش حتى نقلك.. كيف يفرغ الشّارع م الرّجال يقلها هيّا أهبط فيسع.. ويجري بيها لداخل المغازة.. هيا ياحاجّة.. اختار طاقم الأكل اللّي يعجبك.. كيف العادة كل سيدي رمضان نشريلك ماعون جديد.. وتقعد أمي تختار وما ترجع للدّار كان فرحانة.. سرفيس ماكلة للكوجينة وشوية حاجات تدخل بيهم لبيت نومها ما كنتش نعرفهم وأنا صغيرة.. في هاك الزّمان غرفة النّوم مكان سحري مقدّس بالنسبة إليّ ولإخوتي..لا نلجه ولا ندرك سرّه.. الباب مغلق ليلا نهارا.. ياحسرة على هاك الزّمان.. لها العَمُر ما نعرفش لون بيت نوم بابا وأمي وقت اللي كنّا صغار.. ما دخلت لغرفتهم كان وقت اللي نقلنا من باردو وجينا هوني.. وقتها زال الغموض وعرفت اللي بيتهم موضع سرهم كانت مزيانة كيف قلوبهم.. الله يرحم هاك الزّمان. ليلة سيدي رمضان تبخّر جدّتي الله يرحمها الدّار.. تفوح فيه ريحة الوشق والدّاد.. يحل بابا التلفزة.. ترتيل قرآن ومدائح وأذكار وضحك واستبشار.. كنت أنا واخوتي نتحلّقو بجدتي تحكيلنا حكايات السّلطان والسّلطانة والوزير المتحيّل.. وكان ما يهمنّي في ها الحكاية الشعبية إلّا النهاية السعيدة.. كيفاش نهار العيد السلطانة تغادر القصر مع السّلطان.. يعيّدو على الرعيّة ويقدمولهم الهدايا والقطع الذهبية.. نرقد نستنّى في نهاية الشّهر الفضيل وفي نهار العيد باش نلقى بابا وعمّي خبّاو بجناب فرشي الهدايا الثمينة.. بابا يشريلنا الملابس والأحذية وعمي الله يرحمو يشري لكل واحد منّا السّاعة اليدوية والنّظارة الشمسية والحقيبة الجلدية يعمرها بدينار وبمحرمة مزيانة مصوّر عليها بنية صغيرة تجري وراء الفراشات والأطيار.. هئ للبنات اما بالنسبة لأخوتي الأولاد يستبدل عمّي الحقيبة الجلدية بمنظار سحري فيه صور مكّة المكرمة أو مشاهد لشريط سنيمائي للأطفال .. بعد الفطور يهزنا للمناج في شارع محمد الخامس.. الدّينار كان ورقة مالية.. عندو قيمتو.. يتعدّى سيدي رمضان في أحلى صورة.. نستمتع بمسلسل أمي تراكي ناس ملاح..بالحاج كلوف وبالمقرئ الشيخ عبدالباسط عبد الصمد.. تفوح في أرجاء البيت وعلى امتداد شهر الصّيام روائح لذيذة.. أكلات تونسية شهية وصحيّة.. جدّتي تعدّ الطّاجين والسّلاطة المشوية على الكانون م الصّباح وأمي تعدّ الشّربة والبريك وحاجة أخرى يحبها بابا على الڨاز.. بابا قبل ما يخرج للخدمة يوصّي أمي.."اليوم شاهي ڨناوية" .. أحتجّ وأقول.. "أكره القناوية.. أحب ........."تقاطعني أمّي وتقول "بوك يحبها.. آكل واسكت" أنقم على أمي المسالمة.. المطيعة.. أنا بنية نعشق بابا ونرى فيه أحسن أب في الدّنيا.. أما ما نحبّش أمي تقول.." باهي ياحاج.. باهي.... " وفي قلبي ديما سؤال يكبر معايا وينمو معه فضولي.. علاش أمي ما تقولش لبابا "لا .. الأولاد يحبّوا ياكلوا كذا وكذا" نحب نعرف ردّة فعل بابا.. لكن أمي بطيبتها وحبّها لأبي لم تمتّعني بمعرفة الجواب.. كبرت وكبر معايا حبّي لبابا ولأمي ولإخواتي وللجيران وللأهل وللأصدقاء.. وورثت على بابا الله يرحمو اقتناء سرفيس ماكلة كل ما يقرب سيدي رمضان.. حاجة وحدة ما ورثتهاش هي حبّي للڨناوية.. حتّى البخور كنت في رمضان حريصة على تعطير منزلي به ليلة كل جمعة طوال الشّهر الكريم.. كبرت.. وأطلّ علينا عام 2020.. وأطلّت معه الكورونا.. وحجرتنا في بيوتنا.. ألبستنا الأقنعة أضاعت صفاء نظراتنا وغيّرت تفاؤلنا بتشاؤم وبهجتنا بأزمة خانقة.. عزلتنا عن أحبابنا.. حرمتنا من متعة العمل والنّشاط.. أجبرتنا على اعتزال الأهل والأصحاب.. ملعونة هذه الكورونا.. أفقدتني عاداتي القديمة.. أرهقت فكري وأشلّت ذهني.. ها نحن نستعدّ لمفارقة هذا الشّهر المُبارك.. لا زيارات عائلية ولا لمّة أسريّة.. لا سهرات رمضانية.. أغلقت المقاهي.. شلّت الأنشطة الرّياضية والثّقافية.. لا ندوات فكريّة ولا أشعار.. إشتاقت نفسي الى ليالي السّمر الى البوزا.. الى الزلابية الباجية ووذنين القاضي م المدينة العربي.. اشتاقت الى عصيدة الزڨوڨو ليلة 27.. الى الغريّبة والمقروض اللي نعملوه في الدّار.. الى صينية البقلاوة اللّي تعملها أمي كل عام.. الى عصا ورقة البقلاوة اللي تستعملها أمي على طول العام.. اللي يغضّبها تقللو "تِرْكَح وللا نجبد عصا البقلاوة" كنّا نهاب هذا العود الرّقيق للسَعاته الموجعة.. اشتقنا لمقهى الرّباط.. لرائحة القهوة الشذيّة والتّاي الأخضر بالنّعناع.. لرائحة النرجيلية.. لرائحة المسك والعنبر تفوح في أنهج المدينة العتيقة. سيدي رمضان هذا العام.. فقد الدّفء.. فقد نكهته.. فقد سحره وعطره.. انقطع الأحباب عن التّزاور.. انعزل الكلّ وانشغل عن الكلّ قابعا وراء حاسوبه يتابع آخر المستجدّات العالميّة.. وإن صادف ورنّ هاتفك المحمول فأوّل ما تسمع.."آش عاملة فيكم الكورونا؟" أصبحت الكورونا غولا ندفن في جرابه خيباتنا وأحزاننا.. متى تنقشع هذه الغمّة وتعود إلى الأفئدة البهجة والفرحة؟ متى ندرك أنّنا بدون ماض لا حاضر لنا وأنّنا بدون جذور لا امتداد لنا؟ متى ندرك أنّ الأسرة هي النّواة الأولى لأحلامنا؟ متى يعود لسيدي رمضان نكهته وسحره؟


نعيمة المديوني

16 views0 comments

Kommentare

Mit 0 von 5 Sternen bewertet.
Noch keine Ratings

Rating hinzufügen
bottom of page