top of page
Search
Writer's pictureasmourajaat2016

رضا ديكي عازف الهارمونيكا الساخر الذي خرج عن الإطار *بقلم: أمامة الزاير


رضا ديكي عازف الهارمونيكا الساخر

الذي خرج عن الإطار

بقلم: أمامة الزاير

للفن في أحايين كثيرة مذاق الحنظل وهو يرتكب جمالياته وفعله القائم على هتك ما يروّج له اليوميّ من لطافة زائفة وإنسانيّة خرقاء تتجمّل بالبودرة البيضاء. لم يكن الواقع ملائكيا ولا شيطانيا ولا حتى إنسانيّا. كان أشبه ببؤرة جحيميّة تتواطأ ضدّنا، وتبدو لوهلة بتدرّجها اللونيّ كقوس قزح أو كمدينة ألعاب أو ملاه مضاءة وصاخبة. ولم يكن دور الفنّ وهو يسطّر خطواته في اتجاه انحيازه إلى جماليات ما، أن يلمّع صورة هذا الواقع، بل كان صرخة ضدّه ورفضا للانصياع لبداهاته.

لم يكن الفنّ الحقّ صالون تجميل، بل كان تلك الرعشة في منتصف الطريق نحو المعنى، وهو "مباغتة للفهم دون استئذان"، وتلميح إلى كل هذه القسوة والعجرفة، وإيماءة ساخرة لما يحدث خارجه أو حتى داخله، وإرباك عاصف لما نسلّم به ونعتقد في جدواه وفي أنّه تلك الحقيقة المطلقة التي لا تقبل نقاشا أو جدلا وإنما نحن نؤمن بها كأنّما هي قدّاس إلاهيّ.

وقد اختلفت الأشكال الفنيّة في طرائق التهكّم على واقع أصحابها وتعدّدت أنماطها من مسرح وأدب وسينما وموسيقى وكاريكاتير...

وكان أدبنا العربيّ حافلا بسخرية الجاحظ والمعرّي مرورا بجماعة تحت السّور وصولا إلى شعراء حركة الطليعة مثل حبيب الزنّاد والطاهر الهمامي وغيرهم.. كما لا ننسى ما كتبه عمّار منصور وحربوشة محمّد قلبي...

وعرفنا مسرحا لاذعا رغم اختلاف مدارسه ومرجعياته. وشهدنا تحوّلات عميقة في فنّ الكاريكاتير وظهرت أسماء كثيرة في هذا المجال مثل مصطفى المرشاوي والحبيب بوحوّال وتوفيق عمران وغيرهم..

وكان رضا ديكي ديكي من بين الفنّانين الذين تركوا أثرا واضحا في ذائقة التونسيين من خلال ما قدّمه من أعمال فنيّة مختلفة عن السائد الفنيّ، أعمال في الأغنية وفي فنّ الكاريكاتير، قامت على المفارقة والنّقد الحارق للواقع السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ، محاولا "استفزاز العقول وإيقاظها"، فاضحا بشاعة اليوميّ المترهّل بأسلوب موجع لاذع.

رضا ديكي ديكي الذي توفي يوم 22 نوفمبر 2019 بعد صراع طويل مع المرض، رحل وهو يعلم جيّدا أننا نعيش زمن الردّة والكراهية والحقد، غادرنا مهرولا في اتجاه مكان أكثر دفئا وهدوءا معلنا كغيره من العظماء أنّ "الحياة هي في مكان آخر".

هو فنّان عاش مهمّشا وفقيرا، واكتفى بفنّه بعيدا عن الأضواء وعن المؤسسات الرّسمية التابعة للدولة.

رضا بالحاج خليفة الذي أطلقت عليه كنية رضا ديكي ديكي بعد أن غنّى أغنيته "ديكي ديكي أنت صديقي" التي حفظتها أجيال كثيرة، لامست أغنياته كل الطبقات في المجتمع التونسيّ منذ سبعينات القرن الماضي.

عازف الهارمونيكا الساخر لم يكن كلاسيكيّا في أدائه وفيما أنجزه من أعمال، بل نجده يقدّم نمطا إيقاعيّا ينتقل فيه بسلاسة من موسيقى الشرق ومقاماتها إلى إيقاعات الغرب، مزاوجا بينهما إيقاعا وكلمة وأداء بأسلوب طريف مستعينا بأدوات فنيّة متنوّعة ليقدّم لنا إيقاعه الخاص الذي ينطق هواجسه وإرهصات مجتمعه بحسّ نقديّ متهكّم وصوت مغاير للمألوف.

كان رضا ديكي ديكي ملتزما بالتجريب الفنيّ من جهة، فيحملنا قسرا إلى عوالم غريبة عنّا انتصارا للفنيّ المحض.

وكان من جهة أخرى، واعيا تمام الوعي بالتناقضات الرهيبة التي تكسر ظهر مجتمعنا وتحبس أنفاسه وتقوده إلى الظلام. فكانت كلمات أغنياته قائمة على المحاكاة الساخرة / الباروديا، هازئة ساخرة من ذلك العاديّ الذي يغلّفه الواقع بأشرطة حمراء ويحصّنه ضدّ الشكّ والسؤال، ويوهم بقداسته.

فإذا رضا ديكي ديكي يحفر فيه ويخرجه لنا كما هو في شكل دعابة نضحك لوقعها ثمّ تدمع أعيننا في نفس اللحظة.

ممازحة الواقع والجرأة عليه وعلى بذاءته، تؤكّد إيمان هذا الفنّان بأهميّة الفنّ الذي لا يمكن تحويله إلى شمّاعة لتعليق الأثواب البرّاقة والمعاطف الفاخرة

وأنّه ليس ماركة من ماركات التجّار، وإنّما هو ما يخز القلب ويحفّز العقل للتفكير بجديّة فيما يحدث حولنا، هو بالضرورة ما يدفعنا إلى السؤال والإلحاح على قرع النواقيس في مجتمعات ساكنة خاضعة لما يخطّه لها السياسيّ والديني.

"أنا عندي رونديفو مع الربيع"، "حكاية الجمل الهلالي"، "أنا نغنّي على الحبّ"، "اسكني يا جراح".. وغيرها من أغاني رضا ديكي ديكي التي لم تكن تهويمات بلا معنى وإنّما كانت خطّا نضاليّا لفنّان اختار بملء إرادته أن يحرّك الإطار قليلا، وأن يخرج عن القوالب الجاهزة.

هو عازف الهارمونيكا الساخر الذي لم تستعبده الخطوط المرسومة سلفا ولم يتحرّك في دوائرها. وإنّما كان الفنّان الحرّ بحق المارق عن القانون والذي خرج رغم أنف الواقع من الإطار.

مقال صدر في جريدة الشعب 2020

41 views0 comments

Comentários

Avaliado com 0 de 5 estrelas.
Ainda sem avaliações

Adicione uma avaliação
bottom of page