top of page
Search
Writer's pictureasmourajaat2016

'منقول لكم: رجال في الذاكرة 'ابن أبي زيد القيرواني



ابن أبي زيد القيرواني

[310 - 386هـ / 922 - 923م - 996م]

عبد اللّه بن أبي زيد عبد الرحمان النفزي القيرواني أبو محمد. ولد بمدينة القيروان سنة 310هـ / 922 - 923م على الراجح. ويستبعد ما ذهب إليه بعض مترجميه من أنه ولد بنفزاوة، وأن ولادته كانت سنة 313هـ أو سنة 316هـ، لاجماع أغلب المترجمين على ولادته بالقيروان، ولأن فيهم من ذكر أن تأليفه ل"الرسالة الفقهية" كان سنة 327هـ وعمره إذاك سبع عشرة سنة.وكانت نشأته ودراسته بالقيروان، وهي في عصره وارثة تراث العلوم الشرعية، تحتضن كثيرا من أعلام المذهب المالكي، وتخضع لسلطان العبيديين، ثم لسلطان بني زيري الصنهاجيين الذين بدأ حكمهم عندما انتقل أبو تميم المعز إلى مصر سنة 362هـ / 973م، واستخلف بلكين يوسف بن زيري بن مناد الصنهاجي. تلقّى ابن أبي زيد العلم بجامع عقبة بن نافع وبغيره من الأماكن كالبيوت الخاصّة حيث يُلقي شيوخ القيروان دروسهم في مختلف فنون العلم، وكان من أشهر شيوخه:

· أبو الفضل العباس بن عيسى الممّسي (نسبة إلى قرية ممس بافريقية) وهو فقيه فاضل يجيد الجدل والمناظرة (ت 333هـ / 945م).

· أبو سليمان ربيع بن عطاء اللّه بن نوفل القطان، من الفقهاء النساك، متبحر في علوم القرآن والحديث.

· أبو بكر محمد بن محمد بن اللباد القيرواني، وهو حافظ جمّاع للكتب مع حظّ وافر من الفقه وكان ابن أبي زيد ملازما له مختصا به.

· أبو العرب محمّد بن أحمد التّميمي القيرواني المؤرخ الشهير وهو ثقة صالح عالم بتراجم الرجال.

· حبيب مولى أبي سليمان بن الربيع، وهو فقيه عابد يميل إلى الحجة.

· أبو ميمونة دراس بن إسماعيل الجروي، عالم فاس وناشر المذهب المالكي بالمغرب الأقصى وقد نزل بالقيروان عند أبي زيد فاستفاد منه، وروى عنه كتاب "الموازية".

· أبو محمد عبد اللّه بن محمد بن مسرور التجيبي المعروف بابن الحجام القيرواني، وهو محدث فقيه جمّاع للكتب مصنّف في أنواع العلوم.

وسمع ابن أبي زيد من كثير من الرواة أمثال:الحسن بن نصر السوسي، وعثمان بن سعيد الغرابلي، وحبيب بن أبي حبيب الجزري. ولابن أبي زيد رحلة مشرقيّة، أدّى فيها فريضة الحج، وسمع فيها من بعض الأعلام، مثل ابن الأعرابي وإبراهيم بن محمد بن المنذر وأبي علي بن أبي هلال وأحمد بن إبراهيم ابن حماد القاضي. وكانت له عناية بالرّواية والاسناد، وقدأجازه بعض مشاهير عصره في مراكز علمية مختلفة، منهم أبو إسحاق محمد بن شعبان المالكي المصري، وأبو بكر محمد بن عبد اللّه الأبهري المالكي العراقي وأبو زيد المروزي وأبو سعيد بن الأعرابي. وأسانيده عالية في ما رواه من الأحاديث ومن الكتب الفقهية التي تعد من أمّهات المذهب وقد اعتمدها في كتابه "النوادر والزيادات" الذي ذكر في مقدّمته سنده إلى مؤلّفيها. فالمستخرجة حدّثه بها أبو بكر بن محمّد عن يحيى بن عبد العزيز عن محمد بن أحمد العتبي. والمجموعة حدّثه بها حبيب بن الربيع عن محمّد بن بسطام عن محمد بن عبدوس. والموازية حدّثه بها دراس بن إسماعيل عن علي بن عبد اللّه بن أبي مطر عن محمد بن المواز. والواضحة رواها عن عبد اللّه بن مسرور عن يوسف بن يحيى المعالي عن عبد الملك بن حبيب. وكتاب محمّد بن سحنون سنده فيه عن محمّد بن موسى عن أبيه عن ابن سحنون.

وكانت الكتابة إحدى وسائل اتّصاله بالمشيخة، فقد كاتبه بكر بن العلاء وأبو بكر الأبهري وابن الفرضي بمسائل ضمّنها كتابه "النوادر والزيادات"، وكان كلّما نزلت به نازلة مشكلة كتب بها إلى شيخه أبي العباس عبد اللّه الأبياني، فبينها له مكاتبة، كما كتب إلى القاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني عالم العراق يستفسره في قضية الكرامات، فأجابه بتأليف خاصّ في هذا الموضوع. والدّاعي إلى هذا الاستفسار أنّ بعضهم نسب إليه نفي كرامات الأولياء، عندما ألّف في الانكار على رجل يدّعي خوارق ويقول أشياء تنفّر منها العقول. وقد تأوّل الباقلاني كلام ابن أبي زيد، وقال في صدر التأليف الذي ردّ به على الاستفسار: شيخنا أبو محمد رضي اللّه عنه متّسع العلم في الفروع مطّلع على جمل من الأصول، لا ينكر كرامات الأولياء ولا يذهب مذهب المعتزلة.

وكان علماء المغرب والأندلس عندما يرحلون إلى الحرمين للحجّ والزيارة يتوقّفون بالقيروان لمذاكرة علمائها وتبادل الاجازة والحوار في بعض المسائل الفقهيّة. وممّن لقي منهمعبد اللّه بن أبي زيد سمع منه وذاكره وناظره في مسائل علمية:

· القاضي أبو محمد عبد اللّه بن إبراهيم الأصيلي المحدّث وكانت حجته سنة 353هـ / 965م وفيها أخذ عن أعلام القيروان والمشرق.

· أبو عبد اللّه محمّد بن أحمد بن العطّار الأندلسي الفقيه المشهور وكانت رحلته سنة 383هـ / 995م.

· أبو الوليد عبد اللّه بن محمد بن يوسف بن نصر الأزدي المعروف بابن الفرضي المؤرّخ الحافظ الأديب قاضي بلنسية، وكانت رحلته سنة 322هـ / 935م.

· أبو المطرّف عبد الرّحمان بن هارون الأنصاري القرطبي المعروف بالقنازعي (413هـ/ 1023م) الفقيه الراوية. أجازه ابن أبي زيد عندما لقيه في رحلة حجه.

· أبو محمّد عبد اللّه بن يوسف بن طلحة بن عمرون الوهراني، عالم بالحساب والطب، واسع الرواية عن أبي محمد بن أبي زيد ونظرائه. دخل الأندلس سنة 429هـ / 1038م وسكن إشبيلية وعمره إذ ذاك يقارب ثمانين سنة.

بفضل المناخ العلمي القيرواني والرّحلة المشرقيّة لابن أبي زيد والصّلات العلمية والمذاكرات، اجتمعت له ثروة زاخرة من النقول والمأثورات، ومُهّد بفضلها سبيل الاجتهاد الفقهي والنّظر العقلي، وبلغ رتبة علمية سامية قبل أن يتجاوز العقد الثاني من عمره ثم زكت ملكته الفقهية، ممّا هيأ له أن يؤدّي أكبر الخدمات لمذهبه المالكي. وقد كان يتمتّع بحظوة لدى الشيوخ، فقد كان الشيخ أبو إسحاق السّبائي يتيح له أن يتذاكر بمحضره مع الطلبة والعلماء الذين كانوا يرجعون إليه في ما أشكل عليهم من المسائل العويصة. وكان شيخه أبو محمد عبد اللّه بن مسرور التجيبي سالف الذّكر أهداه ثلث ما بخزائنه من الكتب الوفيرة، عندما مرض وخشي استيلاء السّلطان الشيعي عليها. وممّا يدلّ أيضا على مكانته العلميّة لدى شيوخه ما حلاه به أستاذه أبو العباس الأبياني، فقد قال عنه بعد أن اجتمع به وجاوره: (رأيت شابّا عاقلا كاملا فاضلا). وقد توالت شهادات معاصريه ومن بعدهم، تمجّد خصاله وتبرز جوانب نبوغه.

قال أبو الحسن القابسي عنه: (كان أبو محمّد إماما مؤيّدا موثوقا به في درايته وروايته).

وقال القاضي عياض: (كان أبو محمّد بن أبي زيد من أهل الصلاح والورع والفضل).

وقال الداودي: (كان سريع الانقياد إلى الحقّ).

وقال ابن تغري بردي: (كان واسع العلم كثير الحفظ ذا صلاح وعفّة وورع).

وقال عبد اللّه اليافعي: (الإمام الكبير الشهير شيخ المغرب، إليه انتهت رئاسة المذهب).

وقال الشيخ الدّباغ: (كان متفنّنا في علوم كثيرة، منها علوم القراءات وتفسير القرآن وحديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ومعرفة رجاله وأسانيده وغريبه، والفقه البارع، وآثار العلماء وكتب الرقائق والمواعظ والآداب).

وممّا اشتهر به عبد اللّه بن أبي زيد القيرواني، الجود والكرم، وكثرة البذل للفقراء والغرباء والطلبة، وإعانة المحتاجين، والمساعدة على الزّواج. من ذلك أنّه أرسل إلى القاضي عبد الوهاب ألف دينار عندما بلغه إقلاله، وأنّه أرسل إلى الفقيه أبي القاسم بن شبلون خمسين دينارا عندما أصيب بمرض، وأنه جهّز ابنة الشيخ أبي الحسن القابسي بأربعمائة دينار، وعندما ولدت للشّيخ محرز بن خلف ابنة خصّص لها ابن أبي زيد مقدارا ماليا وجعله لدى من يتاجر به، وعندما تهيّأت للزواج أرسل لها ما أثمرت هذه التجارة، وهو مقدار خمسين ألف دينار.

أمّا أثر في خدمة المذهب المالكي ودعمه فهو يتجلّى في مجالات عدّة، كالتدريس والمذاكرة والتأليف والاجتهاد والفتوى، وقد أهّله لخوض هذه المجالات زاده الوافر من المعرفة الشرعية والثّقافة الإسلامية، وسعة اطلاعه على الآثار والروايات المتعلقة بالفروع المالكية، والنّقول عن إمام المذهب وأصحابه.

ويضاف إلى ذلك فصاحة لسانه، وبارع أسلوبه، وحسن بيانه، وغزارة حفظه. اشتهرت في القيروان مجالس دروسه، وكانت تفتتح بأسئلة متعلّقة بمسائل دقيقة عويصة يشجّع طلبته على إلقائها تارة، ويصوغ هو نفسه ما يتوقّع منها تارة أخرى، ثم يجيب بما يشفي الغليل ويقنع العقول. وكان الاقبال على هذه المجالس ملحوظا، فبالإضافة إلى طلبةالقيروان وإفريقية كانت الرحلة تشدّ إليها من أقطار مختلفة، فمن طلبته الإفريقيين:

· أبو عمر أحمد بن محمّد بن سعيد المهدوي دفين المنستير (كان حيا سنة 410هـ / 1020م)

· أبو بكر عتيق بن خلف التجيبي (422 أو 423هـ / 1032 1033م)

· أبو عبد اللّه محمّد بن العباس الأنصاري الخواص (ت 426هـ / 1036م)

· أبو بكر أحمد بن عبد الرحمان الخولاني القيرواني (ت 432هـ / 1041م)

· أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي القيرواني نزيل قرطبة (ت 437هـ / 1046م) - أبو القاسم عبد الرحمان بن محمد اللّبيدي الحضرمي القيرواني (ت 440هـ / 1049م) - أبو سعيد خلف بن أبي القاسم البرادعي الأزدي (لا يعرف تاريخ وفاته) - الأجدابيان الأخوان أبو عبد اللّه الحسين بن أبي العبّاس، وأبو محمد.

ومن طلبته الصقلّيين:

· القاضي أبو الحسن أحمد بن عبد الرحمان ابن الحصائري، الفقيه الراوية.

· أبو بكر بن عباس، فقيه صقلّية ومدرسها.

وتفقّه عليه جلّة من أهل المغرب والأندلس.

فمن سبتة: أبو عبد الرحمان عبد الرحيم بن أحمد بن العجوز الكتامي (ت 413هـ / 1023م) وعبد اللّه بن غالب بن تمام الهمذاني (ت 434هـ / 1043م) وقد رحلا للأخذ عنه حوالي سنة 380هـ / 991م، ولازم ابن العجوز شيخه هذا زهاء خمسة أعوام، وسمع منه كتبه. ومن السبتيين أيضا خلف بن ناصر.

ومن فاس: قاضيها عبد اللّه بن محمد بن محسود الهواري (ت 401هـ / 1011م والفقيه أبو مروان عبد الملك الكوري (ت 407هـ / 1007م).

ومن سجلماسة: إمامها أبو علي بن أمد قنو.

ومن بلاد المصامدة: داود بن يملو الصنهاجي ويحيى بن ويديفاوا الصادي، ويعلى بن يصلين، وتونارت بن تيزي ومحمد بن طاوس وغيرهم.

وقد كان ابن أبي زيد يحرّض تلاميذه المصامدة على جهاد برغواطة.

ومن الأندلس: أبو بكر محمد بن موهب القبري القرطبي اختصّ بابن أبي زيد وشرح رسالته، وهو جد أبي الوليد الباجي للأم، وأبو عبد اللّه محمّد بن يحيى بن الحذاء التميمي المحدث (ت حوالي 410هـ / 1020م) وخلف بن أحمد بن خلف الرهوني الطليطلي الفقيه (بعد 420هـ / 1030م) وأبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه بن سعيد بن عابد المعافري القرطبي (ت 439هـ / 1048م) رحل إلى ابن أبي زيد سنة 381هـ / 992م وسمع منه الرسالة وغيرها من المؤلفات. وكان طلبته يحرصون على سماع مؤلفاته وحملها عنه رواية وإجازة.

وكان الكثير من طلبة العلم يراسلونه مستدعين للاجازة، فيكتب إليهم ويجيزهم، مثل أبي عبد اللّه محمد بن أحمد بن مجاهد الطائي البغدادي، الامام الفقيه وتاريخ الاستدعاء سنة 368هـ / 979م، وأبي الفضل بن عمروس البزار البغدادي (ت 452هـ / 1061م)، والقاضي أبي الوليد يونس بن مغيث المعروف بابن الصفار القرطبي (ت 429هـ / 1038م)، وأبي شاكر عبد الواحد بن محمد بن موهب القبري القرطبي (ت 456هـ / 1065م) كتب إليه ابن أبي زيد بإجازة روايته وتآليفه.

ولابن أبي زيد حرص على دعم الصّلة بتلاميذه بعد أخذهم عنه، فهو يفتيهم فيما يسألون عنه، ويكتب إليهم، وقد ذكر القاضي عياض من بين مؤلفاته "رسالة إلى أهل سجلماسة في تلاوة القرآن". وكان لمؤلّفاته انتشار واسع في أقطار المغرب والأندلس، وهي في أغلبها مصنفات فقهية تخدم المذهب المالكي وتفصّل أحكامه وتعرض آراء رجاله، ومواقف إمامه من مختلف القضايا المستجدّة، وتأويله للنّصوص، وأصوله المعتمدة في الاستنباط.

وتناولت بعض مصنفاته أصول الدين والقرآن الكريم والزّهد والرّقائق والردّ على المبتدعين. ومن مصنّفاته الفقهية ما تناولت الأبواب المعهودة في العبادات والمعاملات كلّها، ومنها ما اهتمّ بموضوعات معينة يبحثها بتعمّق ويعرض أحكامها ويبدي اجتهاده في مسائلها، وكثيرا ما يكون الداعي إلى هذا الصّنف من المؤلفات الاستجابة لواقعة حدثت، ومعالجة ما استدعى البيان من الأحداث المعاصرة.

وكان المعوّل في المجال الفقهي في المراكز المالكية على ثلاثة من الكتب حظيت باهتمام الدّارسين وهي:

· النوادر والزيادات على ما في المدوّنة من غيرها من الأمّهات.

· مختصر المدوّنة الكبرى للإمام سحنون.

· الرّسالة الفقهيّة.

فالكتاب الأوّل يقول عنه ابن خلدون: (جمع ابن أبي زيد جميع ما في المذهب من المسائل والخلاف والأقوال في كتاب "النوادر" فاشتمل على جميع أقوال المذهب، وفروع الأمّهات كلّها في هذا الكتاب).

وهكذا كان هذا الكتاب موسوعة للفقه المالكي يستفيد منها من تقدّمت له عناية الفقه واتّسعت له دراية، لاشتماله على اختلاف علماء المذهب، كما صرّح مؤلّفه في مقدمته. ومما يعطي هذا الكتاب اليوم قيمة مميزة ما حواه من نقول من كتب نادرة وأخرى مفقودة، وما اشتمل عليه من شذرات الأخبار والسير والوصف لأدوات وأمتعة قديمة، ومن إشارات عن الحياة الاجتماعية المعاصرة لمؤلفه.

وتوجد من هذا الكتاب الموسوعي أجزاء عديدة مخطوطة في مكتبات كثيرة أقدمها قطعة نادرة عريقة في أصالتها نسخت وقوبلت في حياة مؤلّفها تحتفظ بها خزانة القرويين بفاس.

وقد قام الفقيه الأندلسي أبو عبد اللّه محمّد بن الفخار القرطبي (ت 419هـ / 1029م ببلنسية) باختصار "النوادر والزيادات".

ولئن كان الكتاب الثاني من المصنّفات العديدة التي وضعها أعلام المذهب على المدوّنة الكبرى شرحا وتلخيصا وتهذيبا وتعقيبا، فإنّه كان من أهمّها وأكثرها ذيوعا في ربوع المراكز المالكية. وتوجد من هذا المختصر قطع موزعة على بعض الخزائن، وطبع الباب الأخير منه وهو موسوم بكتاب الجامع في السّنن والآداب والمغازي والتّاريخ. وللقاضي عبد الوهاب البغدادي شرح لهذا المختصر سماه "الممهّد في شرح مختصر أبي محمّد". وصنّف أيضا العالم الأندلسي أبو عبد اللّه محمّد بن فرج بن الطلاع القرطبي (ت 497هـ / 1124م) تأليفا في زوائد مختصر ابن أبي زيد. وقد أفاد المفسّر القاضي عبد الحقّ بن عطية الغرناطي (ت 541هـ / 1157م) أنه أخذ مختصر ابن أبي زيد عن شيخه ابن الطلاع، وهو ما يدلّ على الاقبال عليه إذ ذاك بالأندلس.

والكتاب الثالث، هو أشهر كتب ابن أبي زيد وأوسعها انتشارا لدى أتباع المذهب، وهو رسالة تلخّص في مقدمتها أحكام العقيدة وفي أبوابها أحكام الفقه المالكي، وهي باكورة إنتاج ابن أبي زيد ألّفها في سنّ الحداثة سنة 327هـ / 939م باقتراح الشيخ المؤدب أبي محفوظ محرز بن خلف الصدفي، وجعلها للمبتدئين. وقد استقطبت هذه الرسالة اهتمام كثير من الشرّاح.

ومن مظاهر الاهتمام بالرّسالة نظمها لتيسير حفظ معانيها، فقد نظم نظائر مسائلها الفقهية أبو عبد اللّه محمد بن غازي المكناسي (ت919هـ / 1510م) وسمى منظومته "تحرير المقالة في نظائر الرسالة" وقد شرحها محمّد الحطّاب (ت954هـ / 1547م). ونظم الشيخ أحمد بن مشرف الأحسائي المالكي (ت 1285هـ / 1868م) مسائل العقيدة من الرسالة في أبيات تجاوزت التّسعين ونشرتها الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة سنة 1395هـ / 1975م، كما نظم جميع أبوابها عبد اللّه بن أحمد بن الحاج الغلاوي الشنقيطي وشرح نظمه محمد بن أحمد الملقب بالداه الشنقيطي وسمّى شرحه "الفتح الرباني" ونشرته مكتبة القاهرة بمصر.

وهناك مظهر آخر للاهتمام بالرسالة يتجلّى في ترجمتها إلى لغات حية، فالمستشرق Fagnan ترجمها إلى الفرنسية ونشرت الترجمة بباريس سنة 1914م. كما ترجمها الأستاذ الفرنسي Léon Bercher وطبعت مرات بالجزائر وقام المستشرق Russel بترجمتها إلى الانجليزية، ونشرت التّرجمة مع النصّ العربي الأصلي ومع تعليقات ومقدّمة سنة 1906م بلندن. وقد عرّفنا المؤرخ أبو زيد الدباغ (ت 696هـ / 1299م) بالآفاق التي انتشرت فيها الرسالة، وعرفت فيها بأحكام الفقه المالكي، فقال: (انتشرت الرسالة في سائر بلاد المسلمين حتى بلغت العراق واليمن والحجاز والشام ومصر وبلاد النوبة وصقلية وجميع بلاد إفريقية والأندلس والمغرب وبلاد السودان، وتنافس الناس في اقتنائها حتى كتبت بالذهب، وأوّل نسخة منها بيعت ببغداد في حلقة أبي بكر الأبهري بعشرين دينارا ذهبا).

ويدلّ على تداولها بعد عصر الدّبّاغ أيضا أنّها تذكر ضمن كتب برامج الشيوخ والرحلات مع الكتب التي يتحدّث عنها مؤلّفو هذه الكتب، مثل أبي عبد اللّه المجاري الأندلسي (ت862هـ / 1458م) في برنامجه، وأبي الحسن القلصادي (ت 891هـ) في رحلته، وأبي عبد اللّه محمد بن غازي (ت 919هـ / 1487م) في "فهرسه". فقد أكّدت هذه الكتب مدى العناية بالرّسالة دراسة وإجازة إلى العهود المتأخرة. وكانت الرّسالة ضمن المقرّرات التي تدرس بالقرويين والزّيتونة وغيرهما من مؤسّسات التعليم الديني بالبلاد التي ينتشر فيها المذهب المالكي. وكانت تشتهر بأنّها (باكورة السّعد وزبدة المذهب).

وقد عدّ الامام أبو العباس أحمد القرافي (ت 684هـ / 1286م) الرسالة من جملة خمسة كتب عكف عليها المالكيون شرقا وغربا، وذلك في مقدمة كتابه "الذخيرة". والملاحظ أنّ الرسالة كانت مع "النوادر والزيادات" و"مختصر المدونة" من أهمّ المصادر المعتمدة لدى أغلب من ألّف في الفقه المالكي أو في الفقه المقارن بعد عصر المؤلّف ابن أبي زيد.

أما بقيّة مؤلّفات عبد اللّه بن أبي زيد فهي التالية:

الاقتداء بأهل السنّة - البيان في إعجاز القرآن - تفسير أوقات الصلاة - التنبيه على القول في أولاد المرتدّين - الثقة باللّه والتوكّل على اللّه - تهذيب العتبية - الذّبّ عن مذهب مالك - ردّ السّائل - إعطاء القرابة من الزّكاة - أصول التّوحيد - الردّ على القدرية - رسالة إلى أهل سجلماسة في تلاوة القرآن - المناسك - طلب العلم - فضل قيام رمضان - حماية عرض المؤمن - كشف التلبيس في الردّ على البكرية - رسالة في من تأخذه عند قراءة القرآن والذكر حركة - المضمون من الرزق - الحبس على أولاد الأعيان - النّهي عن الجدل - الموعظة والنّصيحة - الموعظة الحسنة لأهل الصدق - الوسواس - مناقضة رسالة علي بن أحمد المعتزلي البغدادي - المعرفة واليقين - التبويب المستخرج. وفي المتحف البريطاني قصيدة في البعث منسوبة إلى ابن أبي زيد.

وقد كان يقول الشعر ويجيده، وأثرت عنه مراثٍ نظّمها بعض شيوخه كابن اللباد وأبي الفضل الممّسي وكان النّاس يقصدونه للاستفتاء في الوقائع الطارئة لمعرفة أحكامها الشّرعيّة، فيفتيهم بالمذهب المالكي، ونجد كثيرا من كتب النوازل تحتفظ بفتاويه، مثل الحاوي لابن عبد النور، وموسوعة "المعيار المعرب" لأبي العباس أحمد الونشريسي.

وكان ابن أبي زيد بصيرا بالردّ على أصحاب النحل، مسخّرا قلمه لدحض آرائهم. ونظرا إلى ما بذله من جهد في الذّبّ عن مذهب مالك ودعمه بالحجة، ولمّ شتات مسائله وجمع مختلف رواياته وأقوال أعلامه وبيان مسائله، فقد أطلق عليه لقب "مالك الصغير".

وكانت وفاة ابن أبي زيد في شعبان سنة 386هـ (سبتمبر 996م) على الصّحيح. وصلّى عليه أبو الحسن القابسي بالريحانية في جمع غفير ودفن بداره، ومازال مقامه معروفابالقيروان، وتضمّ اليوم داره روضة لتعليم الصبيان وقد رثاه كثير من أدباء القيروان.

ولابن أبي زيد ابنان: القاضي أبو بكر أحمد والفقيه الصّالح أبو حفص عمر توفيا بعد سنة 460هـ / 1064م وللأخير ولد معتن بالعلم حافظ للحديث مهتمّ بفروع المذهب هو أبو القاسم عبد الرحمان.

43 views0 comments

תגובות

דירוג של 0 מתוך 5 כוכבים
אין עדיין דירוגים

הוספת דירוג
bottom of page