top of page
Search
Writer's pictureasmourajaat2016

دلالات الكتابة الشّعريّة وتجلّيّاتها في " شخص مّا يكتب تعليقا ... " للشّاعر نزار الحميدي


دلالات الكتابة الشّعريّة وتجلّيّاتها في " شخص مّا يكتب تعليقا ... " للشّاعر نزار الحميدي / قراءة هرمينيوطيقيّة

للأستاذ الأديب بوراوي بعرون

قدّمت بنادي مختار اللغماني (للأدب والفكر والفنّ)


مدخل تمهيديّ

" شخص مّا يكتب تعليقا ... " مجموعة شعريّة للشّاعر نزار الحميدي عن دار ميّارة للنّشر و التّوزيع في حجم متوسّظ صادرة سنة 2017 تتضمّن ثلاثة و ثلاثين نصّا شعريّا تتوزّع على خمس وثمانين صفحة. تصفّح الكتاب والتّوقّف عند مؤشّرات مختلفة مثل: العنوان، الرّسم المختار على الغلاف، المقطع المميّز على قفا الغلاف، الإهداء، التّصدير،العناوين اللّافتة الأخرى ونمط الكتابة ... هذه المؤشّرات دفعتنا لتخيّر " الهرمينيوطيقا " مقاربة للقراءة في النّصوص والتّعمّق فيها وسبر أغوارها. والهرمينيوطيقا هي فنّ التّأويل وهي مقاربة تُعنى بتأويل النّصوص وفكّ شفراتها من خلال الغوص فيها والنّظر في ما هو ثاو تحت الأسطر وهي قراءة تستنطق العلامات والرّموز والأسرار منطلقة من المعطيات المتوفّرة. وتتميّز القراءة الهرمينيوطيقيّة حسب الدّراسة القيّمة للدّكتور " محمّد علي الموساوي " بعنوان " في القراءة الهرمينيوطيقيّة، الأصول والآليّات " الصّادرة بمجلّة " عالم الفكر "، العدد181 ( يناير-مارس 2020 ). صص215-248. تتميّز بجملة من الخصائص منها 1) لا تدّعي القراءة الهرمينيوطيقيّة الوصول إلى امتلاك الحقيقة فهي حسب " راستيي " لا " تدعي أنّها المنهجيّة الوحيدة الممكنة، كما أنّها لا تدّعي أنّها الأحسن والأكثر اقتصاديّة أو الأكثر كماليّة ". 2) إنّ القراءة الهرمينيوطيقيّة ليست تلقّيا ساذجا للمقروء فلا تقبل الوقوف عند العرض والتّحليل والتّلخيص بل تسعى إلى إعادة بناء ذلك الخطاب بشكل يجعله أكثر تماسكا وأقوى تعبيرا عن إحدى وجهات النّظر التي يحملها أو يتحمّلها الخطاب. 3) تنطلق القراءة الهرمينيوطيقيّة من الجانب اللّغويّ الذي ينبغي أن نفهمه في أبعاده النّحويّة والشّعريّة والرّمزيّة، ومن ثمّ علينا أن نعطي الأهمّيّة في تأويل النّصّ الشّعريّ – مثلا – لخصائصه الجماليّة والشّعريّة، لكون العلاقة بين الشّعريّة والتّأويل هي بامتياز علاقة تكامل ... إنّ التّأويل يسبق الشّعريّة ويليها في الآن نفسه " – تودوروف - / الشّعريّة 1990 ص24. 4) القراءة الهرمينيوطيقيّة قراءة منتجة بما يعني أنّها تتحاشى محاكاة النّصّ المقروء في حرفيّته وتتجاوز تلقّيه تلقّيا ساذجا لتشكّل إضافة و إثراء " – تودوروف – المصدر نفسه صص39-40. كما تتميز القراءة الهرمينيوطيقيّة بجملة من العناصر أهمّها حسب نفس الدّراسة: 1 ) الفرضيّة وهي القدرة على بناء تصوّرات وصوغ فرضيّات تتعلّق بالمقروء لا يمكن توفّرها إلاّ بتوفّر معرفة كافية بالمقروء وخصائصه وما يتميّز به وبالسّياقات التي يتنزّل فيها. 2 ) الدّائرة التّأويليّة ويعزى هذا المصطلح إلى فريديريك شلايرماخر ثمّ تبنّاه من بعده جلّ أعلام الهرمينيوطيقا ( ديلتاي، ريكور، وإيكو ...) ويُعنى به إحكام المراوحة في فهم النّصّ وتأويله بين النّصّ وعناصره الجزئيّة " والعلاقة الجدليّة بين العناصر الجزئيّة والنّصّ في كلّيّته تدور في دائرة لا نهاية لها ... " معتزّ سلامة، النّظريّات الموجّهة إلى القارئ في الخطاب النّقديّ الحديث، ص107. ( الدّراسة المشار إليها أعلاه ). 3 ) السّياقات وهي ذات أهمّية كبيرة لفهم خصوصيّات المقروء والظّروف المحيطة بكتابته، وهي حسب نفس الدّراسة تشمل السّياق المقامي ( التّاريخيّ ) والسّياق الثّقافيّ والحضاريّ والسّياق الجماليّ. وتشتمل القراءة الهرمينوطيقيّة على مرحلتين، الأولى استكشافيّة أي قراءة إجماليّة انطباعيّة تساعد القارئ على تمثّل المقروء تمثّلا يقوم على الملاحظات العامّة والفرضيّات الأولى التي تمهّد للقراءة الثّانية أي القراءة الأعمق و الأدقّ وهي قراءة استرجاعيّة تعود بالنّظر إلى مخرجات القراءة الأولى وتكون قراءة تفكيكيّة تأويليّة تسعى إلى إنتاج المعرفة المنتظرة بالمقروء وفق الإستراتيجيّة المضبوطة بدقّة. ونعتمد في هذه القراءة التّمشّي الهرمينيوطيقيّ الذي ينطلق من القراءة الاستكشافيّة الشّاملة التي تتوقّف عند أهمّ المؤشّرات المساعدة على الولوج إلى مكامن المقروء ( العتبات / العناوين : العنوان الجامع، الرّسم المختار على الغلاف، المقطع المميّز على قفا الغلاف، الإهداء، التّصدير ، عناوين النّصوص الدّاخليّة، شكل الكتابة / هندسة النّصوص والتّشكيل البصريّ للمكتوب ) ونمرّ بعد ذلك إلى القراءة الاسترجاعيّة ( التّفكيكيّة / التّأويليّة )، هيرمينيوطيقا الدّلالة و التّدلال أوّلا و هيرمينيوطيقا فنون الكتابة وتجلّيّاتها ثانيا ) لنختم بأهمّ الملاحظات والاستنتاجات.


القراءة الاستكشافيّة

" شخص مّا يكتب تعليقا ... " هو العنوان الجامع للمجموعة، وهو عنوان فرعيّ لنصّ داخليّ مطوّل صص15-21، شخص مّا أي شخص مجهول، شخص لا يعرفه الشّاعر أو ربّما لا يعرفه أحد، شخص غريب، يقتحم البيت حسب منطوق النّصّ الحامل للعنوان،هذا الشّخص المثير للانتباه يكتب تعليقا، ربّما هو تقرير أمنيّ إذ تمّت الإشارة في النّصّ لعبارة " منشور "، فهل نحن إزاء عمليّة تفتيش مدبّرة تستهدف بيت الشّاعر؟ لكن، لماذا يختار الشّاعر هذا العنوان المثير للحيرة عنوانا للمجموعة؟ أ لأنّه يعتبر الشّعر أو قل اللّغة بيته المجازيّ الذي يطيب له المقام فيه؟، ألم يعتبر " هايدغر " اللّغة بيتا الكينونة؟ أو لم يصرخ درويش: لغتي وطني ومن أنا بلا لغة؟ هل يعتبر الشّاعر بيته هذا أي الشّعر محلّ تفتيش ومتابعة لصيقة من أشخاص مجهولين؟ ربّما هم الدّخلاء على ملكوت الشّعر و الشّعريّة أو ربّما هم النّقّاد عموما الذين يهتمّون بالتّفاصيل و تفاصيل التّفاصيل؟ أو ربّما هم أشخاص آخرون يعرفهم الشّاعر دون سواه ممّا قد نتعرّف عليه داخل النّصوص. الرّسم المصاحب للعنوان على الصّفحة الأولى من الغلاف يتشكّل من رأس امرأة مّا نراه من الخلف ولا تبدو الملامح الأنثويّة بوضوح حتّى يضطرّ الملاحظ للتّدقيق، الرّأس يبدو وكأنّه مشدود إلى القميص الذي يظهر من فوهته أي الرّأس مثل جسم مّا منغرس فيه. الرّأس في تشكيل ذي ملامح سرياليّة ينفتح من الخلف على مشهد داخله يتكوّن من مستويين السّماء من الأعلى تشرق في عنانها شمس مشعّة في فضاء يكسوه الغمام. ومن الأسفل أرض مرتفعة نسبيّا وكأنّها هضبة يقف على مرتفع منها شخص مّا ربّما هو الشّخص المشار إليه في العنوان أو ربّما هو الشّاعر يلتقط لنفسه صورة مّا؟ أو هو الشّاعر يطلّ علينا من فوق ظهر هضبته التي يشير إليها في النّصّ الذي يحمل عنوان المجموعة. أو هو الشّاعر يحتفي بالمقام الأفضل لديه أقصد رأس أنثى أي مركز اهتمامها أو ذاكرتها أو ربّما يرمز الشّاعر من خلال ذلك للبلدة أو لمدينة، حيث تبدو في المشهد المحفور في الرّأس معالم مدينة مّا. الأزرق يغطّي خلفيّة الغلاف بصفحتيه، أزرق فاتح مثل لون السّماء، و أزرق عاتم في الرّسم وفي كتابة اسم الشّاعر وعنوان الكتاب ونوع جنسه وكتابة المقطع المميّز في الصّفحة الثّانية من الغلاف ... والأزرق لون من الألوان الهادئة، هو لون السّماء ولون الماء / ماء البحر ولون الفضاءات البعيدة وهو كذلك لون الأمل ولون الحيرة في نفس الوقت. فهل اختاره الشّاعر بدرجتيه الضّوئيّتين ( الفاتح و العاتم ) للتّأكيد على الشّيء وضدّه؟ أم لأنّه يميل إلى الأزرق، أم لأسباب أخرى قد نكتشفها داخل المجموعة الشّعريّة. ويتضمّن المقطع المميّز في الصّفحة الثّانية من الغلاف مقتطفا من النّصّ بعنوان " صفر ثمانية ... ( غيبوبة ) "ص10 بتصرّف في عدد الأسطر من خمسة داخل النّصّ الأصليّ إلى تسعة على الغلاف. ربّما لإضفاء جماليّة ما على هندسة الكتابة السّطريّة خارج المتن. لا يخلو المقطع من غموض لافت وكأنّ الشّاعر يتعمّد ذلك لإضفاء الرّمزيّة على كتابته الشّعريّة، فهل هو يحتفي داخل نصوصه بمثل هذه الرّمزيّة؟ أم هو ربّما يذهب إلى ما أبعد من ذلك، إلى كتابة ذات ملامح سرياليّة؟ أو ما شابه ذلك. في الصّفحة الخامسة من المجموعة يهدي الشّاعر نصوصه إلى أمامة، فمن تكون أمامة؟ هل هي ابنة الشّاعر؟ أم هي حبيبته، أم هي صاحبة الوجه على الغلاف، المهمّ هو أنّها تحظى بمكانة هامّة عند الشّاعر و تظهر داخل النّصوص فيما سنرى لاحقا. ويصدّر الشّاعر مجموعته ببيت شعريّ لابي العتاهيّة: " والموت أضحكه والموت أبكاه " لماذا يختار الشّاعر أبا العتاهيّة؟ أ لأنّه من المحدثين؟ لماذا لم يختر بشّارا مثلا وهو من المحدثين ومن المحتفين بالمرأة و بالحبّ مثل الشّاعر حسب ما لمسناه من المصافحة السّريعة، ولماذا لم يختر أبا نوّاس الذي يرى فيه " ادونيس " حداثيّا بامتياز يتفوّق في حداثيّته عن شعراء عدّة يزعمون في عصرنا أنّهم حداثيّون، وأبو نوّاس يحتفي بالخمرة، ألم ينسب شاعرنا " طرفة بن العبد " المعروف باحتفائه بالخمر وبالحياة إلى نفسه حين قال في الصّفحة 19 وهو يذكر أصحاب المعلّقات: " صاحبنا طرفة ... " فالأقرب إلى " طرفة " من المحدثين هو " أبو نوّاس " وليس غيره. أم أنّ شاعرنا اختار بيت أبي العتاهيّة لأمر آخر، وليكن " الموت " الموت يُبكي المرء ويُضحكه، للموت حضور في نصوص الشّاعر منذ الصّفحة الأولى من النّصّ الأوّل. والموت يجمع في بيت أبي العتاهيّة بين الشّيء وضدّه وفي ذلك تناغم مع احتفاء الشّاعر بالثّنائيّات الضّدّيّة ممّا سنرى داخل المتن. وتتعدّد العناوين الدّاخليّة و تتنوّع، ثلاثة وثلاثون عنوانا منها العنوان الجامع، فيها العناوين الطّويلة مثل " شخص مّا يكتب تعليقا ... " ، " الأسرّة للغطس، الوسائد للطّيران "، " لن أكلّمك أيّها الموت "، " عندما أمتطي الحصان "، " كشجرة كنت مطعونا "، و" قميصك أم لفافة حلوى ". هذه العناوين تبدو غامضة نسبيّا إذ ما معنى " لن أكلّمك أيّها الموت "؟ أو " كشجرة كنت مطعونا " أو " قميصك أم لفافة حلوى " توحي هذه العناوين باحتفاء الشّاعر بالغموض أو قل ميله للتّلميح في أفق كتابة رمزيّة مّا، وتوجد عناوين مركّبة من لفظين مثل: " خيط دخان "، " أحلام الأطفال "، " طيّرت ناعورتي "، " نعل الطّفولة "، و" غضبة الشّجرة "، ولا تخلو هذه العناوين أيضا من غموض مّا وهي تلمّح أكثر ممّا تصرّح على خطى الشّعر العميق و الأصيل. وتتكوّن العناوين المتبقّية من مفردات واحدة على غرار: " حرارة "، " الشّمس "، " عتق "، " الماء " الخ ... وهي أيضا عناوين دالّة ومكثّفة ممّا سنرى فيما بعد. وينوّع الشّاعر نمط الكتابة ممّا يظهر على بياض الورق حيث يكتب النّصوص الطّويلة والنّصوص القصيرة والنّصوص المتوسّطة الطّول وفي جميع هذه النّصوص يعتمد الشّاعر الكتابة السّطريّة ذات الدّفقة الشّعوريّة الطّويلة في النّصوص من هذا القبيل وذات الدّفقة الشّعوريّة القصيرة في النّصوص القصيرة، وفي النّصّ الذي اختتم به المجموعة الشّعريّة وظّف الشّاعر تقنية النّصّ المقسّم إلى مقاطع مختلفة هي في هذا النّصّ من قبيل الومضات الخاطفة ذات الإيجاز والتّكثيف والمدهشة من خلال قفلاتها المتقنة بعناية ممّا سنعمّق النّظر فيه في سياقاته المخصّصة له. هذه المؤشّرات المختلفة تساعد القارئ على صوغ الفرضيّات التي تمهّد للقراءة الموالية أي القراءة التّفكيكيّة التّأويليّة المنشودة. 1 ) إعمال النّظر في المؤشّرات ذات العلاقة بالمفاتيح الخارجيّة والإهداء والتّصدير تدفع القارئ إلى صوغ الفرضيّة التّالية: الشّاعر نزار الحميدي يحتفي بالإيحاء و التّلميح كما يحتفي بالثّنائيّات الضّدّية ( الدّاخل و الخارج في رأس الرّسم على الغلاف، الازرق الفاتح و الأزرق العاتم في الّلون المختار للغلاف بصفحتيه، الشّتاء والنّار في المقطع المميّز، الإضحاك و الإبكاء في التّصدير ). 2 ) تعميق النّظر في المؤشّرات ذات العلاقة بالدّوالّ ومدلولاتها تساعد على صوغ الفرضيّة التّالية: يوظّف نزار الحميدي معجما لغويّا شائع الاستخدام وينجح في التقاط التّفاصيل والنّفخ فيها لتشكيل الصّور الشّعريّة الملائمة لها. 3 ) إعمال النّظر في المؤشّرات ذات العلاقة بأنماط الكتابة و تمظهراتها على بياض الورق يساعد على صوغ الفرضيّة التّالية: ينوّع الشّاعر أنماط الكتابة ويبدع فيها من خلال توظيف النّفس الطّويل في مواضعه والإيجاز الدّالّ في مقاماته.


هرمينيوطيقا الدّلالة والتّدلال

يحتفي الشّاعر بلغته ويتخيّر المعاجم المناسبة للحقول الدّلاليّة التي تؤوي في فضاءاتها هذه المعاجم. ويبدأ مجموعته الشّعريّة " شخص مّا يكتب تعليقا ... " بالإحالة على الحرب العالميّة إذ يقول في النّصّ بعنوان " صفر ثمانية ... ( غيبوبة ) ص9: " من بقايا صنوبرة نشأ البيت ... ما بعد برلين، بعد جنازة هتلر في حربه العالميّة ... " يؤرّخ الشّاعر لميلاد البيت بجنازة هتلر علما وأنّ هتلر ظلّ مفقودا إلى الآن، والأقرب حسب المؤرّخين أن يكون انتحر واختفت جثّته، الشّاعر يورد هتلر في هذا النّصّ رمزا للحرب العالميّة الثّانية، حربه، فجنازته هي تعبير عن جنازة الحرب ونهايتها، ثمّة اهتمام بالحروب حيث يقول الشّاعر في الصّفحة الموالية من نفس النّصّ: " وأتابع حرب الخليج وتوحيد ألمانيا "، ويضيف في نفس الصّفحة: " ألعن جيش الأيادي التي زرعت في البراري الحروب " وفي الصّفحة الأخيرة من النصّ نفسه يقول: " إنّها الحرب ثانية / كنت أحسب أحفاد هتلر قد رحلوا .. ربّما رحلوا / ولقد تركوا كلّ شيء خراب " ص14 الحروب، الخراب، الموت هي دوالّ تزخر بها المجموعة الشّعريّة وهي تحيل إلى دالّة جامعة بينها هي الخوف، الخوف من الحرب، الخوف من الفزع، الخوف من الموت. في النّصّ بعنوان " شخص مّا يكتب تعليقا ... "صص15-21 يقول الشّاعر: " فانتابتني الرّعشة والصّمت الجبريّ ولم ألق جوابا / فأجبت بتعليق أوّل: / هل نحن إذن في ثلاّجة موتى الآن؟ " في أسلوب يتداخل فيه النّفي ( لم ألق جوابا ) بالإثبات ( فأجبت ... ) والخبريّ ( فانتابتني الرّعشة ) بالاستفهام ( هل نحن إذن ...؟ ) وفي شعور يغرق في الحيرة والاستغراب يأخذنا الشّاعر إلى ضفاف الخراب، ضفاف الفجيعة، ضفاف الفزع، إلى ضفاف الموت. هذه الدّوالّ الدّائرة في فلك الخوف تحضر في هذه المجموعة حضورا لافتا، حيث يضيف الشّاعر في هذا النّصّ : " ما هذا الوحش الأزرق يقتلني؟ / فالتّعليقات رماح / والصّفحات غسيل نصوص وغسيل العالم " ويمضي بنا الشّاعر إلى استحضار الفزع في كتابة ذات ملامح رمزيّة، هي تلمّح أكثر ممّا تصرّح وهي تحتفي بالتّسآل ولا تقدّم أجوبة واضحة. هو الغموض الذي يلفّ المقطع الأخير من النّصّ: " ربّما تتّصل اللّيلة أو ترسل إرساليّة أو تفتح " الكام " / ( ولم تفعل ) / ربّما تهتف من نافذة زرقاء: هاي / ربّما تكتب تعليقا هنا / ربّما لن تتّصل " من تكون المتحدَّث عنها في هذا المقطع؟ وما هذا الحضور اللّافت للأزرق؟ في النّصّ بعنوان " خيط دخان "صص38-40 يقول الشّاعر: " خيط دخان خلف الجبل الأبيض / ينزف نحو الأعلى / في وادي الحطب الأخضر / خيط دخان يلتفّ كمشنقة حول الغابة " الصّورة بديعة، خيط دخان ينزف نحو الأعلى مجاز عقليّ وتشبيه طريف للدّخان بالدّم و قفلة مثيرة: الدّخان يشنق الغابة. يطوف بنا الشّاعر حول دالّة الفزع / الخوف الذي يشكّل من خلاله صورة للغابة وهي مشنوقة أي ميّتة فاقدة للحياة. هل يخاف الشّاعر من الحروب؟ هل يفزع من الخراب؟ هل يعاني من رهاب الخوف؟ الخوف شعور انسانيّ، يبدو أنّ الشّاعر يتحدّى الخوف ويتحدّى الحرب وهو يذكرها ليجعل الحديث عنها عاديّا وهو يذكر هتلر ليس حبّا فيه وإنّما لأنّه الحدث الكبير الذي تؤرّخ به العائلة ذكرى بناء البيت. يخاف الشّاعر خوفا عاديّا ككلّ النّاس وهو يواجه خوفه ويواجه الخراب بالتّعلّق بالحياة بالحبّ. الحبّ هو الدّالّة الثّانية التي يدور في فلكها معجم متنوّع وثريّ، لا يكاد يخلو منه نصّ من نصوص المجموعة. ما قبل النّصوص، بل ما قبل التّصدير يصرّ الشّاعر على إهداء المجموعة كاملة إلى " أمامة " التي يذكرها في النّصّ الاوّل من المجموعة " صفر ثمانية ... ( غيبوبة )ص11 : " وأمامة تختطّ نصّا جديدا، مقالا عن الحركات الجديدة في الفنّ، / تنتظر الجمعه، " أمامة ناقدة وهي تبدو سميّة للشّاعر أو مجايلة له قد تكون حبيبته، ذلك ما نلمسه في النّصّ بعنوان " إنّهم لا يصدّقونني " صص66-70 في الصّفحة الأخيرة منه: " تخيّلي ماذا فعلت لأنجو بورداتي التي اقتطفتها لك / من " التّاء حاء ميم " ... ؟ لك أنت يا أمامة وحدك / لقد زرعتها تحت سترتي. / لأنّك تصدّقين قدرة وردة حمراء على أن تقول الحبّ / وضعتِها في غرفة النّوم / ودثرتني بعناية كي لا يقرصني البرد. " هكذا تتوضّح علاقة الحبّ بين الطّرفين، الحبيب الحريص على إهداء الوردة لحبيبته، والحبيبة التي تدثّر حبيبها وتحميه، ألم يطلب النّبيّ من خديجة أن تدثّره حين أصابه ما أصابه ممّا أمره به جبريل؟ فهل نحن في حضرة شاعر ربّما هو في حالة مخاض شعريّ لا تقلّ رعبا عن حالة تلقّي الوحي ألم يشر النّاقد الكبير محمّد لطفي اليوسفي إلى مثل ذلك في كتابه " لحظة المكاشفة الشّعريّة إطلالة على مدار الرّعب " فهل نجد أنفسنا من جديد إزاء الشّاعر النّبيّ؟ وكان النّبيّ محبّا للنّساء، وكذلك يغرق شاعرنا في حبّ جارف حين يلبّي عن رضا رغبات حبيبته في النّصّ بعنوان " الأسرّة للغطس، الوسائد للطّيران " صص22-28 حيث يقول: " فكّ المشدّ وشُمّه ... خزّان رائحتي / إليك أنا: / حمّالتان وحبّتا توت قميص جوربان مزوّقان وخاتم / نظّارتان ومشبكا شعر ترابيّ أنين وحوحات ... / مسّني / سأخاف من نفس ومن حرّ فمسّد ركبتيّ وخلّل الأعصاب / دغدغ سرّتي أو حكّ ظهري حيث لا تصل المخالب. ... / سرّح على وبري لسانك مثل كلب جامح ... تلكم شويكات / رفيعات نشأن إذ نبحن فلا تفرّ فبينهنّ تغسّلت بوسات خال / سارحات كالأرانب. " فهل لبّى الطّلب يا ترى؟ ما يشدّ الانتباه في هذا المقطع هو اللّغة، معجم يوميّ أو يكاد، عبارات جريئة في علاقة بالسّياق، وتصوير دقيق دون تكلّف. ينجح الشّاعر في هذا المقام في التقاط التّفاصيل المعيشة والنّفخ فيها من روحه / شعره وتصييرها مادّة تشكيليّة دالّة وبديعة ألم يقل الشّاعر الإغريقيّ " سيمونيدس ": " الشّعر رسم ناطق ... "؟ يقول الشّاعر في الحبّ في النّصّ بعنوان " الشّمس ": " وأحبّ الطّرائد والعابرات بلا ثمن ... / هنّ أصدق في شرعة الحبّ ... / ها ... فجأة ذهبت من أمامي القوارير وارتفعت راحة: / كأس ويسكي / نعم / رجمتني بتفّاحها / فأخرسته بالقبل " هكذا دون ممارسة أيّ شكل من أشكال الرّقابة الذّاتيّة ودون حرج ينطق الشّاعر بما يتدفّق على لسانه في لغة سلسة فيها إيقاع لافت ( رجمتني بتفّاحها فأخرسته بالقبل: / / / 0 / 0 / / 0 / 0 / / 0 / / 0 / 0 / / / 0 / / 0 ) ينعقد حول تفعيلة " فاعلن " وهي التّفعيلة التي يدندن على إيقاعها الشّاعر موسيقى شعره في تدفّق آسر. الحبّ والخوف شعوران مختلفان أحدهما ينفتح على الفرح والآخر يدفع نحو الحزن، مختلفان ولكنهما متشابكان فالحبّ يقود إلى الحزن أحيانا عند توتّر العلاقة مع الحبيب، و الحزن يستوجب الحبّ بالضّرورة لمقاومة الاكتئاب وتداعياته مثلا. انعقاد الدّلالة في هذه المجموعة الشّعريّة حول ثنائيّة الحزن / الفرح أو بالأحرى الحبّ / الخوف أضفى على النّصوص شعريّة ذات حساسيّة راقية و ساعد الشّاعر على الإبداع باللّغة المناسبة في الفضاءات المناسبة.


هرمينيوطيقا الكتابة

يُنوّع نزار الحميدي الكتابة فيعتمد الكتابة ذات النّفس الطّويل / القصيدة المطوّلة، والكتابة المتوسّطة، والكتابة ذات النّفس القصير / الومضة الخاطفة. ففي النّصّ بعنوان " صفر ثمانية ... " ( غيبوبة ) صص9-14 يستخدم الشّاعر تقنيّات السّرد ويشكّل بها نصّه في أسلوب يتداخل فيه المحكيّ المرتبط إلى حدّ ما بالواقعيّ المعيش بالخرافيّ والسّحريّ أو قل الواقعيّ العجائبيّ، يبدأ النّصّ بالإشارة إلى الإطارين الزّماني ( نهاية الحرب العالميّة الثّانية ) والمكاني ( تلّة بالقيروان ). ويقدّم بعض الشّخصيّات الهامّة ( الشّاعر، الأب، الجدّ ، أمامة ... ) ثمّ تتوالى الأحداث مابين مسقط الرّأس والعاصمة، يتخلّلها الحدث الغرائبيّ الذي صوّره الشّاعر على النّحو التّالي: " في الصّباح الذي بعده وجدوا جثّتي فأهالوا عليها التّراب / الدّعاة جثوا حولها وأضاؤوا الفلاشات العدسات / مدينة ماذا؟ مدينة من؟ / والعيون التي كدّست شررا نحو شكلي عيون ذئاب ... " صص12-13. هل قضى الشّاعر؟ هل غمر جثّته التّراب؟ كيف نجده بعد ذلك بشارل نيكول في حالة غيبوبة؟ إذا نظرنا ثانية في المقطع أعلاه للاحظنا استخدام الشّاعر للتّركيب التّراب / الدّعاء وهو أدقّ من التّشبيه البليغ: التّراب دعاء فاستخدام المعرّفين بال يجعل العلاقة بينهما من قبيل التّماهي أي أنّ التّراب يساوي الدّعاء والدّعاء يساوي التّراب وفي مثل هذا الاستخدام نجح الشّاعر في إيهامنا بأنّه غُمر ترابا في الوقت الذي نجده يقصد الدّعاء بدل التّراب أي تمّ غمره دعاء، وفي ضرب من الانزياح ينعطف بنا الشّاعر من تصوير المشهد ( وقوع الشّاعر مغمى عليه ) والتفاف البعض حول جثّته إلى إشارة إلى مدينة، مدينة ماذا؟ مدينة من؟ والعيون عيون ذئاب ... وكأنّه يريد أن يقول: عن أيّ مدينة تتحدّثون والنّاس بها على الأقلّ ممّن تحلّقوا به يبدون من خلال عيونهم مثل ذئاب؟ ويستخدم الشّاعر السّخرية اللّافتة في المشهد المشكّل من قبله داخل المستشفى حيث يقول: " على خوخة القلب علّقت وجه ممرّضة تترصّدني / وطبيب يوسّد جمجمتي بالفواتير/ كنت أخالس غفلته كي أراودها و أمرّر كفّي على شعرها " ص13. وينهي الشّاعر الحكابة الشّعريّة بخاتمة طريفة فيها إدهاش لافت: " أُسَمَّى ... / فقاطعني صوتها المرمريّ: / ورقم بطاقتك الوطنيّة: صفر ثمانية ... / أنت ما زلت حيّا أفق واستعدّ لدفع الحساب. " ص14. الممرّضة ذات الصّوت المرمريّ التي يتعلّق بها الشّاعر ويعاكسها في غفلة من الطّبيب لا تراه سوى رقم (0-8)، عليه دفع الحساب. و الصّفر ثمانية هو عادة فاتحة أرقام بطاقة التّعريف ولكنّ هذين الرّقمين يرمزان إلى الهاتف العموميّ للمناطق المهمّشة من الشّمال الغربيّ، يرمز الصّفر ثمانية فيما يرمز إلى الخصاصة والبطالة والفقر فكيف يُطلب من صاحب مثل هذا الرّقم أن يدفع الحساب؟ ولم تخل الحكاية من أوصاف دقيقة ( الكوخ، أمامة، الغيبوبة ) وحوارات مثل: " – أين زائدتي؟ / - انفجرت. ". وفي القصائد القصيرة يُوظّف الشّاعر الإيجاز و التّكثيف كما ينجح في تحقيق الإثارة والإدهاش المطلوبين. في النّصّ بعنوان " عتق "ص49 يقول الشّاعر: " أبطأت في السّير / حتّى لا أعانقها / تلك التي اعتقلت قلبي / فأعتقها " في أربعة أسطر قصيرة كثّف الشّاعر الدّلالة فإذا بالصّورة الكلّيّة تشير إلى علاقة قويّة بين الشّاعر و إحدى حبيباته هذه العلاقة تتعرّض إلى موقف يتمثّل في امتناع الحبيبة عن معانقة الشّاعر فقرّر هذا الأخير عتقها أي تحريرها من قيود قلبه. كلّ هذه المواقف عبّر عنها الشّاعر في حيّز صغير موظّفا الجناس ( اعتقلت / أعتقها ) و الإيقاع الخفيف ( / 0 / / 0 / 0 / 0 / / 0 / 0 / 0 / / 0 / / / 0 / 0 / 0 / / 0 / / / 0 / 0 / 0 / / 0 / / / 0 ) لتفعيلة المتدارك " فاعلن " بزحافاتها المختلفة. وفي النّصّ بعنوان " طيّرت ناعورتي "ص74 يقول الشّاعر: " أسقطتِ درّاجتي / لن ألعب مجدّدا معك / أيّتها الرّيح / لا لأنّك رميتني في الوحل / بل لأنّك طيّرت ناعورتي بعيدا ... " خمسة أسطر تضمّنت " مونولوج " داخليّ، الشّاعر يحدّث الرّيح ويقول لها: لن ألعب معك مجدّدا ... الطّريف أنّ الشّاعر الطّفل الذي أسقطته الرّيح و درّاجته في الوحل ليس غاضبا بسبب ذلك هو غاضب فقط لأنّ الرّيح طيّرت ناعورته بعيدا . في هذا النّصّ القصير وظّف الشّاعر التّصوّر الإحيائيّ عند الطّفل الذي يزعم أنّ الرّيح تسمعه وأنّها سوف تتألّم إذا ما قاطعها مثل طفل صغير. علما وأنّ الشّعراء يوظّفون ذلك في سياقات مختلفة تتضمّن كائنات طبيعيّة عند استحضار الأساطير والرّموز التّاريخيّة مثلا ... وفي أقصر نصّ في المجموعة " قرار "ص71 " من يملك مزلجة يستطيع أن يختصر الطّريق / وأمّا أنا فقد قرّرت أن أجرح الثّلج بقدميّ الحافيتين. " في هذا النّصّ القصير يتّخذ الشّاعر قرارا عجيبا بأن يجعل من قدميه زلاّجة ليجرح بهما الثّلج، ولأنّ الثّلج مثل البلّور فإنّ قدميه ستتعرّضان للألم وبالتّالي سيحصل عكس ما كان ينتظره الفتى فعوض اختصار الطّريق سيتأخّر وقت الوصول إلى الهدف بسبب الألم الذي سيلحق بالقدمين. وفي هذه الصّورة ما يشبه المقابلة أو التّضادّ. وفيها تشكيل لمفارقة حيث أنّ ما يراد به اختصار الطّريق يصبح سببا في توقّف المسير. وفي النّصّ الأخير في المجموعة بعنوان " قميصك أم لفافة حلوى " صص88-94 يشكّل نزار الحميدي لوحة بديعة يوظّف فيها الإيجاز و الإطالة معا، أي الجمع بين التّقنيّتين، تقنية الومضة الخاطفة وتقنية النّصّ الطّويل. في " قميصك أم لفافة حلوى " يُقطّع الشّاعر النّصّ الطّويل إلى عشرة مقاطع أو قل عشرة نصوص مرقّمة تبدو وكأنّها غير منتظمة فيما بينها وكأنّ القارئ إزاء لوحات " بوزل " عليه إعادة تركيبها بانتباه كبير، هذا التّشظّي المقصود من قبل الشّاعر هو ضرب من التّجديد الشّعريّ الذي يعتبره النّاقد " كمال أبو ديب " كتابة تحتفي باللّاوحدة ناشدة التّشظية على إيقاع التّفكيك وهي تمثّل حسب تقديره الموجة الثّالثة للحداثة التي لم تعد تهتمّ بالوحدة العضويّة للقصيد بل تعمل على تحقيق الجماليّة من خلال حسن توظيف تقنية التّجاور وحسن توظيف الإنزياحات ففي الومضة الأولى يقول الشّاعر: " وهي تعانق حبيبها / لوّحت لي بوردة حمراء ... / أخذتها وانصرفت / الحديقة التي ترقد منذ أعوام في أحضان السّور / ليست خائنة. " نلاحظ في هذا المقطع أنّ الشّاعر انزاح بالقارئ في السّطر الرّابع وكسر أفق التّلقّي إذ ما العلاقة بين أخذ الوردة والانصراف والحديقة داخل السّور؟ ما العلاقة بين تلويح الفتاة بالوردة للشّاعر من وراء ظهر حبيبها وخيانة الحديقة؟ وفي اللّوحة الثّانية من " قميصك أم لفافة أخرى " يقول الشّاعر: " الغابة ترقص / انظري / " الحاج قاسم " يتخيّر شجرته " هل توجد علاقة بين هذه الومضة والتي قبلها؟ ثمّ هل من علاقة بين الومضة الثّانية والتي تليها: " مشبك شعرك الأحمر / متلهّف / لقد عضّني " الصّورة جميلة تتضمّن تشخيصا للمشبك الأحمر الذي يعضّ مثل كائن حيّ وربّما يعضّ بأشواكه مثل وردة حمراء ولعلّ المشبك يعبّر عن تلهّف صاحبته ويعضّ تلبية لرغباتها، لكن ما العلاقة بين هذه الصّورة والصّورة التي سبقتها؟ وكذلك ما العلاقة بين هذه الصّورة والصّورة الموالية التي تليها مباشرة: " قبّلني وعانقني ... / لكنّه نام / لم أنزعج ... فأنا لست إلاّ صورة " وكأنّ الشّاعر يلتقط صورا مختلفة لا تربط بينها أيّة رابطة. ففي اللّقطة الخامسة من القصيد يقول الشّاعر: " لن أخبر الشّتاء، / أيّتها القطّة / لا تقلقي ... / فقد احتطبت لك غابة " في اللّقطة السّابقة ترى المتحدِّثة نفسها مجرّد صورة فلا تنزعج ممّن قبّلها و عانقها ونام، بينما في اللّقطة الأخيرة المتحدِّث يخبر من يصفها بالقطّة أنّه احتطب لها غابة، ينوّع الشّاعر الأصوات وفي ذلك ضرب من التّجديد المستحبّ في الشّعر الحديث إذا ما وظّف توظيفا فيه إبداع. ويختم الشّاعر " قميصك أم لفافة حلوى " بالمقطعين التّاسع: " في الطّريق إلى " مغيلة " / انحنت مرحّبة / شجرة صنوبر / خلفها يقف حطّاب. " والمقطع العاشر: " لقد طيّرته الرّياح / قميصك / أم / لفافة حلوى؟ " لا تبدو العلاقة واضحة بين المقطعين الأخيرين رغم إمكانيّة وجود ارتباط ما بين الشّجرة المنحنية في المقطع التّاسع و الرّياح في المقطع العاشر، لكن ما علاقة القميص بلفافة الحلوى؟ هل هي مجرّد نسبيّة الأحجام بين الشّجرة والقميص من ناحية والقميص ولفافة الحلوى من ناحية ثانية، أم للشّاعر قصد آخر؟


على سبيل الخاتمة

كانت القراءة الهرمينيوطيقيّة في "شخص مّا يكتب تعليقا ... " للشّاعر نزار الحميدي ممتعة وشيّقة مكّنتنا من رصد ملامح التّجديد في تجربة الشّاعر في مجموعته الثّانية، ورغم حداثة عهده بالكتابة الشّعريّة نسبيّا فإنّه أبدى دراية لافتة بفنون هذه الكتابة في هذه المجموعة. حيث وظّف تقنيّات عدّة واستخدم أساليب مختلفة وطوّع لغة واسعة الاستخدام في خدمة تشكيله للصّور الشّعريّة المناسبة للسّياقات المتنوّعة ونجح نجاحا باهرا في رصد التّفاصيل والتقاطها ومن ثمّ نفخ الشّعر فيها بتلقائيّة ودون تكلّف. لقد أبدع الشّاعر نزار الحميدي في الفضاء الجامع للعلامات المتناقضة ووظّف باقتدار لعبة الثّنائيّات الضّدّيّة، ونجح أيّما نجاح في الإمساك بالمعادلة الصّعبة بين النّظام بقيوده و ضوابطه وحدوده المستوجبة ( نظام الشّعر طبعا ) والفوضى بانفلاتاتها وتسيّبها ولا حدودها ( فوضى الشّعر ). ألم يقل بول فاليري: " خطران ما فتئا يهدّدان العالم: النّظام والفوضى ". القراءة ممتعة وشيّقة لكنّها لا تكفي لابدّ من قراءات أخرى متعدّدة ومختلفة فبالقراءات والقراءات تتطوّر الكتابة إبداعا شعريّا وتتطوّر إبداعا نقديّا كذلك.


2022

بوراوي بعرون

عضو اتّحاد الكتّاب التّونسيّين

شاعر وقاصّ وناقد

11 views0 comments

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page