داخل زجاج مغلق تاهت روحي تحاول مغادرة قفصها تحاول التّحليق عالياً.. تبغي تخطّي حواجز المكان والزّمان.. تروم مرافقة الفراشات في عليائها والتّنعم بزقزقة الطّيور في جولاتها.. تبحث لها عن موضع تنمو فيه أحلامها.. حاولت وحاولت.. باءت محاولاتي بالفشل.. جدران صمّاء.. زجاج صلب يمنعها من استعمال أجنحتها والتّحليق بعيدا بعيدا.. حيْث لا حجر صحي ولا خيبات.. حيْث لا أحزان ولا بكاء على ما فات.. أتقوقع في رُكني وانطلق في موكب استجلاء لواقع فُرض علينا.. أسجّل بعض الأسئلة والملاحظات على ورق ناصع البياض لم تلمسه يد ولم يداعبه قلم.. حريصة على طهارة الأشياء التي أتعامل معها لإيماني الرّاسخ أن طهارة الجسم صورة مطابقة لطهارة الرّوح والعكس صحيح.. نظرت حولي فأصابني سقم.. تجمّد الجمال في المكان فغدا كقطبي الشمال والجنوب.. عهدنا الحياة جميلة وجمالها يكمن في حركتها المتواصلة وتوقفها عن الحركة أصابها بالشّلل وأصابنا بالسّقم.. أ هذا موت مؤقت؟؟ أ هذا موت يسبق الموت؟؟ أ ترسم الطّبيعة لوحة موجعة تمهيدا لانقلابها على الإنسان المتجبّر.. المتكبّر؟ أ هي رسالة منها للجميع.. تصرخ بأعلى صوتها "لقد مللت معاملتكم.. كرهت استغلالكم.. عِفت أنانيتكم " نظرت الى عُزلتنا بين جدران صمّاء لا حياة فيها غيْر الأنين.. انقطاعنا عن العمل والنّشاط.. حرماننا من اللّقاء بالأهل والأحباب.. أدركت أنّ ما نعيشه في هذه الفترة العصيبة ماهو الاّ موت مؤقت سبق الموت المؤبّد.. أدرت فيما أدركت أن الفرصة حانت لمراجعة أحوالنا وإصلاح ما يمكن إصلاحه قبل فوات الأوان.. لربما في انتشار هذا الوباء وانعزالنا في بيوتنا أمر مدبّر من خالق الأرض والسّماء.. ربما هي صرخة أرض أرقها عبث الإنسان.. ربما هي رسالة من الله يقول فيها لعباده.. انظروا مافعلت فيكم جرثومة.. جرثومة خبيثة لا تُرى أوقفت العالم وشلّت حركة كل شيء فيه.. لا مراكب تشق عباب البحر ولا طائرات تسبح في السّماء ولا مصانع تعجّ بالعمال ولا شركات تفتح وتغلق بميقات.. لا غني استمتع بغناه ولا فقير آلمه فقره .. الكلّ سواسية أمام الوباء.. متى تستيقظون من غيّكم.. متى تدكون أن الحياة جسر الى الفلاح.. متى تطهّرون أفئدتكم من الكراهية والضغينة.. متى تستهلكون قُدراتكم في الخير.. متى تنبذون الشر.. متى تتجنّبون النّفاق والخداع؟ كمّ من الأسئلة تطرحها الطبيعة على الإنسان.. الإنسان مسؤول على الخراب وانتشار الدّمار.. الإنسان خليفة الرّحمن في الأرض هتك ستْر الأرض.. أثخنها بالجراح.. سفك دماءها.. أسال عبراتها.. ويْل للإنسان من الإنسان.. لا ينفع الأرض إلّا صحوة ضمير.. ألم يحن أوان تسريح الضمائر من عقالها؟ أما حان أوان العودة إلى مصالحة جماعية.. ألم تعلّمنا الكورونا ما لم تعلّمه لنا الحياة؟ فلنستيقظ من سبات ولنراجع أعمالنا وأقوالنا قبل نعيق اللحظة الأخيرة.. ماذا عسانا نخسر إن جلس المرء منّا وجها لوجه مع ذاته وصالحها.. استأصل شرّها وزرع بذور الحبّ والخيرْ داخلها.. سننجو من شرّ أفعالنا وسنسعَد ونُسعِد.. ماذا لو ركضنا وراء الخير النّابع في أعماقنا.. نثرناه أينما حللْنا؟ ماذا لو ناديْنا بالفلاح وعملنا خيْر أعمالنا.. أخلصنا لضمائرنا ورويْنا الأرض من محبّتنا؟ ستعود إلينا البهجة.. سنتجاوز هذه المحنة بسلام وستعود البسمة الى الصّبح الجميل وسيعود للشّوارع هرجها ومرجها وسينعم الإنسان بما وهبه الله.. الحبّ وصفاء السّرائر هبة الرّحمان لعباده.. مجهود صغير وتجرّد من الأنا.. تزهر تلك القيم وترتفع الى القمم.. تتصدّر قلوبنا وننقذ الإنسان والأرض من شرّ أنفسنا.
نعيمة المديوني
Comments