
أيها الخليلان :
مضى زمن لم ألقكما.. وبالأمس فقط قرأت قصيدتكما :
رسالة إلى جندي إسرائيلي.
ولم أكن – مهما الخيال سرح – أتصور أن الثورة في فورتها
المناضلة الفائزة الدافقة المدمدمة العارمة ممكن أن تنتج أيضا
معجزات!
وإنها لمعجزة..
فلم يحدث في تاريخ أدبنا الشعري الذي ناهز ألفي عام أن
اشترك شاعران في قصيدة واحدة متماثلة حتى أني وأنا أعرف
طريقة وأسلوب وصور ومنحنيات كل منهما النفسية والتخيلية،
وأنا أعرف هذا كله، لم أستطع أن أتبين شطرة معين من شطرة
محمود ولا بيت معين من بيت محمود، ولا رؤية معين من رؤية
محمود. رغم أني أعلم تماما أن كليهما في الشعر على طرفي نقيض،
كأن أحدهما يعتلي قمة الهيمالايا والآخر يعتلي قمة جبال روكي في
النصف الآخر للكرة الأرضية.
لقد افترضت أن »معين« هو الذي افتتح الرسالة الشعرية
بقوله :
»بيروت في بيروت
واقفة
وعصفور على المتراس
واقفة
وشباك على الأنقاض
واقف
بيروت أنثى..
ترضع من أصابعها
العواصف«.
وافترضت أنا أن محمود درويش أكمل قائلا : نكتب لك
من قبل أن تشعلنا قذيفة أو
تشعلك
رسالة المحاصر الأخير للمحاصر الأخير
نكتب من شظية أرسلتها ...
لتحملك من عتمة الجيتو إلى أجسادنا..
نكتب لك..
لنسألك :
إلى متى تحارب الجزيرة البحرا؟
إلى متى نستخرج التفاح من ضلوعنا؟
والياسمين من عيوننا؟
إلى متى نوسع القبرا؟
ونسكن القبرا «؟
ولكن أيهما، يا من تعرفون تماما شعر بسيسو وشعر درويش
أيهما بربكم القائل هذا؟
»هدمت ما هدمت..
قتلت من قتلت..
رأيت ما رأيت..
كسرت وانكسرت..
هل أنت في أمان؟
كيف ترانا الآن في لبنان؟
كيسا من الرمل؟
أم كبشا من الدخان؟
يا أيها التائه في خرافة المكان
والزمان
يا من، ويا من،
ويا من،
يا من يجر خلفه الطاعون وهل أخذت من سقوط أورشليم
وسبيك القديم
وعجلك القديم
وعهدك القديم
غير حصى المقلاع من داوود
تصكه أسلحة وأنبياء
وتطرق اللحم على السندان
تطرقه نيشان
يا أيها الجالد والقربان
هل أنت في أمان«!؟
الحق أنني باعتبار الشاعرين من أهم وأصدق وأخلص
أصدقائي من بين كتابنا وشعرائنا العرب، وباعتبار أني قضيت
مع كل منهما حينا من الزمان كنا فيه، وكنا فيه، وكنا فيه ...ولكن
أهم ما كان فيه أن أيا منهما كان إذا واتته قصيدة جديدة، كنت أول
من يسمعها وأول من يئتنس لها أو يرقص طربا، فقد جمعنا بحر
القضية المائج وألقانا معا ً نحن وغيرنا، أصدافا في غرفة فندق في
سيبيريا أو نيودلهي أو على شاطئ نيل القاهرة، ضائعين كالجندي
الإسرائيلي – مع اختلاف الجيش والموقع – في خرافة المكان
والزمان وتائهين في خرائط التذكر أكثر ما كنا تائهين في خرائط
النسيان.
باعتبارهما هكذا بالنسبة إلي، فما أن رأيت القصيدة منشورة
في مجلة » الدوحة« حتى أنكببت عليها، فسنين طويلة لم أقرأ
أليهما حرفا ً ، فما بالك وهما معا في قذيفة شعرية موجهة واحدة.
كما قلت أن ألملم »محمود درويش« من القصيدة ألعانقه،
وأن أتعرف وأتفرس في رفيق روحي وعدد ساعات أنسي »معين
بسيسو« الذي ما رأيته أو سمعت عنه أو قرأت له منذ أواخر
الستينيات.
ولكن..
لا محمود درويش الذي أعرفه وجدته.
ولا معين بسيسو الذي أحفظه كان هناك.
في الحقيقة كان هناك شيء آخر :
شاعر آخر..
لا هو محمود ولا هو معين .. ولا هو أي شاعر عربي أو غير
عربي.. شاعر صنع من مادة الثورة المؤلمة والألم الثائر ..
شاعر آخر، فلسطيني هذا صحيح، ولكن لا وجود له في كل
دواوين الشعر أو فلسطين، فهو لحظتها وأيامها ولد، وعملاقاً ولد،
من جحيم أرض رضع، من عزيمة رجال أقوياء تشكلت لهم إرادة
من أبي عمار الذي تحول من قائد إلى أسطورة، ومن رجل حي إلى
شهيد وإن كان يعيش، من أطفال كالرصاص صمدوا وبالرصاص
أطلقوا وانطلقوا، من نساء شدت حزام الحرب وتمنطقت
بالكالشينكوف ولعلع صوت مدفعها يزغرد ويزف الشباب إلى
عرس الثورة المسلحة والصبايا إلى حضن الأتون الشعبي.
من هذا كله ولد شاعر عملاق.
له اسمان..
بل له كل الأسماء
منذ امرئ القيس.
إلى توفيق زياد وسميح القاسم
وأمل دنقل.
بل وأسماء أخرى لا نعرفها وأسماء لم تأت بعد، وأسماء لن
تأتي أبدا.. إذ هو شاعر المطلق.. لأنه شاعر تكدس الزمن كله
في لحظة، شاعر الزمن السديم الذي منه يصنع الزمن والزمان
والأزمان.
لأنه شاعر الصدق المطلق أيضا.. مع النفس ومع الكون ومع
ما فات وما هو آت..
شاعر اسمه الثورة الفلسطينية العربية ...
وما دام الشعر أحيانا ً يصنع ثورة. فالثورة دائما تصنع الشعر.
بل هي الشعر في أنقى وأروع وأصدق صوره.
أليس الشعر تحقيق الذات البشرية في مطلقها.
وماذا تفعل الثورة إلا أن تحقق الذات البشرية الكبرى،
الذات الجماعية بطريقة تهز األرض، وتجلجل الكون ولا تمحى
على مر الزمان.
بحثت عنهما فلم أجد شاعرين. ووجدت الثورة هي التي
تقول الشعر هذه المرة
تحيل كل فلسطيني وفلسطينية إلى شاعر وشاعرة.
أتخيل كل لحظة كان فيها التصدي، وكل لحظة كان فيها
التصدي إلى لحظة إلهام لم يخطر على قلب بشر.
بل إن الأرض نطقت شعرا . والبيوت المنهارة تشكل من
دخانها المتصاعد بيوت وقصائد وملامح شعر أشعل أفئدة
الملايين في كل أنحاء الأرض، وزلزل الأرض تحت أقدام الغزاة،
فأرسى الرعب في قلوب الصقور والذئاب والثعالب والفئران
والصراصير والكلاب..
ماذا يا إلهي أقول؟
أقول هنيئا لكما أيها
الصديقان؟
أم أقول هنيئا لكل من قاتلت وقاتل؟
هنيئا لك حتى أيتها البيوت التي انهارت، وتلك التي صمدت
أو معا ً نقول جميعا ً مثلما نطقت الثورة شعرا في قصيدتهما :
يا أيها الوجه السداسي
الذي يستوطن الوطن
إلى متى تحارب الزمن؟
إلى متى تظل خائفا من كل موجة
تلقي على الرمال
منديلها؟
إلى متى تموت؟
إلى متى نموت؟
كأننا وجهان
لجثة واحدة، وبيننا الطوفان!
إلى متى تظل حاملا على أكتافك
التابوت؟
يا صاحب التابوت
هل أنت في أمان
يا محمود
يا معين
الذي أنا متأكد منه
إنكما في أمان
في آمن مكان يخطر على بال إنسان ...
ما دمتما في أتون الثورة
فالثورة هي البرد والسلام
والسلام.
- لم تنشر من قبل -
Комментарии