نعيش في عصر الاستعراض.. وجي ديبور، المتفرج الأخير اليقظ انتحر..
حوار مع الفيلسوف الألماني بوريس جرويس
ترجمة: أحمد يماني
بوريس جرويس فيلسوف وناقد فني وباحث في حقل الميديا. ولد في برلين الشرقية عام 1947 ودرس في لينينجراد الفلسفة والرياضيات بين عامي 1965 و1971 وعمل هناك وفي موسكو كذلك. في العام 1981 هاجر إلى ألمانيا الغربية وقام بالتدريس في مونيشتر وكولوني، وفي عام 1994 استقر في كارلسروه حيث يقوم بتدريس فلسفة ونظرية الوسائط الإعلامية. وقد أقامت جريدة الباييس الإسبانية هذا الحوار معه على هامش صدور الترجمة الإسبانية لكتابه “تحت الاشتباه”.
س- كيف تفهم الفلسفة في حقبة لا تتعاطف كثيرا مع التفكير؟
ج- انشغلت الفلسفة دائما بأسئلة أزلية ليس لها من أجوبة. وهكذا فثمة فضاء نجد فيه أولئك الذين استغرقوا في هذه المسائل، ويتعلق الأمر بأن يصنع الواحد لنفسه مكانا هناك. إنه مكان عامر بالموتي (أفلاطون، كانت، ديكارت…) وعليك أن تبحث عن طريقتك الخاصة في الانشغال بتلك الأسئلة التي ليس لها من إجابة، متحاورا معهم ومناقشا لهم ومتخاصما معهم إن لزم الأمر. لو أن الأسئلة كانت مما يمكن الإجابة عليها لما كانت أزلية ولما كنا لنتحدث عن الفلسفة، بل عن العلم أو الفن. وهما طريقان آخران للإجابة على الأسئلة التي تؤرقنا.
س- وكيف أقمت أنت في هذه الأرض؟
ج- بالطريقة الدفاعية. نحيا في زمن ملئ بالخطابات – الإيديولوجية والسياسية والدينية… وبأوضاع لا تتوقف عن قصفك ومطاردتك من كل جانب، وعلى هذا فإن جل ما أحاوله هو أن أقوم بتحييدها. أنا فيلسوف على طريقة بطل المسلسل التليفزيوني كونج فو : لا شيء من الهجوم، أن تدافع عن نفسك فقط وأن تجرد الهجوم الكثير من سلاحه.
س- قلت بإن “حقبة الشروحات والتعليلات قد انتهت”، وتتحدث عن أوقات عصيبة بالنسبة لأنظمة كالفن أو الأدب أو الفلسفة تعتبرها “تنويعات عليا في استراتيجيات التأويل الذاتي”…
ج- ليس لدي تعاطف كبير مع التأويلات الذاتية، لديها مركب سيكولوجي مضجر، الاندفاع نحو أن تحدد في كل وقت ماهيتك الخاصة. إذا ما كنت هكذا، إذا ما كان جنسي هو هذا، إذا ما كان عملي على علاقة بهذا أو بما هو أبعد…
س- كيف تشخص المجتمع الحالي، مجتمع ثقافة الجموع؟
ج- نحن نعيش في عصر الاستعراض. وما يتغير الآن أن كل شخص يود أن يصير بطلا، يريد الجميع أن يستعرض ما يعرفه وأن يتحصل بالمرة على نجاح. نجد هناك MySpace و YouTube: يود الجميع أن يعبر عن نفسه، الجميع فنانون. مع هذا تنشأ مسألة جديدة: من المتفرج؟ إن جي ديبور، المحلل الألمع لثقافة الاستعراض، انتحر. المتفرج الأخير اليقظ انتحر. هكذا نتكلم، ولكن لا نعرف من يسمع، نكتب ولا نعرف إذا كان هناك أحد يقرأ. كي يكون هناك استعراض لابد أن يكون هناك متفرجون. وهكذا فإن كل هؤلاء المولعين بأن يعرضوا أنفسهم، بأن يخلقوا استعراضا، إنما يعتمدون على فرضية متخيلة: أن ثمة أحدا هناك.
س- عشت لوقت طويل في روسيا، كيف تقيم ما حدث هناك منذ أن انتهت الحرب الباردة، والتي بدأت بظهور القوة المدحورة؟
ج- لا أجرؤ على المضي بعيدا، لا أعتقد بانهزامها في الحرب الباردة. ما حدث أن هناك الكثير من اللا لمعلومات وكذلك لا يعرف جيدا ما الذي يحدث في البلاد الشيوعية السابقة. هناك ظاهرة على جانب كبير من الوضوح: هذه مجتمعات تقوم بهجر نظام من الاستهلاك الجمعي لكي تصل إلى الاستهلاك الفردي. تود الناس أن تستهلك الآن. وإيديولوجية الاستهلاك تحولت إلى الإيديولوجية الكبرى. في روسيا، ولكن كذلك في الصين وفيتنام وكوبا وفي كل البلاد التي كانت اشتراكية. هناك في روسيا الآن عدد هائل من المليونيرات وكان تطور ثقافة الجموع هناك رائعا. إن الظهور الإعلامي للأغنياء الجدد لا يخضع كثيرا للولع باستعراض سلطتهم كما في احتياج ثقافة الجموع لأن تكون هناك لتصير شخصا مهما. لقد تحولت السعادة الاصطناعية لفاترينات المحلات الكبيرة إلى الهدف الوحيد.
س- أمام اقتضاء السعادة هذا قمتم بالمطالبة بالفشل، بالمرض…
ج- إن القيمة الأساسية للمجتمعات الرأسمالية تتمثل في الصحة. يتم النظر للحب الآن بشكل حسن فهو لم يعد تلك المآساة التي كان يحكي عنها الرومانتيكيون، وذلك أنهم تحققوا من أن ممارسته أمر صحي وأنها تخفف التوتر وأشياء شبيهة. كذلك في الولايات المتحدة يعتبر أمرا جيدا أن تفكر لمدة نصف ساعة يوميا لأن ثمة دراسات هناك أثبتت أنه إذا ما تعلق الأمر بنشاط ، مادام غير مفرط، فإنه يولد مجموعة من العمليات الكيمائية مفيدة للتحصل على صحة جيدة. أمام هذا الوضع ليس هناك من خيار آخر لإعلان التباين سوى المطالبة باللا سعادة، بالمرض، بالفشل، بالإفلاس..
س- ألا يتعلق الأمر بمجرد وضعية؟
ج- سأقص عليك حالة شديدة المغزى. عندما بدأ ألكسندر شابوروف، وهو صديق فنان، مشواره الفني في التسعينات، لقي الكثير من الترحيب النقدي، لكنهم لم يتأخروا في تنبيهه إلى أن له مشكلة خطيرة تتثمل في أسنانه العوجاء، ومع ذلك وقف الحظ بجانبه وأعطوه منحة لتعديل أسنانه. وفعلها وكانت النتيجة طيبة. لا يمكن لأحد اليوم أن يصير فنانا جيدا إذا كانت لديه مشكلة حين يبتسم.
س- قلت بإنه كانت هناك حرية في الاتحاد السوفيتي أكثر مما هي عليه في البلدان الرأسمالية. أي حرية كنت تعني؟
ج- إن الحرية الوحيدة التي يعول عليها في الحقيقة هي حرية التحرر من العمل. كانت تحكم في البلاد الشيوعية بيروقراطية هشة بشكل كبير، كانت هذه خبرتي على الأقل. وهكذا كان يمكنك التملص بسهولة. في المقابل لا أحد بإمكانه الهرب من شبكات السوق. لا يمكنك خداع السوق لأنك معتمد عليه وعلى النقود التي يزودك بها لتعيش. ثمة فكرة زائفة في الغرب وهي أن الحياة ملأى بالرغبات. لكن إذا حررت واحدا حقيقة من التزاماته فإنه سوف يذهب للنوم. الحرية الحق هي أن لا تعمل ولهذا كانت هناك حرية كثيرة في البلاد الشيوعية لأن أحدا لم يكلف نفسه أي عناء. وعلى هذا فإن هناك القليل جدا من الحرية في مجتمع يحكمه السوق.
ترجمة عن الإسبانية
المصدر: جريدة الباييس الإسبانية 26/7/2008
Comentários