top of page
Search
Writer's pictureasmourajaat2016

" حظر تجوال " أو التّجوال ضدّ الحظر من تقديم الناقد والأديب الأستاذ بوراوي بعرون


" حظر تجوال " أو التّجوال ضدّ الحظر في أفق التّحديث و التّجديد

تقديم الناقد والأديب الأستاذ بوراوي بعرون

" حظر تجوال " هي المجموعة الشّعريّة الجديدة للشّاعر المختار المختاري الزّاراتي صدرت عن دار المسار في حجم متوسّط، تتضمّن هذه المجموعة ثمانية وخمسين نصّا موزّعا على مائتين وواحد وخمسين صفحة بمعدّل خمس صفحات للنّصّ الواحد، يميل الشّاعر إذن إلى كتابة النّصوص الطّويلة نسبيّا، يمسح أطول نصّ ثمان وعشرين صفحة. ترد النّصوص في كتابة سطريّة متفاوتة الطّول غير موزونة في نظام " قصيدة النّثر " موظّفة تقنيات التّسريد ومستلهمة التّقنيّات الجديدة في توظيف التّراث والأساطير والرّموز، فهل التزم الشّاعر بخصائص قصيدة النّثر كما وضعها جماعة " شعر " 1957؟ أم اختار المضيّ في أفق التّجديد لرسم ملامح تُميّز كتاباته في هذه المجموعة؟ إلى أيّ حدّ يمكن اعتبار الشّاعر المختار المختاري متأصّلا في الكتابة الشّعريّة العربيّة الحديثة ومجدّدا لها؟ للتّفاعل مع هذه التّساؤلات اخترنا تمشّيّا تحليليّا تأويليّا يبدأ برصد دلالات تيمة الحبّ وتدلالاتها، ومررنا ثانيا إلى رصد ملامح التّجديد في مستوى فنون الكتابة وختمنا بملاحظات عامّة.

الناقد والأديب الأستاذ بوراوي بعرون

أوّلا:حظر الحظر أو دلالات الحبّ وتدلالاته في نصوص هذه المجموعة

يستدعي التّجوال في أكوان الدّلالة والتّدلال في " حظر تجوال " جوازاتِ تنقّل وحرّيّاتٍ واسعة للغوص في أعماق الحقول الدّلاليّة لاستنطاق مدلولات دوالّها المتشعّبة، ففي هذه المجموعة الشّعريّة تتعدّد الدّوالّ وتتنوّع وهي في تعدّدها وتنوّعها تحيل على مدلولات عدّة لا يمكن رصدها إلاّ بتوظيف آليّات التّأويل وتأويل التّأويل. لتيسير ذلك عملنا على حصر الدّوالّ في دالّة جامعة هي حسب تقديرنا الحبّ أو العشق أو التّعلّق حدّ الهيام. المعشوق الأوّل عند المختار المختاري هي الأمّ رحم الوجود، ومنبع الحياة، يقول الشّاعر في النّصّ بعنوان " لقاء افتراضي ( يا والدة ) " صص254-257: " أَشْتَهِي / وأَشْتَهِي / وَأَشْتَهِي الْكَثِيرْ / الكثير منك أضمّه لمنّي الّذي يَنطقني / أو كأنّي أقول الّذي لا يرتوي / بغير حبر عمري وحزني " في هذه الأسطر التي يستهلّ بها الشّاعر نصّه يشتهي الكثير من أمّه، و إذ يختلط الحبّ بالشّوق والحنين الصّارخ يرد البوح باللّهجة المحكيّة للجهة التي ينتمي إليها الشّاعر: " كانت تقول: " ( تخافك يا كبدي لأيّام دالة بدالة / ولا من يدري ساعته / ولا قبره ومشاله / ولا من حسب للزّمان بثبات / ولقاء زمانه غداله ) في استخدام اللّهجة المحكيّة دلالات عدّة فلكانّ الشّاعر يستحظر أمّه ويحاورها أمامه بالكلام الذي تفهمه وعلى لسانها بلهجتها يستحظر الشّاعر توصيّاتها وأقوالها، فهي لم تعد على قيد الحياة وربّما حصل الفراق مبكّرا من خلال ما يوحي به الخطاب المحكيّ داخل النّصّ. هي الأمّ لها مكانة خاصّة في الأدب العالميّ " مكسيم غوركي " في رواية الأم ولدى شعراء العربيّة المعاصرين أمثال محمود درويش في نصّه بعنوان " تعاليم حوريّة " ( لماذا تركت الحصان وحيدا ) ص77 وبالأخصّ في نصّه المتقدّم " أحنّ إلى خبز أمّي " ( الدّيوان ) صص98-99, وقد تكو ن الأمّ شخصيّة رمزيّة مثل " الكاهنة " حيث يقول الشّاعر في " برقيّة للكاهنة صص105-110: " ليس للحياة معنى خارج الحبّ... / اللّيل حبّ... / والأمّ حبّ... / والأرض حبّ... والحبّ حبّ ... وأنت ... والحبّ... متوازيان التقيا بإذن اللّه... " في رمزيّة عالية وفي أسطر قصيرة ينتهي كل منها بنقاط ثلاث متتالية تستدعي القارئ لاستكمال السّطر وكأنّ الشّاعر يطلب المساعدة لوطأة الحبّ الذي يتكرّر ستّ مرّات للتّأكيد على عمق حبّ الشّاعر للكاهنة التي يجعلها تتقاطع مع الحبّ في نقطة الاستحالة لأنّها في البدء موازية له، يتمّ ذلك بإذن اللّه وفي ذلك إعلاء من شأن الكاهنة، رغم التباس العلاقة بها في الذّاكرة العربيّة في شمال إفريقيا، ويضيف الشّاعر في نفس الصّفحة: " وأنا ... وأنا اختلاط الدّم من عرب / وبربر ... / وأنا وأنت سلطان الحبّ الأكبر... " يمضي الشّاعر بحبّه إلى أقصى مقامات السّلطنة، ( السّلطان الأكبر ) وفي مثل هذه المقامات تملّك وتحكّم ونفوذ. في تركيب فيه سجع ظاهر لشدّ الانتباه من خلال تكرار حرف الرّاء وهو من الحروف الذّلقيّة ( ر، ل، ن ) التي تتسم بخفّة النّطق لخروجها من ذلق اللّسان ( طرفه ) والشّفة. وفيها أيضا استحضار غير مباشلر للسّجع في عنوان كتاب ابن خَلدون " كتاب العبر، وديوان المبتدإ والخبر في أيّام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السّلطان الأكبر. " ويصل الشّاعر بعلاقته الرّمزيّة بالكاهنة حدّ التّأليه في توظيف للأسلوب الإنشائيّ في مقطع رمزيّ لافت: " إذن كاهنتي /... وأنت تفتحين قلبي ... / رتّلي بالصّوت العاري... / كان هنا ولم ألحظه أو حتّى أراه ... / لكنّه كان الحبّ الوارف / كنخلة في حقل سنابل / أو كعنقود عنب في ثلج / أو كقرآن الإنسان / كدين لم يذكر في اللّوح المحفوظ... / لكنّه هو الدّين الحقيقي للعبادة ... / ... " الحبّ هو الدّين الحقيقي للعبادة وهو الدّين الذي لم يُذكر في اللّوح المحفوظ، وحين تقول الكاهنة: " لكنّه كان الحبّ الوارف " فهي تقصد في الصّورة الرّمزيّة التّخييليّة المشكّلة في النّصّ الشّاعرَ الذي طلب منها أن ترتّل بالصّوت العاري وليس العالي وفي ذلك تلاعب بالحروف بديع فاستخدام الرّاء بدل اللّام يجعلنا نبقى في رحاب السّجع المشار إليه أعلاه كما يجعل الصّوت عاريا و ليس عاليا وفي ذلك إحلال لدلالة مكان أخرى فالصّوت العاري هو الصّوت المكشوف الواضح وغير المقنّع لكأنّ الشّاعر يدعو كاهنته للتّصريح بحبّها له والبوح به. فالحبّ بينهما متبادل وليس حبّا من جهة واحدة. وتكون الأمّ في أشعار المختار المختاري في هذه المجموعة الوطن بمعنى مسقط الرّأس الزّارات أو المدينة الرّمز بغداد أو الوطن المسبيّ فلسطين، ففي قصيدته بعنوان " بين نخيل الغابة القديمة " حوشنا كان " صص238-243 يقول الشّاعر: " ياه يا " حوشنا " القديم / كم أراني الآن حين أراك في ظلام عيوني / أبصرك بما في القلب من حبّ يكفيني لأستزيد من الشّراب / أستر عورة وطن / أخوض الرّدى على طينه / وفي الزّند ما أبقيته ليوم الحساب ... " في هذا المقطع من هذا النّصّ المقطعيّ الجميل يستخدم الشّاعر من جديد اللّهجة المحكيّة في أسطر هي بمثابة اللّازمة التي نجدها عادة في النّصوص الموزونة لضبط الإيقاع وهي هنا بمثابة الجملة التي تتكرّر لإحداث إيقاع داخليّ يشدّ المتلقّي وهي تتكرّر بالأخصّ للتّأكيد على أهمّية " حوشنا " في ذاكرة الشّاعر وذكراه، التّأكيد على " الآه " ( ياه يا ) تعبيرا عن الحسرة ولوعة الذّكرى وعمق الحنين، يرى الشّاعر البيت القديم في ظلام عيونه وفي استخدام الجمع للإشارة إلى العينين عادة إشارة إلى أنّ الظّلام المشار إليه هو ظلام شمل كلّ الأعين ربّما بسسب الانخراط في الشّراب، والغرق في حالة من الشّعور يتداخل فيها الحنين بالحزن، هي إطلالة من وراء الغيبة أو ما شابهها على عمق الذّات في علاقتها بعلامات محفورة فيها لم يعد لها أثر في الموجود، هي أطلال الطّفولة التي تحرّك في ذاكرة صاحبها تفاصيلها الرّاسخة هناك، فيقول: " ياه يا " حوشنا " القديم / كم أتذكّر الطّريق الرّمليّ / والمفتاح المعلّق على جدار / وصورة لآيات الكرسيّ / و " قازة " و " عالة " الشّاي/ وبئرا / و " جابية " و " رحابي " جدّتي / و مخزنها / وجرار المؤونة / و" نفة " جدّي ... " في لحظة التّذكّر الموغلة في الذّكرى يلتقط الشّاعر التّفاصيل الصّغيرة وينفخ فيها من روحه أي شعره فتصير نصّا شعريّا بديعا. هي الزّارات التي احتفى بها الشّاعر في نصّين آ خرين من هذه المجموعة " لو يذكر النّخل في الزّارات غارسه و ساقيه لصار التّمر دما و دمعا " صص48-51 والنّصّ بعنوان " حوار على مرايا كورنيش الزّارات " صص154-158. هو المكان وجلاله في الشّعر العربيّ قديمه وحديثه فالمقدّمات الطّلليّة هي استحضار للمكان واحتفاء غامر به " قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل / بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل " معلّقة " امرئ القيس " و " جيكور " السّيّاب هو استحضار للقرية الجنوبيّة في البصرة وإعلاء لشأنها وكذلك يحتفي " محمود درويش " بحيفاء ويافا ويتدفّق الشّعر غزيرا في حضرة " تمبكتو " قناع القيروان للوهايبي. في تعلّق لافت بالمكان في رمزيّته العالية يحتفي شاعرنا ببغداد التي أحبّها حبّا كبيرا وخصّها في هذه المجموعة بنصّين الأوّل بعنوان " برقية بغداد القصيدة " صص111-114 والثّاني بعنوان " بغداد وكأس العرق " صص248-250 يقول الشّاعر في النّصّ الأوّل: " ... " بغداد ... / والشّعراء والشّعر " / والحبّ إذا ما كبر في الجذوع / نما في الضّلوع الخبر / بغداد / والشّعر وسحر الآتي / من وراء الحجب / يرمي الشّهب / على مسترقي السّمع لسرّ الشّاعر / وهو يرتّب الحبّ لبغداد / بأحرف من خمر العرق / ومن جمر الحنين / ... " يحبّ الشّاعر بغداد ويحبّ الشّعر فيها ويحبّ الشّعراء والعرق نبيذ بغداد الذّائع الصّيت الذي يستحضر من خلاله شاعر بغداد المحتفي بالخمرة أبا نوّاس صاحب البيت الشّهير: " عاج الشّقيّ على رسم يسائله / وعجت أسأل عن خمّارة البلد " يستحضر أبا نوّاس فيهزّه الحنين إلى " الرّشيد " / شارع الرّشيد وتهزّه الذّاكرة إلى الحرب التي تلد أخرى " بغداد حرب انتهت / لتتلوها حرب " وهي في خاتمة القصيد الموت والولادة ... " وبغداد الموت و الولادة / لمن لم يغفل يوما عنهم الرّبّ ... / ... " كما يتعلّق الشّاعر بالمكان أيّما تعلّق ممثّلا بالوطن المسبيّ فلسطين فهو متيّم بها خصّها في " حظر تجوال " بنصّين " فلسطين فيروز غنّت صدّقيها إذ تقول " صص29-33 و " لفلسطين أيلول القصيدة " صص45-47 في رمزيّة لافتة تغيب فلسطين في مطلع النّصّ وثناياه لكأنّ الشّاعر لا يتحدّث عنها إذ يكتفي بالإشارة إليها في آخر النّصّ " كن / ولتبق على الخريطة / راية واحدة لفلسطين / كلّ فلسطين ... وللخونة جحيم القادم / من خلف شمس اليقين ... / ... "

ثانيا: حظر الحظر أو التّجوال في ملكوت الكتابة بحرّيّة لافتة

سئل " أدونيس " عن أسباب ابتعاده عن الكتابة الشّعريّة ذات الملامح الخليليّة، فأجاب أنّ الشّكل ليس مهمّا، المهم حسب رأيه هو تملّك الشّاعر لرؤية خاصّة به ولتصوّر للشّعر مخصوص، وأضاف: لقد أبدع شعراء العربيّة في ذلك المنحى امثال أبي نوّاس و ابي تمّام وأبي العلاء المعرّي وبالأخصّ ابي الطّيّب المتنبّي، لذلك علينا أن نمضي بالشّعر في آفاق أخرى تمكّنه من الإبداع الآن وهنا بأشكال مبتكرة. " في هذا الأفق سار المختار المختاري الزّاراتي، اختار الكتابة بالنّثر شعرا، فهل تَمثَّلَ الشّاعر إبداعات جماعة مجلة " شعر " 1957 بلبنان: أدونيس وأنسي الحاج والماغوط ويوسف الخال وغيرهم؟ اعتمد أولئك الرّوّاد قصيدة النّثر وفق المقاربة البرناريّة ( الإيجاز، التّكثيف، المجانيّة، والإدهاش ... ) وهو ما يتلاءم خاصّة مع الومضة الشّعريّة، وطوّروا ذلك نحو قبول النّفس الطّويل مع اعتماد التّقطيع أحيانا. ويتحدّث البعض اليوم عن قصيدة نثر جديدة هي قصيدة نثر ما بعد الحداثة، وهي قصيدة النّثر السّرديّة التّعبيريّة ( جماعة بغداد 2015 ). في علاقة الشّاعر المختار المختاري بجماعة مجلّة شعر فإنّه استفاد من الرّؤية الشّعريّة التي تمضي بالشّعر إلى الأبعاد المختلفة للفكر و الثّقافة: التّراث، الفلسفة، الانتروبولوجيا، علم النّفس الخ ... والتي تحتفي بالأساطير والملاحم والشّخصيّات التّاريخيّة البارزة، وتوظّفها في الكتابة الشّعريّة ممّا يقوّي التّخييل ويمنح النّصوص الدّيناميكيّة المطلوبة ويغنيها سرديّا ودراميّا، وهو ما لمسناه بوضوح في النّصّ " برقيّة للكاهنة ". وما تتضمّنه نصوص أخرى مختلفة. ففي النّصّ بعنوان " حكمة سقراطيّة " صص24-28 يستلهم الشّاعر التّجربة السّقراطيّة في أبعادها المختلفة المعرفيّة والوجوديّة والملحميّة ... يقول الشّاعر: " كان سقراط هنا / وكان أفلاطون / يطوي رقاعه ويمشي إلى نهاية صمته / والكأس تقف / عند تلفّت المعنى /إلى موت الحياة في الحكمة / ... " يستحضر الشّاعر سقراط وأفلاطون والعلاقة بينهما كبيرة فأفلاطون تلميذ سقراط هو من ترك لنا أثر أستاذه في محاوراته الشّهيرة ( الرّقاع )، ويستحضر الشّاعر الكأس وما أدراك ما الكأس، فيشكّل صورة بديعة هي: " والكأس تقف / عند تلفّت المعنى / إلى موت الحياة في الحكمة " التّركيب هنا ليس توصيليّا، هو تركيب انزياحيّ فيه تشخيص للكأس وجعلها تقف. تقف متى؟ وكيف؟ ولماذا؟ ... ثمّ ما المقصود بتلفّت المعنى الذي تقف الكأس عنده، نحن إزاء تشخيص للمعنى كذلك وجعله يتلفّت ... وهل يتلفّت المعنى؟ وكيف؟ هو في هذا التّركيب المدهش يتلفّت إلى موت الحياة في الحكمة. هل يقصد الكاتب نهاية سقراط الحكيم بسبب الإفراط في الحكمة وقلق السّفسطائيّين الحاكمين في أثينا منه. يقول الشّاعر في الصّفحة 26: " سقراط الذي شرب / وما شرب سوى حياته الأخرى / هي سفرة في مطلق / ينسينا فيها مطلقه / وضاق به مطلقه / فرسم حدوده على صفحات وجودنا / وما الحكمة سوى تأشيرة رجوع للتّراب ... " هي الحكمة التي أودت بحياة سقراط، وهو الكأس الذي شرب منه حياته الأخرى بين مطلقين مطلق السّفرة ومطلقه الذي ضاق به ... " وما الحكمة سوى تأشيرة للرّجوع إلى التّراب ... ". ويستخدم الشّاعر التّقطيع في مطوّلته بعنوان " اثنتا عشرة نجمة في سماء ليل سرداب " صص115-142 وفي ذلك تجديد وضمان للإيجاز و التكثيف في مستوى المقاطع ولقد استخدم شعراء عدّة مثل هذه التّقنية، ونتساءل في حضرة هذه المطوّلة عن العدد 12 لماذا اختار الشّاعر إثنتا عشرة نجمة وليس إحدى عشر مثلا؟ تناصّا مع رؤيا " يوسف " في القرأن، هل يحيل بهذا الاختيار إلى ديانات أخرى شرق أوسطيّة تحتفي بهذا العدد مثلا أم يذهب بنا إلى آلهة الأولمب، في تناصّ مع الميثولوجيا الإغريقيّة ذائعة الصّيت؟ في لغة تجريديّة يبدأ النصّ في النّجم الأوّل بالإشارة إلى الرّبّ من منظور إبداعيّ فيه مجاز وتجريد لافتين حيث يقول الشّاعر: " والرّبّ عقر النّاقة في السّرّ / فغدا الصّمت نشيد التّمرّد / للموت شهوات ... / وللمطلق رحم " ويضيف في الصّفحة الموالية: " والرّبّ في سماء الحان / يراقب تحرّك الأشياء في الأحرف / صاح في الخمّار هل من مزيد؟ " التّراكيب هنا ليست توصيليّة تبليغيّة هي بالأحرى انزياحيّة إذ ما العلاقة بين الصّمت ونشيد التّمرّد؟ وما المقصود بشهوات الموت؟ ثمّ كيف يكون للمطلق رحم؟ نحن هنا إزاء لغة مخصوصة هي هي لغة الشّعر الحديث المجدّد والمتجدّد باستمرار ... يبدأ المقطع بعنوان " النّجم الثّالث " بالسّطر: "جالس على قارعة الكلام " وفي السّطر الثّامن عشر يقول الشّاعر: "تكشّف على مسارب النّطق " ويبدأ المقطع السّادس بالسّطر: "غموضي وليمة الغبار " وينتهي بالسّطر: " ويكون الغموض وليمة حبّ جنونيّة " ثمّة احتفاء لافت بالغموض ... " تتلوّثين بالتّفاصيل " السّطر الأوّل من المقطع الحادي عشر ويقول الشّاعر في المقطع الأخير ص140: " فامنحنا صنمك / المنحوت بخراب الرّيح / علّ قلوبنا تبتكر لغة للحبّ ... " ينخرط الشّاعر في هذه المقتطفات من معلّقته في الثّورة التي فجّرها جماعة " شعر " الثّورة على الدّلالات الجامدة أسيرة القواميس والكلام التوّصيليّ والدّعوة لتحريرها من أسرها من خلال تثوير العلاقة بين الكلمات والأشياء أو لنقل تغيير العلاقة بين الدّوالّ ومدلولاتها فيما ذهب إليه أدونيس: " . " - كيف يُغيِّرُ الشّعر؟

- يقيم علاقات جديدة بين الكلمات والأشياء " - أدونيس – " النّظام و الكلام " ص200

وعندما نمعن النّظر في بعض القصائد على غرار: " إليك رفيقي المختار" صص64-66 و " الكندور باسّا – el condor pasa " صص 74-77 و " سورة الغريب، الآيات الآتيات " صص90 – 92 و" حبّ الحبّ " صص229-231 الخ ... نجد أنفسنا إزاء قصائد نثر من نمط الكتلة الواحدة one block يرد فيها السّرد ممانعا للسّرد في غير بنيته، السّرد هنا لا يرد في بنية حكائيّة خطّيّة كانت أو غير ذلك، يرد السّرد هنا في بنية تعبيريّة فيما ذهب إليه أصحاب فكرة " السّرد التّعبيري". يقول أنور غني الموسوي: " لقد صار واضحا أنّ السّرديّة التّعبيريّة مقوّم أساسي لقصيدة النّثر المعاصرة ذات الكتلة النّثريّة الواحدة one block ، حيث ينبثق الشّعر من رحم النّثر ويحصل الشّيء العجيب، بسرد واضح قريب مليء بالإيحاءات و الرّموز و الإحساس، كتلة نثريّة ما إن تصل القارئ حتّى تتحوّل إلى كمّ هائل من الإيحاءات والدّلالات والرّموز و العواطف والإحساس، مخترقة موطن الشّعور و الإحساس و الجمال. " د. أنور غني الموسوي، صحيفة المثقّف الالكترونيّة. العدد: 3226 المصادف: 07-2015. لو قمنا بإعادة كتابة " إليك رفيقي المختار " في صورة نصَ ذي كتلة واحدة سنتحصّل على الآتي: " لئن كان عمودكم من عبقر قدّت مفاصله من وهم ثقّف مغصوبا معصوب الصّوت والفكرة فلحرّيّتي معان جمّةأوّلها آخرها الحياة السّعيدة الحرّةلا الغاوون تبّعي على ظلاله ولا قطيع لي أهشّ على بصيرته عتمة الحفرة دنيانا رحبة القلب كسفينة نوحيّة في بحر لاطم أدرك سفرتي لي فيكم كلم باق ما بقي في الأرض حياة وهي روحي ودرّتي ربّها شراعها في حلّ وترحال وشرعة دينها قدرتي شربت الحياة من ثدي مكافح من نخلة العشّاق من خيام الفلاة قرّتي من كؤوس الوله سكرت حتّى ثملت عشقا بها فغرستني في تراب الشّعر بجذوتي غسلت روحي بطهر منابعهامن رضاب ليليّ حبّي وخمري وجنوني وعروبتي ... وشهوتي... هي قلعة النّار تلهب كلّ من للحياة تجنّد بصبابة وشموخ للكرّة أهلوك سلّوا الرّوح من غمدها... جمحوا صهلت كما الجحيم خيولهم لاهثة في رحب ترادفت وتكاثفت فتكاثفت وتناخبوا كؤوس النّصرالحلوة المرّة... لا شيء يلجم روحهم توّاقة للسّماء هي تبرق كشمس في ليل يمسح عنّي في غربتي دمعتي جذلى قلوبهم حملت من الأيّام إلى الأيّام لسانها شعرا ونثره نحو أفق الشّمس مدّوا وجوههم فلا غروب لشمسين على الزّارات التي عنوانها شموخ هامتي من أسمائها المختار حضرته هو وهو أيضا رسمي و إسمي وحضرتي ... / ... يولي السّرديّون التّعبيريّون أهمّيّة كبيرة للّغة التي تتميّز بها النّصوص من هذا القبيل، مثل اللّغة المتوهّجة، واللّغة التّجريديّة و اللّغة المتموّجة التي يعرّفها " كريم عبد الله " على النّحو التّالي: " إنّ اللّغة المتموّجة تتناوب ما بين مفردات توصيليّة و اخرى مجازيّة انزياحيّة كما في هذا المقطع – بعد ليل بهيم – هنا نجد مفردات توصيليّة بحتة ثمّ تتبعها – ترقرقت انبلاجة في عين السّحر .. حيث المجازيّة الانزياحيّة اللّغويّة، وهذه الميزة لا تتوفّر في السّرد الحكائيّ ( القصصيّ ) و لا في الشّعر التّصويريّ فالأولى تعتمد على التّوصيليّة وتحاول أن تخفّض من مجازيّتها، بينما الثّانية ليس لها إلاّ التّعالي في المجاز. " ( مقتطف من مقدّمة أعدّها كريم عبد الله ) بعنوان " ملامح السّرديّة التّعبيريّة في ديوان " همس المرايا " لجميلة بلطي عطوي صص 7-14. " في النّصّ " إليك رفيقي المختار " تتموّج اللّغة بين التّوصيليّ التّبليغيّ الواضح مثل: "ولا قطيع لي أهشّ " و المجازي الانزياحيّ مثل: "على بصيرته عتمة الحفرة " كما في التّركيبين: " وهي روحي ودرّتي " و ربّها شراعها في حلّ وترحال " التّركيب الأوّل توصيليّ واضح أمّا التّركيب الثّاني فهو مجازيّ انزياحيّ... كما تتجلّى في هذا النّصّ اللّغة التّجريديّة خبر تجلّ، ويتدفّق الكلام في صورة هدير يتوهّج فيه المجاز ويتوقعن الخيال على حدّ عبارة " أنور غني الموسوي " وتتحرّر المفردات من أسر قواميسها وترتبط الدّوالّ بمدلولات متعدّدة.

على سبيل الخاتمة

في مجموعته الشّعريّة " حظر تجوال " نجح الشّاعر المختار المختاري الزّاراتي في حظر الحظر أي في منع الحظر والتّحرّر منه في مستوى التّدلال ( إنشاء الدّلالة ) في علاقة بالحبّ و العشق والتّعلّق ، وفي مستوى فنون الكتابة. أبحر الشّاعر في ملكوت العشق إبحارا واسعا في الذّاكرة و الذّكرى في علاقة بالأمّ وبالكاهنة وبالأمكنة، الزّارات، بغداد، فلسطين، وأبحر الشّاعر في ملكوت الكتابة وفنونها فجدّد وأضاف ووظّف الأساطير والتّراث خير توظيف. وبالنّثر السّرديّ أبدع الشّاعر نصوصا بلغة تعبيريّة لافتة، فهل بالإمكان الحديث الآن وهنا عن شاعر ينجح في رسم ملامح خاصّة بشعره؟ ذلك ما يستدعي القراءات المتعدّدة في هذا الأثر، إذ بالقراءات النّقديّة يقوى عود الإبداع، وبالقراءات النّقدية تنفتح آفاق التّجديد والتّجريب الإبداعيّين المطلوبين وتزداد اتّساعا.


20 views0 comments

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page