الى الصديق الكاتب المبدع سعد هادي
"1".
لا يَدرأ الله عنَّا المَرض والسأم، ولا العَيش في التوافه.
يَفْرش المرء قَبره بأغصان أيَّامه، وَيتَوسَّد تَجْربته وَحيداً.
الثأر والعَدالة لا يُمْكننا التَفْرقة بَينهما وَيشاركنا عَدَم
اعتقادنا فيهما كلّ غَريب في الأرض. كثرة تَرْجيحات
وَتَمنِّيات تُرسِّخ اللأأمل، وإيلاد الذرِّيَّة لا يَجْلو حَرارة
القيظ أثْناء فراقنا للعَزيز الذي يَرْحل مِن دون تَماثل مَعَ
حجارة حلمه. هَل يُمْكن لَنا دَفع سماء العنف والامتناع
عَن مشاركة الدموع المَشبوبة سَيلانها؟ إهانة عَظيمة أن
يَنْتَظم الانسان مَعَ الحَشرة، ويغادر بَيْته بلا زاد وأصدقاء.
"2".
لَوازم عَديدة للصَيد تَركْناها في استراحاتنا بالبرّية، وَسَبقْنا
الموتى الى قَبر الشَمس المُتْعَبة. المُبشِّرون التَفَتوا صوب
الآبار وَلم يَتَعرَّض لَهُم الله. تَجاهلَوا موعظته المُتَضمّنة
اضطراره الى إسْعاف المأْبونين، وَتَنكّبه الطَريق الذي لا
يَتَفادى فيه الغرقى الغَرق. حَقيقة لا لبس فيها، مُحبّ الله
يُغيِّر في النَسَق وَيُحبّ ذاته. الصحَّة وطول العمر والراحة
في الشَيْخوخة، آلات مهنية تعيننا عند إنْكار الطَبيب الغشّاش
لمَرَضنا العضال. المُحْتَضرون لا يَسْعون الى التواطؤ بَين
القَبر والحَديقة. اللحظة الضَئيلة المَمْنوحة للميت في العَيش
بالطَبيعة. تَتَوازى مَعَ روث نَصيبه مِن أيَّامه التي يَحْياها
بالإكراه.
"3".
ابْتَغوا للتَخْفيف مِن تَنامي فَزعهم في الفَناء، أن يَتَواطأ الله
مَعهم حتَّى لا يُكَرّروا العَودة الى ضيم حَياتهم الفَقيرة. كلّ
هالك يَتَماثل في محاولته النفاذ الى الفراغ مَعَ حظّه، والله
لا يُضمِّن تَجاهله لَنا أيّة إشارة. السأم والانهاك الدائم في
سَهرنا بَين الصخرة التي يَسْتَجّم فيها الزِمَن، لا شأن
للمُحْتَجب عنَّا بهما، لماذا نَجد ذَواتنا مُعلّقة الى جانب إبرة
حياكة المَرض وَتنْسينا مطالبنا المُتَعدّدة الرضوخ للحَتْمية؟
الفَزَع الصائر الى موت تشاركنا فيه الحجارة ولا أحد يَعْرف
كنه وجوده. تَصوّر تافه نوفّر فيه السهام لحمايتنا مِن الحرّ
اللافح في الخَلاء، وَنَرْحل الى اللاوجود مَعَ الطَعْنة الوافدة
مِن الهاوية.
"4".
وَثائق صَريحة مِن واجبنا الاحتفاظ بها لإدانة المَشاهير في
لَحظتنا الراهنة. مؤرخو الأدْيان وعلماء الاجتماع، أدْرَجوا
إيْماننا بالله باعتباره تَعدّياً على البَشَر. هَل للكثْرة في الأغْذية
وَعَدم تَحْصيل الضرائب واللامساواة بَين المرأة والرجل،
تأْثير على طرق الانتاج؟ لَدى آبائنا نظم ضَريبية صارمة،
وكانوا يدمّرون اقتصادهم بنحرهم الأضاحي مِن النساء في
أعْقاب كلّ حرب. ميليشيات مُنْعَزلة عَن شَمس الله تَتَعقَّب
الفَتيات الفَقيرات وَتقْتلهنَّ. الزُعَماء يَجْهلون آباءهم وَيَعْتَقدون
انهم أولاد العار، لكنَّ هذهِ المُشْكلة لا تُبرِّر قَتل 28 امرأة في
بناية آيلة للمرض. صلواتهم وَتَضرّعاتهم في دور العبادة الى
الله، تُنْبأ عَن عَدَم اتعاظهم مِن تَبرّمه وسخطه على أفْعالهم.
ايديولوجيات يَتَوجَّب التَفقّه فيها أن نطرد الإيْمان مِن كلّ هَيْئة
في المُجْتَمع السافل. السَلامة الشَخْصية وَتَوْفير فرص العَمل
والمنزل وحرّية السير تَحت أشْجار الاقتصاد العالية. هوَ ما
ما يَجْعل التَراصّ مَعَ الله الفعل المُلائم لَطَلب غفرانه وإحْسانه.
"5".
انفردوا عَن الجميع وسهرتُ أحرسهم مِن الذين عادوا
بعد الموت. بعض القتلى جيء به على عجل مِن أرض
قبره. صفقة خاسرة حاولت فيها زيادة دخلي وأعرف
أن حقيقة الوقوع في الخلاء، لا تقبل النقض. ماذا لو
استحال عليّ تغيير نمط حَياتي وأضعتُ المرآة التي
أرى الله فيها؟ ما لا ندركه في الحضور، ندركه في
الغياب، ويتوجَّبُ على مَن نبعثهم الى الهاوية أن لا
يعودوا مِن دون العثور على كفن الديباج الذي أخفاه
الغريب. التقيتُ الدُعاة في المفازة وعلمتُ أن الريح قد
فرَّقتهم أكثر مِن مرَّة، لكنّهم لَم يختلطوا بالأسرى.
هَل تعود نسمة الحياة الى أبدان النصحاء اذا ارتابوا في
العيش بالفردوس؟ دودة متيقظة هي ما ينتظر الفاني،
والخروج مِن البيت بلوى لا يُمكن اتقاء شرّها.
"6".
أنعمَ الله عليّ وامتلكتُ عقارات كثيرة، لكنّني عانيتُ صعوبة تعلّم مهنة تؤهلني
لاعالة البشرية. هل تكتملُ النفس بعد اطالة الأجل مِن قبل الساحر والمُتطبّب؟
الوئام الذي أبديته للغُرباء بعد أن رست المراكب، كان وقاية منهم مِن أجل الذهاب
الى منتجعات لا يعرفني فيها الغير. تسرَّبَ خبر رغبتي في الهجرة الى المتوغّلين
في أعماق الغابة، وانفصلت عنّي النجوم. جثوتُ أتفحَّصُ الورم في معصمي
ونشأت عندي عادة انتقاص قيمة حياة البذرة.
"7".
شاطرتهم شعائرهم واعتبرتها امثولة زائفة، لا تختلف عَن العاب الذئاب العاوية
في الليل. كانت تعوزهم الامكاية في الكشف عَن مكان الزمردة. كُلّ جنازة زمردة.
لا يسفر الغريق عَن وجهه بعد الغرق، والشيطان ما أغوى أبي وأمّي، أغوتهما
الرغبة في التناسل فأنجباني لانفصل عنهما وأحيا النكد الذي يفضح وجودي بين
الخرائب. أحطتُ بموقع موتي وظهرت لي الأشياء التي تنتظر أن تستحوذ عليّ.
الآلهة التي عدَّها البعض رؤوفة بالبشر، تذخر لهم في الفراغ عفونة أصلهم.
"8".
امتدحتُ رهط الرعاة الذي عَبر الوادي، وكُنتُ مُتحمّساً الى مشاركتهم نصيبهم
مِن ما تركته الطيور بعد هجرتها. فَصَلني عَن اللحاق بهم غزلي لخيوط شَجَرة
فنائي وتحلّلي. بلغتُ ساحل البحر ورغبتُ باعطاء كُلّ دلفين سمكة مِن بدني.
هل يحتاج عابر القناطر الى المناصرين؟ تقصَّي الزَمَن فعل مضاد للطبيعة،
والمرء في النهاية يذوب ويحلُّ في الحُفرة الهرمة.
"9".
رغبة غير مُصرَّح بها أبديتها للميسورين وكنتُ أسرعُ
مشياً منهم للوصول الى الأبدية. الاعتراف بحسن لحظة
الغياب عَن العالم. يقترنُ ما أتساكنُ معه في الخمول ولا
تتعاقبُ عليّ أمطار الربيع. غالبية الذين انفصلتُ عنهم
يربطون قلّة نومهم الى الخصام مَع اللازورد الشاحب
للشَمس. لا يدرك الفاني سبب قبوله ضربه في المدية
قَبل ولادته، والجروح لا تلتئم لدى الأسياد الذين ما
تنبأوا باقتلاع الطوفان لشواهد أضرحتهم. ما يثير القلق هو
هذه الشذرة التي يضعها الله في جبين الانسان. خُلِقَ للفَناء.
"10".
معاصرون وقدماء افْتَرضوا أن الالوهية تناوىء الطَبيعة،
والتَجمّع لَدى البَشر يَمْنَحهم إمْكانية خَلق الله والتَعايش مَعه.
آدم تَشَدَّدَ مَعَ الجَماعات التي اشْتَرَطَت فصل الرَقص عَن
الحَصاد، وَقَطَعَ شَجَرة الشعوب التي نَبَذَت الإيمان بالأمومية
وَلَم تَسْتَجب الى بَلاهته. تَحْظى كلّ القَبائل الأمّية مِن لدن
الله بترحاب عَظيم، وَتَكون بَعد موتها مَرْهوبة تَتَضرَّع لَها
النجوم والأمْطار والإشارات في الحجارة. سرّية تامَّة أحطْنا
بها قدوم المَلائكة الينا أثناء حَصادنا القَمح، وَنَطَقَ الذينَ
دَفنّاهم يَتَربَّصون بأفعى جلجامش وأفعى آدم. لا السَكن في
الفردوس مريح، ولا شواء غزلان الرنَّة في الجحيم ينضج
اللحم. إيماننا الأبْله أدانته الشعوب التي غَرَقَت في الطوفان
وَبَسَطَت نفوذها على التاريخ.
"11".
نواح جَماعي بادَلْناهم فيه الخَمر والبَرق والمحبّة.
عرَّافاتنا وَعرَّافاتهم لَهُنَّ قدْرة فائقة على إغواء الخير
وَتَحْميله مسْؤولية الحفاظ على فراء أجْيالنا، لكنَّ
الذينَ يُضيّقون الفَضاء عَلى الأمل والرَغبة. يسرعون
الى وَضع المقصّ فوق رأس الميت في النَسيم. الله
الذي يذْعن الى طَلبنا المعونة منه، يرْسل ملائكة في
الفَجر وَتَبْني في سكّينَتيَ المقصَ الأرض والسماء.
يَقود فعل الشرّ والتَعَدّي على الغير الى فَرضية ما
ربما يَعرفها سوانا، والاعتقاد بوجود صلة بَين شَعب
تَتَعايَش مَعَه الملائكة، وَبين الذين أعْرَبوا عَن توقهم
في الخلود وسافروا الى أرض الله. حَقيقة ألْزَمْنا
أنْفسنا فيها، وَغيَّر الله رَمْيته للقوس ضدّنا.
"12".
تَذَرَّع الأراذل بمَعيْشتهم التي أظَلَّتْهم فيها خشْيَتهم مِن المغامرة
بوجود أرْض أُخْرى، وتَبادَلوا الثَلج فيما بَينهم واتَهَمونا بمجاوزة
الحدّ في تَوْبيخهم. إلْحاق الأذى بالفَرد الذي أبادته السَكينة وَهوَ
يبْرم خيوط كَفنه عَن عَمد. رَغْبة هائلة لّدى الذين لا يَرْتَضيهم
عَيْشهم بالعالم الدهْليز. رَصائع غَريبة على وجه الميت الذي
يَنْصب رايته وَيَقْتل الماموث بعظامه. النساء الفينوسيات في
سَهَرهنَّ ومغازَلَتهنَّ للجَمال، يأملْنَ مِن الزَمن أن لا يَنْفَصل
عَن اللحظة. بَعض الأشْياء التي لا تَتَطابق مَعَ خبرتنا في فراق
المَحْبوب، نَعْتَبرها صاعقة مُدبَّرة مِن قبل الذين اضطروا الى
الغَرق في أُوّج عشْقهم. يَسْعى المُحبّون قَبل موتهم الى كتابة
المَراثي لأنْفسهم، وَيَخْرجون الى مفازة اللاعودة باصرار رائع
على إطْراء الزَمَن.
コメント