top of page
Search
Writer's pictureasmourajaat2016

جلجامش وتانيتب *قلم: جلال المخ



ينبثق الفنان سمير البياتي من عوالم فنية وإبداعية ضاربة في القدم مرّ بها القطر العراقي الشقيق منذ عهد السومريين. ولقد كانت بلاد ما بين النّهرين مهد حضارات عريقة عرف الفنّ فيها انطلاقة الانسان يبحث عن نفسه بين الأرض والسّماء ويتفاعل مع العناصر الطبيعية يسائلها عن معنى الحياة منذ القدم ويجسّم هذا البحث المتسائل وهذه الرّحلة المضنية في أعمال فنية متنوّعة شكّلها في الطين والحجر والنحاس والفخّار.

أمّا جذوره الحديثة فتضرب في تاريخ الفن التشكيلي العراقي الذي يعتبر أهمّ المدارس العربية الفنية في التاريخ الحديث التي جسّدها التشكيليون الرّوّاد من أمثال عبد القادر رسّام ومحمد صالح زكي وعاصم حافظ والحاج محمد سليم الذين أرسوا دعائم المدرسة التشكيلية العراقية ورسموا معالمها الأولى قبل أن يسلّموا المشعل الفني إلى الجيل الأوّل مثل قاسم ناجي وأكرم شكري وعطا صبري لتواصل الحركة التشكيلية العراقية رحلتها مع جيل الخمسينات الذي زخر بعشرات الأسماء الهامّة مثل فائق حسن ونوري الرّاوي وكاظم حيدر وسعاد فائق حسن وقحطان المدفعي ومحمود أحمد...

وتجمّع العديد من التشكيليين في مدارس أو حركات طبعت تاريخ الرسم في العراق وفي الوطن العربي عموما مثل مجموعة بغداد للفن المعاصر التي من أهم أقطابها جواد سليم ولورنا سليم وطارق مظلوم وفؤاد جهاد وكذلك المدرسة الانطباعية التي مثلها حافظ الدّروبي وخالد الجادر وعلاء حسين بشير وسعدي الكعبي ومدرسة المجدّدين التي ظهرت بعد ستينات القرن الماضي والتي من أهمّ أساطينها سليم الدّباغ وأمير العبيدي وفائق حسين وكذلك مجموعة الرؤيا الجديدة من خلال أعمال ضياء العزّاوي ورافع الناصري ومحمّد مهر الدّين أو مجموعة البعد الواحد من خلال أعمال جميل حمّودي ومديحة عمر وقتيبة الشيخ النّوري، لتواصل هذه المغامرة رحلتها عبر الزمن تستشرف المستقبل وتبحث عن جماليات جديدة وتخوض تجارب ومغامرات بعيدة تجعل من المدرسة التشكيلية العراقية أهمّ المدارس الفنية في البلاد العربية من حيث التنوّع والثراء وعمق التجارب.

من هذا التاريخ الفنّي الزّاخر انبثق الفنّان سمير مجيد البياتي المتحصّل على دبلوم معهد الفنون الجميلة ببغداد سنة 1986 لينخرط في تجربته التشكيلية ويرسم معالمها ويمضي في استكشافها واستكناه عوالمها ليجسّد عالمه التشكيلي الخاص ويستبطن أغواره ويغوص في أعماقه محاولا تجسيم أبعاده ودلالاته من خلال رسومه. ثمّ غادر وطنه الذي أثخنته الحروب والمؤمرات الدولية وحسابات النظام العالمي الجديد ليقيم باليمن قبل أن يشدّ الرّحال إلى تونس كما شدّ إليها الرّحال من قبله عدّة فنانين عراقيين ساهموا في تنشيط الحركة التشكيلية التونسية من خلال أعمالهم المتعدّدة من أمثال ضياء العزّاوي وعامر رشاد ومثل عدّة شعراء وأدباء أقاموا بها نهائيا وتزوجوا فيها مثل الأديب والروائي عبد الرّحمان مجيد الربيعي.

وما تعريجنا على الأدباء والكتّاب العراقيين المقيمين بتونس إلا لأنّ سمير مجيد البياتي يحمل بين جنبيه روحا شاعرة لم تكتف بالتشكل من خلال الريشة والألوان والأصباغ بل تجسّدت عبر قصائد شعريّة تحكي همومه وﺁلامه وتتغنّى بأوجاعه وخيباته وترسم تمزّقه وتبرر تشظّيه وتبحث رغم ذلك عن مواطن الجمال في الكون مبشرة بقيم الحبّ والأمل والتفاؤل والحلم بمستقبل أفضل يعانق فيه الإنسان أخاه الإنسان ويأخذ بيده ليسيرا سويّا في دروب القيم النبيلة والإيجابية والمفاهيم الخلاّقة المبدعة التي تعطي لحياة الإنسان معنى وتجعل من رحلته في الحياة رسالة حبّ وسلام. وقد أصدر البيّاتي إلى حدّ اليوم مجموعتين شعريتين أولاهما بعنوان "عودة جلجامش المنتظرة" وثانيتهما بعنوان "ومضات متلألئة". وحسبنا العنوانان يجسّمان كل ما ذكرناه عن هذه الشخصيّة فالعودة إلى ملحمة جلجامش أقدم الملاحم في تاريخ البشرية تؤكد تعلّقه بجذوره الإنسانية والإبداعية الضاربة في أغوار القدم السّحيق وتحيل على نشوء أولى حضارات الإنسان تهيئ لمغامرته في اجتياز التاريخ والزّمان والمكان يبني الإنسانية ويعلى صرح تطوّر الإنسان. أما "ومضات متلألئة" فيحيل على شخصيته التشكيلية وأهمية الألوان والأضواء في تجسيدها وتحقيق الأعمال الفنية من خلالها.

لقد تعانقت ﺁلهة الرسم وﺁلهة الشعر في روح الفنّان سمير مجيد البياتي حسب التعبير الجبراني عن تجربة الفنان الشاعر الانقليزي الكبير الذي كان قدوة لجبران خليل جبران وهو ويليام بليك "William Blake".

والحقيقة أن الكثير من الرسّامين كتبوا الشعر والعكس بالعكس وكأن العوالم التشكيلية على رحابتها ضاقت بخيالاتهم الشاسعة وتدفّقاتهم اللاّمتناهية فلجؤوا إلى القصائد يحمّلونها لواعجهم ومشاعرهم المتوهّجة وليس أدل على ذلك من أنّ عظيمي فنّ الرسم في عصر النهضة الإيطالية بمدينة فلورنسا لييوناردو دافينشي ومكائيل أنجلو كتبا الشّعر ودبّجا القصائد رغم إنجازاتهما التشكيلية مترامية الأبعاد.

والرسام سمير مجيد البيّاتي غزير الإنتاج كثير النّشاط أقام وشارك في أكثر من عشرين معرضا بالعراق وفي أكثر من سبعة تظاهرات بالأردن ودرّس الرسم وأنجز الأغلفة لعشرات الدواوين الشعرية والقصص باليمن خاصّة.

أمّا في تونس فقد تواصل نشاطه الإبداعي بل تزايد ليفوق الثلاثين مشاركة في المعارض والتظاهرات الفنية وليشارك كذلك في التظاهرات والملتقيات الأدبية والأمسيات الشعريّة.

منذ وطئت قدما سمير البياتي التّراب التونسي يوم 10 سبتمبر 2012 زار أوّل معرض يكتشف من خلاله الفن التشكيلي التونسي بعد ساعتين. وبعد عشرة أيّام نشر أولى مقالاته النقدية حول الرسم التونسي بجريدة المغرب وتعرّف على عدد هامّ من التشكيليين التونسيين أو العراقيين المقيمين بتونس وغيرهم من ذوي الجنسيات المختلفة وفي ذلك يقول: "أردنا المساهمة في التوثيق للمرحلة الرّاهنة من حركة الفنّ ﭐلتشكيلي التونسي والتعرّف على أجيال الفنانين وهم يعرضون عصارة تجاربهم الفنيّة... ومثلما قادتني رحلتي الفنيّة من العراق فاليمن واليوم في تونس دأبت على حبّ الفنّ والفنّانين والإخلاص لهذه المهنة، فعالم الفنّ واسع وشامل والفنّان توّاق إلى معرفة مساحة اللّون والخطّ والغوص في ثناياها والانفتاح على حياة الفنّ والفنّانين السّابقين منهم والجدد واكتشاف عوالمهم وقراءة أفكارهم من خلال منسوبهم الإبداعي...".



إن سمير مجيد البياتي مبدع دؤوب محبّ للعمل والبحث والفنّ وقد تجسّد هذا منذ أن لامست قدمه التراب التونسي فانغمس سريعا في حركتها التشكيلية والفكرية إنتاجا وتنشيطا وبحثا ونقدا وليس ذلك لأن تونس بلد مضياف وأرض إبداع خصبة فحسب بل لأن روح هذا الفنّان لا تبنغي الرّاحة والسلبيّة ولا تأنس إلى الهدوء والسكينة بل تتوقّد نشاطا وترنو إلى دفع العمل الفني والثقافي بلا هوادة ودون تؤدة. وقد أثمر تنقله المتواصل بين التظاهرات والعروض والملتقيات إلى إنتاج عشرات المقالات النقدية تتعلّق بالحركة التشكيلية في تونس قبل أن يجمعها في هذا الكتاب الذي نحن بصدده والذي عنوانه: "قراءة بصرية في الفنّ التشكيلي التونسي". وسرعان ما أصبح المؤلف واحدا من أكبر المطّلعين على فنّ الرسم التونسي وغيره من الفنون نتيجة لنشاطه الكثيف وتنقله بين قاعات العروض وصالونات الرسم ومعارض اتحاد الفنانين التشكيليين الذي سرعان ما منحه عضويته نظرا لقيمة أعماله وجدّيّة مقارباته. ويعتبر الفنّان أنّ وطنه الكبير هو الفنّ عموما مهما كانت الجغرافيا التي تحويه لذلك تراه يكثف العمل حيثما حلّ ليجد في الحركة التشكيلية التونسية مادّة لتأمّلاته ومخبرا لآرائه ونظرياته في الفن التشكيلي عموما. ويقع هذا الكتاب في مائتين وأربع وخمسين صفحة من الحجم المتوسط سلّط الضّوء على التّجارب الإبداعية لأربعة وخمسين فنانا تشكيليا بالتمام والكمال وأبرز خصوصياتها وأتى على نقاط القوّة والتميز فيها مبديا ﺁراءه بكلّ موضوعية وتجرّد.

ولعلّ ما يزيد هذه القراءات أهمية وموضوعية علمية هي أنّها تقارب الأعمال الفنية بذلك المنظار الموضوعي الذي صنعته التجارب التشكيلية العراقية العريقة ولم تكن نظرة داخلية قد يغلب عليها الذّاتي والانفعالي بحكم الانتماء والتموقع في فضاء ما من فضاءات الحركة التشكيلية التونسية.

لقد انضمت إلى ﺁلهتي الرسم والشعر في نفسه ﺁلهة البحث والنقد والتمحيص وكان عمله دقيقا وعميقا تطلب مجهودا أكبرا بذله هذا الرّجل الذي وهب عقله وجسمه لخدمة الفنّ والفنانين وليس أدلّ على ذلك من أنّ الكشاف الذي ذيّل به الكتاب يحتوي على مجمل أسماء المبدعين الذين تعرّض إليهم الكتاب وعددهم بالضّبط مائتان وثلاثة وثمانون إسما تنوّعت مشاربهم الفنية وتعدّدت اختصاصاتهم التشكيلية وتعقّبتهم عين المؤلف الثاقبة تدرس أعمالهم وتحلّل تقنياتهم وتحدّد مناهجهم وتستطلع أبعادهم ومراميهم الجمالية.

وما من شكّ إذن في أنّ سمير مجيد البياتي يحبّ الفنّانين والفنّ بصفة عامّة بل ويعشقهم. وقد كان ذلك العشق المحرّك القويّ الذي جعله يبذل هذا المجهود الكبير لإنجاز هذا العمل الهامّ ويزيد ذلك تأكيدا ارتباطه في بقية رحلة العمر برسّامة تونسية هي السيّدة "سلافة" ليتمازج الحبّ والفنّ في الحياة والإبداع وليعانق جلجامش تانيت على ضفاف قرطاجة...

حمّام الأنف: 14 ديسمبر 2016

35 views0 comments

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page