يحيلنا النص منذ عنوانه إلى الغموض والغرابة. برقية والبرقية تكون مقتضبة من كلمتين أو على أقصى تقدير جملة أو جملتين؛ لا تخضع للشرح ولا التفصيل بل هي أمر وعلى متلقيها التنفيذ. ولكن بمعرفة المرسل إليه تزيد دهشتنا إلى الكاهنة ومن هذه الكاهنة أهي في صورتها الرمزية أم أحياها بعد فناء. برقية إلى الكاهنة وأي محتوى ستحمله؟ هل ستكون استغاثة أو طلب معونة أو نصره أو الاستعانة بدهائها ومكرها في حربه مع ذاته مع مجتمعه مع قلبه؛ مع ماضيه؛ مع حاضره وحتى مع مستقبله. وطن السنابل نسبة إلى الخير والثراء يستبقه الشاعر بفعل تقتحمين لنرى صورة الكاهنة المحاربة وفعل الاقتحام معناه سلبي وفعلها فيه اعتداء على السنابل على الشرف على الكرامة. تجرح الريح سمرة الأشياء: تأتي الريح لتهب على نيران خلفتها الكاهنة واستعارة السمرة نكاية عن الاحتراق.
ولا تكتفي الكاهنة بل تطلق حكمها وياتي في قول الشاعر رجاء أن تفقدي المعنى قبل نطق العبارة.
يتكهن الشاعر بهول ما ستنطق به ومن هوله سيتغير الكون ويكبر النهار في ليله وينعدم الضياء ويسود السواد في استعارة الليل ويضمحل الحب ففي اعتناق الليل للحب تشويهه بالقتامة وهي رمزية ومجاز في العبارة بين المقصود والمفصح عنه
ينتقل الشاعر إلى الترهيب في إشارة منه إلى أنه لا أمل من استعطاف قلب كاهنة لا تعرف معنى الحب؛ عين الرب جاهزة لالتقاط القلوب الرهيبة؛ تلك القلوب الواجفة الصادقة المغدقة في الدعاء ولكن على قلتها وخوفا من عدم قدرتها على تحقيق الخلاص؛ يطلب منها الالتفات إلى ما وراء وجهه ستجد التحدي والاستعلاء؛ وكأننا بالكاهنة تصدر الموت وهو يتحداها ويسير إليه بانتشاء في إشارة ساخرة أن ما تفعله لا يخيفه بل يزيده اصرارا؛ اصرار على الحب حتى الليل الذي تبعثه حوله إلى حب بل زاد تحديه لها أكثر وزاد في استفزازها وأطلق عليها صفة الحب من أعماق حقدك ولا انسانيتك ومخططاتك وكل دهائك أيتها الكاهنة ولكنك أنت الحب.
يذكر الشاعر الكاهنة أنه اختلاط دم من عرب وبربر في إشارة إلى خالد بن يزيد الأسير العربي الذي أرضعته ليكون أخا لأولادها. كما يذكرها بأنه حفيد لها فهو من أصول بربرية فهل تتخلى عن أحفادها وهي من أحرقت الأخضر واليابس من أجل شعبها.
يساوي الشاعر بينه وبينها بل يسمو عنها بدرجات إذ يقول أنا وأنت ولم يقل أنت وأنا وفي ذلك إشارة إلى أنه الأولى بالاستمرارية والبقاء. وما يؤكد ذلك ما سيأتي بعدها من أمر لها بالارتداد أي العودة ولكن قبل ذلك ارفعي يديك عن الممتلكات الطبيعية فهي من حقنا من مقومات الحب والحياة؛ عودي إلى الفناء أما الموت فهو حياة لهذا أذهب إليه وكلي انتشاء أنا العربي المؤمن بالبعث بعد الموت الرافض للفناء.
بين كل هذا الضباب والظلام يجنح الشاعر إلى الكأس لتسقه الذهاب نحو الذهاب. أي ظمئ يتطلب الارتواء؟ هل هو ظمأ الحب أم الوطن أم الخيبة أم الرجاء؟ أي ذهاب ينشده؟ هل هو حمل الموجود والذهاب به حتى يبلغ المنشود؟
الوقت ليس للعتاب إنه وقت العمل وقت النجاح؛ لا مجال للتكهن ولا للخرافات عرس الذئب وازمنة العجائب والخزعبلات تجاوزنا كل هذا فلا تلجئي لالهائي فما عدت صغيرا ولست في موقع الرهينة العربي لأقبل بحيلتك فأنا بربري عربي حملت منك الكهنة وحملت منهم الشموخ والشجاعة والإباء.
احفري في الريح اسمينا تتحول هباء كما يتحول صراعنا اليوم هباء بل إن ما يحدث غباء غباء.
كأنه يحملها مسؤولية ما آلت إليه الأرض في رمزية النخلة والسنابل؛ فهي أرض رخاء ومع هذا لا تقوى على توفير العيش الكريم لهؤلاء القلوب الرهيبة والسبب ما فعلته الكاهنة ديهيا بالماضي الاغبر من حرق وقطع للنخيل وإبادة الخيرات في محاولة منها لارجاع الجيش العربي للوراء.
كل ما فعلته أيتها الكاهنة من محاولات ضاع بها فها أنا حفيدك العربي البربري اختلط دمي ولكنني جائع مسكين وفاقد الحب الذي أرضعته لجدي مسموما.
يستعير صورة العبادة في رمزية السجاد. كآلهتين تعبدان الرب الواحد وتلجآن إلى الدعاء لاسترداد السيادة؛ فهو في زمن ما عاد للكاهنة فائدة ولا قدرة على استرداد القيادة. يطلب الشاعر من الكاهنة أن تتنبأ به حينها فقط سيعترف لك بالكهانة؛عندما تعترفين في تكهنك بكل ما كنت ترفضين وحين ترجعين ما أبدت وحين تعترفين بأن الحب هو السيادة وأنه الحامي من كل السفهاء والقوادة.
يختتم الشاعر نصه بدعوة أن الدين فقط للحب وأن الحب نخلة بعلوها وسموها وشموخها في حقل سنابل ملك محاط بالخير والنعيم هو الدين الحقيقي هو العبادة.
*نص القصيدة:
*برقية للكاهنة *
وأنت تقتحمين وطن السنابل تريثي حتى لا يكبر الوقت
وتجرح الريح سمرة الأشياء في جسد يحمي الشمس من التهرؤ...
وأنت تتكهنين بما يستتر خلف العبارة
تفقدي المعنى المرسوم على شفتيك...
سيكبر النهار في ليله ويعتنق الحبّ أكثر...
وأنت تبتسمين لآلة التصوير
تذكري أنّ عين الربّ جاهزة لالتقاط القلوب الرهيبة
وأنت تقلدين خطوات السحاب في أزرق الوضوح
التفتي إلى ما وراء وجهي
تجدين القلب يمشي الى ضريحه في انتشاء...
ويسلب الليل من ليله ويسكر...
ليسخر من الوحدة والضياع...
ليس للحياة معنى خارج الحبّ...
الليل حبّ... والأم حبّ... والأرض حبّ... والحبّ حبّ...
وأنت... والحبّ...
متوازيان التقيا بإذن الله في منعطف الزمن الأغبر...
وأنا... وأنا اختلاط الدم من عرب وبربر...
وأنا وأنت سلطان الحبّ الأكبر...
وأنت... وأنت حين ترتدين لأول المنبع...
دعي الروح تشبع من الريح
وترتدي طقوسها في صمت النار...
لليل حكمته فينا حين ينهمر مطره تولد من رحيق الصمت أشعار...
ويتكاثر ضجيج أوتار الغياب...
ومن غربة تكفن عمري
أجنح لكأس تسقيني الذهاب المستمرّ نحو الذهاب...
هذا الوقت ليس للعتاب...
كاهنة الرمز المختفي بعيدا عنّي...
وعن أسباب العشق
تأملي السنابل...
لا الصور تحكي ولا القلوب الحمر... أحزان البلابل
تغنّي عرس الذئب في أزمنة العجائب...
إذن لا تفارق الذي يحتاجه الزمن منك ومنّي...
بل اخفري في الريح اسمينا
وكوني العجب...
وتراتيل ليل طرب
بما اتفق الفارق الوطنيّ فيه على تنزيل تواتر السنين بيننا
وارتكب كلّ جرائم الهرب بعيدا عنّي وعنك...
تلك مسالك في أرض الربّ نمشيها...
ونتقمّص غباءنا الفطريّ حتى ننسى
ونستكين الى المساحة... في أرض السنابل الصريحة...
يا كاهنة العرب والبربر على السواء...
أما ارضعت حليك الأعداء وقلت لهما كونوا اخوة...
وأسوة بالموت دبّرت للنار أرضا للحرق...؟
وها اليوم نشتهي معا رشف الزلال
من جمر الجحيم حتى يعيش الحبّ في ظلّ نخلة جنوب
من نار ورمل شمال من ثلج وطين...
ها نحن اليوم نستلقي على سجاد العبادة
كآلهتين رماهما التاريخ في زمان ليس فيه للعباد سيادة...
ولا حتى للآلهة مكانة في قفص حكّام النهب والسلب وزيادة...
يا كاهنتي تنبئي بي حتى أعترف لك بالكهانة...
قولي لحبات القمح
أنني قادم
من خلف الحجب أقول كلّ الحقيقة بغير ترتيب مسبق
وأمضي الى قلبك
كزبد موج رمته الريح على قلبك...
أو كطير يسبح في ترانيم انشاده...
وباركي صبري وصومي
عن الاعتراف بمكارم اصحاب السيادة...
أنا الذاهب حتى حدود عمري بكلّ ما فيّ من حبّ للحبّ
أحتمل التأويل
اذا ما اصابني شكّ في خارطة تمرّ إلى سرعة الضوء...
عند ترهّل أوراق القيادة
وانكمش على ظلّي...
حتى لا يستأنس الماكر بطقوسي...
ولآني أعبدك كما يعبد العصفور ريش الشمس...
أختفي دائما في صندوق صغير معلق في قلادة...
وأكتب على المرمر اسم الحبّ
حتى تحتمي الدنيا به من شرّ كلّ القوادة...
إذن كاهنتي...
وأنت تفتحين قلبي...
رتلي بالصوت العاري...
كان هنا ولم الحظه أو حتى اراه...
لكنه كان الحبّ الوارف كنخلة في حقل سنابل
أو كعنقود عنب في ثلج
أو كقرآن الإنسان
كدين لم يذكر في اللوح المحفوظ...
لكنه هو الدين الحقيقي للعبادة.../...
المختار المختاري 'الزاراتي'
تعاليق من شعراء آخرين حول القصيدة:
-1- إعتراف دون ترتيب وإختلاط العبارات لم يفقد المعنى للكاتب تحت يد الكاهنة ودخان البخور لم يفقد بصيرته ليروي سماة الحُب والحٓب الحياة والأخرة الشر والخير العبادة والطقوس تعذب تحت يدها بحثا عن الحقيقة وأصله وفصله ودمه رغم التيه وفقد السيطرة للخروج بصورة معبرة تمسح تراكم الصور إلا أنه يتيه أخرى محاولا للخروج من النص سالما بعودته للواقعية والعاقدية ليتلو سور تذيب شيطنة الكاهنة.......نص رائع
عبدالقادر لقرع
-2- الكاهنة هي بين الخيال والواقع يتخيل الأنثى مثل الكاهنة يخاف أن تأتي وتقتحم أرض السلام وهناك من يحمي أرضنا من كل عدوا يتخيلها أنها مستهزئة بالواقع ويقول آنت تحلمين لأن الحب والمحبوب والحبيب خلقهم الله على الأرض وخلقنا مثل حبات الخرز لنا كل الألوان ولكن القلب والدم والروح والجسد واحد ونحن كلنا إخوة لدى الرب ولكن أناس خلقوا للشر وأناس للخير ومن يصنع طيب الأثر يحصد محبة الله والبشر وآنت أيتها الكاهنة خلقتي مثلنا أم وأخت وزوجة وتشبه بالقديسة مريم التي خلقت تحت نخلة ووهبت ابنها لخلاص البشر والتوبة والعودة إلى الله وبالأيام القادمة انشالله سيحل السلام والمحبة والؤام بين البشر وتحيا السنابل وتنشد الطيور وترقص الفراشات ويعم الحب بين البشر أجمعين ونعود إلى عبادة الله أكفان بلا جيوب أول مشاركة وتحليل إن أعجبكم ذاللك ولكم الشكر
-3- نقد رااائع وبناء قدمته الأستاذة سيما حبابة
عنوان مناسب للنص
كلمات منتهى الروووعة وصور بيانية
جميلة من تشبيه واستعارات وغيرها
لغة سليمة
عاطفة تتجلى بحب الوطن والدين والتعايش السلمي بين الجميع
تحية لكاتب او كاتبة النص
-4- برقية عجيبة غريبة من الكاتب ﻻن المتعارف عليه بأن البرقية هي عبارة عن سطر أو سطرين أو لطلب أمر ما من جهة معينه ولكن الكاتب هنا يرسل برقيته إلى الكاهنة ولكن من هذه الكاهنة التي يرسل لها هل هي صورة تعبيرية معينه هل يرمز بها إلى شخص معين هل هي العرافة التي يتمنى أن يلجأ لها لحل مشاكله وما يعتلج صدره من تساؤﻻت وأفكار.. هل هي امرأة... ليطلب منها أن ﻻتدوس سنابل القمح وهي عبارة عن الخير الموجود في البلاد كأنه يحملها مسؤولية ما لحق ببلاده من أذى وشر واختفاء الخير من اﻻرض.. بسبب ما تتنبأ به من أحداث فيطلب منها الحرص و اﻻنتباه إلى ما تقول في كل مرة تتحدث بها. ونرى أيضا إن الكاتب يحملها مسؤولية الصراع العاطفي الذي يعيشه بين اﻷرض والوطن والأم والحبيبة فلكل منهم حبه الخاص وهو يعيش في صراع مع هذا الحب والكاهنة تتحمل نتيجة هذا الصراع الذي يعيشه والانقسام الذاتي الذي يعذبه ولكن ما جدوى طلب المعونة من كاهنة وإغفال طلب المعونة من الله سبحانه الذي تبقى عينه ساهرة ويعلم كل شيء وينصر المظلوم....
ما بال الكاتب يتحدى الكاهنة في ليلها اﻻسود ويحوله إلى نهار والحب الموجود في صدره وكأنه يقول لها بأن كل ما تتنبئين به ﻻيخيفني ويتحداها بأنه سينتصر عليها بعزيمته وإصراره.. لأنه هو أحد أحفادها فهو أيضا من البربر ويملك عنفوانهم وعزيمتهم وسيحول المستحيل إلى حقيقة بالعزم والإصرار. واللجوء إلى الله لاسترداد الحق وسيادة اﻻرض وسيادته وعندها لتتنبأ بما سيحدث له وإذا كان صحيحا سيعترف بها.... كما يطلب منها أن تتخلى عن كل شيء ﻻن الحب هو المنتصر دائما. كما يختتم نصه بأن الدين هو دين محبة وسلام الحب السامي المتجذر بالأرض كالنخلة الباسقة ﻻتتأثر بالرياح العاتية وتبقى متشبثة بالأرض وتطرح الخير والسﻻم
-5- إلى الكاهنه هل عرفت الحب يوما الحب يتراقص بين أروقة القلوب وستائر الروح سمفونية تعزفها حروف من نور وضياء الله ينشر شذاه على الداعين له من اجل الإجابة الحب طهارة ووضوء وصلاة وراحة للنفس شهرته ملأت الأكوان سعادة وسرورا وسحائبه انبتت ألاف سنابل القمح الحب في جوهره نبت في الأرض وأينع في السماء.
* عرض ومناجاة مع القلم للكاهنة التي حسب المعتقدات القديمة يعرفون الغيبيات وماذا يحدث في المستقبل وهم المقربون من بلاط الملوك والأمراء ولكن خاطرتك سعادة الدكتور ة نادية ما هي إلا توجهات ومناداة للكاهنة بقلم سحرنا بحرفه يا كاهنه رتلي بالصوت العاري أي بالتجرد عن الحب إكسير الحياة أو كتراتيل آيات من القران أو كدين ينبذ الخرافة والأساطير يا كاهنة عودي إلى رشدك لدين السلام والأمن والوئام يا كاهنه بيراعك دكتورة سحر أخاذ بالباب دمت بحبات الندى والطل وسحائب الخير والبركة مقال محكم البنيان وساحر الكلمات من أوله لنهايته
*رسالة الشاعر إلى كافة المتدخلين في موقع أمنيات بين الخيال والواقع لرائده الاستاذ رائد عبدالرحمن سويدان الموقع الذي دار فيه هذا الحوار حول القصيدة بإدارة الاستاذة نادية الأحولي:
في البداية أنا شاكر وممنون لأخت الدم التي تقدمت بورقة على اختصارها قد وفت وكفت عديد الجوانب التي تمكن القارئ من ولوج عالم القصيدة. واجتهدت لإيصال فكرة القصيدة في مفاتيح رمزها العام وبعض الرموز الموازية للرمز الأصلي. وهي أتقنت وأجادت الشيء الذي جعلني ولأول مرة أكتشف أنها ليست فقط شاعرة وإنما أيضا ناقدة وفيها من الأكاديمية ما تسلحت به وهذا أبهرني لهذه الثنائية التي قلت على أيامنا وندر وجودها في الصف 'النسوي' وحتى الرجالي في نسبة مهمة.
وأيضا لا يفوتني أن أشكر كل المتدخلين وأذكر على وجه التخصيص كلّ من السيدات سيما حبابة والسيدة هدى بياسي و السيدة مايا صالح والسادة الأفاضل عبدالقادر لقرع و السيد أبو مصعب البدوي الذين أتو على جوانب مهمة من عمق القصيدة.
فقط رغبت في توضيح بعض النقاط التي رأيت فيها أهميّة بالغة وأولها ما أشاعه مؤرخ المنتصر من رواية ليس فقط للأحداث ولكن مست الشخصية التي مرة يضفي عليها هالة السحرة والكهنوتية وتارة أخرى يعطيها حقها في الدهاء فيذهب في تأويل الاسم الحقيقي (ديهيا) لاشتقاقه من اللفظ العربي داهية في إسقاط موجه ومقصود.
ديهيا هي زعيمة قبلية وقائدة حرب ماكرة وذكية وشرسة وحكيمة أوقفت الزحف الإسلامي عند حدود أرضها ومملكتها وأسرت ابن قائد الجيوش الفاتحة ولم يتمكنوا من دخول أراضيها إلا بعد خيانة الابن الذي أرضعته من ثديها مع ابنها الشرعي (لبنا مخلوطا 'بالبسيسة' وهو دقيق خاص بأهل المكان) ليكون أخا لأبنائها بالرضاعة وبالتالي هي أول من قام بتوحيد الصفين على أمل أن يغير الطرف الآخر من نواياه التي عبرت عليها يوم خطبت في قومها قبيل تنفيذ مخططها العسكري (والذي يدرس حتى يومنا في مدارس تكوين الضباط العسكريين في كبريات الدول المتقدمة والمعروفة بخطط 'الأرض المحروقة' أو سياسة الأرض المحروقة. وبالتالي ألهبت النار في كامل ما يسمى بأرض الجرف الذي يمتد من الجنوب التونسي وحتى طرابلس ليبيا والذي كان أرض خير وأشجار كثيرة) هذا الخطاب الذي بدأته بكشف سرّ من خلال رغيف خبز كان الأسير يخفي فيه رسائل لأبيه القائد في الطرف المقابل فيه كل المعلومات عن ديهيا وجيشها وخططها.
وقالت بالحرف (أن المحاربين القادمين جاؤوا فقط للمرعى والمأكل يعني لثروات وخيرات البلاد أساسا وبالتالي جاؤوا للنهب والسلب) ورأينا فيما بعد ماذا كان من ثورة صاحب الحمار من قبيلة صنهاجة وهي المسلمة البربرية يوم ثارت ودخلت القيروان فاتحة لها بعد رفض الأمير رفع الجزية والخراج وغيرها من الضرائب التي فرضت عليهم وهم اللذين أسلموا ودخلوا الإسلام طواعية ونبي الله كان أوضح من قال برفع كل الضرائب على من دخل الإسلام ومعاملته معاملة المسلم سواسية فلا فرق بين المسلمين مهما كانت عروقهم وأنسابهم. وهو ما أكد ما ذهبت إليه ديهيا الحكيمة.
واليوم وما نعيشه من فصول وتفاصيل لها مساس ليس فقط بغزاة وإنما بما في الداخل من خيانات وكلها ضمن عنوان واحد بشرت به ديهيا في خطبتها المذكورة حول الثروات وخيرات ورزق ورغيف وعرق وتعب أهل المكان وتمس اليوم حتى دينهم وانتمائهم.
هذا ما يصب في المعنى ولو باختصار ربما أجحف فيه الى درجة تنسيني بعض التفاصيل ذات أهمية حضرتني لحظة التفاعل الكتابي في نص القصيدة. وهي مرتبطة بتاريخ المكان وما يرتبط به من غير المكان في العالمين العربي والغربي.
وأما يخص بناء القصيدة فإنها كتبت ونشرت على براءتها وبدون تدخل حرفي تقني حتى تكون 'ربما عند بعض وطائفة من النقاد) تأخذ شكلا فيه من الأكاديمية إن صح التعبير (أو المدرسية أيضا إن صح التشبيه) ولكني جعلتها تعبر عن نفس منبعها واقعها الذي افرزها في فوضويته وقتامته التي رغما سوداويته المعتمة ينبثق من بعض مجريات الأحداث وتواترها بصيص من أمل يجعل القصيدة فيها من الذي عبرتم عنه من مناجاة وربما تشكي وحنين ولكن الأهم بالنسبة لي هو ما عبرتم عنه في صوت موحد والذي أقتنص منه ما أتت اليه الأخت هدى بياسي في قولها ' عاطفة تتجلى بحب الوطن والدين والتعايش السلمي بين الجميع ' نعم فالكاهنة 'ديهيا' كانت منذ البداية لمن يدرس مواقفها وأفعالها الدالة على حكمة أفكارها أن الأرض تسع الجميع لكن من غير دماء بل بالحب والتعايش والتبادل والتآخي رغما أنها لم تكن مسلمة في معتقدها.
ولهذا ولجملة ما أتيت على ذكره كان العنوان برقية عوضا عن برقيات (فالقصيدة فيها برقيات عدة اجتمعت في برقية واحدة) لأن الشخصية الرمز وجملة الأحداث التي حفت بها حتى نهايتها هي تستحق مجلدات لكثرة ما فيها من مغازي وحقائق غيبها المنتصر عمدا وأيضا والذي أعتبره مهما للغاية أن التاريخ وحتى تلك المرحلة وما تلاها لم يكن للمرأة حضور لدى خصوم ديهيا لذلك كانت محاولة لإبراز قيمة معيارية أخرى لدور المرأة التي ألف الكتاب ومنهم الشعراء تضمينها رمزا للوطن وللتراب وللحب وهذه امرأة حقيقية ورمزا حقيقيا تاريخيا يستثمر في هذا النص لتورية جانب آخر من جوانب التاريخ المريض والذي يجد صداه لدى من نعيش معهم أيامنا الملعونة هذه.
وهنا لا يسعني وأنا أختم الاّ أن أساند ما جاء في تحليل الأستاذة نادية الأحولي في قولها " بين كل هذا الضباب والظلام يجنح الشاعر إلى الكأس لتسقه الذهاب نحو الذهاب. "
أخير ألف ألف شكر لكنّ ولكم أساتذتي وأتمنى أن لا يمسكم سوء ما يفعلون بنا من خلال نشرهم لوباء "كورونا" وأن تكونوا بألف خير حتى نتمكن من مواصلة المشوار معا.
صديقكن وصديقكم
المختار المختاري 'الزاراتي'
31/01/2021
Comments