بين سياط الالتزام وجنون المغامرة لعبة القطيع الماكرة وشرعنة الفنّ:
بقلم :أمامة الزاير
"أن نطرح الأسئلة قرعا بالمطرقة"، هذا الدرس الأول لتكون مبدعا/فنانا، هذه التيمة الأولى لتتمكّن من استيعاب أيّ درس وجوديّ آخر، متطهّرا منذ البداية من المسلّمات التي تثرثر في جيناتك، ساحبا كلّ الوحوش الرّابضة في أعماقك إلى الضوء. إنّها حقا مهّمة شاقّة أن تعبث بكلّ الطابوات وأن تتجرّأ على الخروج من الإطار وعلى اختيار الطرق الوعرة صعودا إلى جبلك الخاص من أجل نحت كيانك والإصغاء بشكل جيّد لما يحدث داخلك وخارجك. ليس مهمّا أن يكون رفيق دربك "سانشو" الأحمق الذي يتعثّر خلف بغله، أو أن يصاحبك نيتشه الكاتب الساخر الذي هدّد ركون الفلسفة القديمة ونقض أركانها. فهل يمكن إخضاع المبدع/الفنان إلى مسلّمات الضبط الاجتماعي والسياسيّ وضمّه إلى مؤسسات المجتمع المدني؟ هل يمكن أن نتخيّل ما قد يفعله هذا المخبول إن وضعناه في حيّز ضيق، في بيت الطاعة وفي صندوق الانتماء؟ هل نتوقّع طاعته العمياء؟ هل يمكن أن نقتنع بانضباطه وهو "النشاز"؟ المبدع/المثقّف لا يكون إلا على اليسار فماهي إمكانات إيقاعه في فخّ القطيع؟ 1/ "المعمل السريّ" للجنون يبدو أنّ الفنّ رافق الإنسان منذ وُجد على هذه الأرض متجسّدا في شطحاته حول النار، نرى أثره على جدران الكهوف التي حملت توقيعه وتفاصيل حياته اليومية وتصوراته وخيالاته، أوهامه وآلهته، نراه في مجسّمات طواطمه التي قدّسها.. وعبر آلاف النصوص التي وصلنا بعضها والتي كانت زاخرة بما نسجته أخيلة الإنسان الأول وفناني العصور الغابرة، من أساطير وحكايات أقرب إلى الخيال. إنّ هوميروس وهو يختطّ الإلياذة والأوديسة كان شاعرا قبل كل شيء. كان حكّاء يعيد كتابة واقعه بكلّ تناقضاته.. "إنّه قالب الحياة النفسيّة اللاّواعية للنوع البشريّ" (1)، فالإنسان في حقيقة الأمر لا يولد عاريا، بل يرث كل تركة أجداده.. في القاع حيث العتمة، حيث الظلال التي تعنّ كأشباح مخيفة، سنعثر حتما على المخزون الثقافي للاوعي الجمعيّ. سنتعثّر بأصوات الرعاة وصراخ المحاربين، بالشيح وبالعرعار بأبطال الأولومب وجبابرته العظام، بآلهة بلا عدد، سنرى الأب المقتول على يد أبنائه، سنلمح أوديب يلتحف بعار خطيئته.. آلاف من الحيوات مخزونة في ذلك الصندوق المظلم في القاع.. تفلت في الحلم وفي اليقظة.. يحرّرها العمل الإبداعيّ من خرسها. من يحرّك ذلك القاع، ولا يخشى أن تحترق يده؟ من يحرّك ذلك القاع وهو يضحك عاليا ساخرا من تلك الخفافيش التي ستقضم أصابعه؟ لقد اختلف الجميع في تعريف مطلق ونهائيّ للفنان، وتشعّبت القراءات التي أرادت أن تتقصّى جوهره، لكن يبدو أنه ثمة إجماع على أنّ الفنان هو الكائن القادر على الخلق والابتكار، المؤمن بأفكار تبدو غريبة وخارج سياقه المجتمعي، اللا منضبط لشيء، الذي يلهث فقط خلف جماليات عمله الفنيّ، الذي يعيش حياته كما يشاء خارج حدود الممكن والمتاح. الفنان لا يكتفي بالجمالي فقط.. فلا فنّ من أجل الفنّ في العمق، فهو في نهاية المطاف يصوّر واقعه و يخرجه من رتابته وجموده. "يحرّك الكأس"/ القاع.. يختار بدقة هندسيّ أدواته ومحامل عمليّته الإبداعية جلبا للسعادة، انتشاء بلحظة مارقة، تلويحا برفضه لما يحدث، مثل قدّيس يحمل ألواحه بين يديه ويبشّر بعالم آخر. "إنّ كلّ شخص مبدع هو ازدواجيّة أو تركيب لصفات متناقضة، فهو من جهة كائن بشريّ يتمتّع بحياة شخصيّة، ومن جهة أخرى هو عمليّة إبداعية" (2) يبدو أنّه "المعمل السري" للجنون فهو الذي يحوّل في طرفة عين مثل ساحر المعقول إلى لامعقول، يدين صلف اليوميّ وتكراره، ويطرح أكثر الأسئلة الحارقة التي "ما من أحد يمتلك الجرأة على مراودتها" (3) استفزازا للراكد والخامل. لا توقفه علامات المنع، ولا يصغي إلى عظات رجال الدين وقساوسته وشيوخه. هو فقط مهموم بالحقيقة كما يراها بعين قلبه وعقله وخياله. قد يكون الأمر جنونيا، لكنّه يحيا كما يريد. 2/ "سفينة الحمقى" "لقد خصّص برانت 116 نشيدا من قصيدته من أجل رسم صورة لركاب سفينة الحمقى، إنّهم بخلاء ونمّامون وسكّيرون. إنّهم أولئك الذين يعيثون فسادا ويخرجون عن النظام، أولئك الذين يؤولون الكتاب المقدّس بشكل سيّء" (4) ألم يطرد أفلاطون من مدينته الفاضلة الشعراء؟ ألا يهيمون في كل واد ويتبعهم الغاوون؟ يبدو أنّ هذه السفينة ستكون ملأى بالشعراء والمسرحيين والتشكيليين وغيرهم.. فهم بطبعهم ينزعون إلى كسر كلّ القيود، ينفرون من الحدود التي يسطّرها المجتمع، هم المارقون عن كلّ القوانين. إنّ المبدع "منذور مسبقا للمتاهة" (5) قدره أن يختطّ عالمه بيديه وأن يسير في الطرقات الشاقة والوعرة، تسيّره خطوته نحو ما يصمت عنه الآخر ويدعه في الظلمة. قدره أن ينزع الستار والحجب عن المسكوت عنه. لم يكن أداة تنفيذ لأجندات المجتمع وأنظمته. فله أنظمته الخاصة وانزياحاته التي ستربك الجميع. ولا يمكننا أن نحددّ له معيارا واضحا لقولبته. فهو الخارج أبدا عن كل ترسانة القواعد والأطر، ضاربا عرض الحائط كلّ مقدّس .. فله مقدّساته وقوانينه الخاصة التي تندرج في إطار عوالمه النفسيّة والإبداعية. يعلن الحرب على كلّ سلطة مهما كان مأتاها ويؤول النصّ كما يشاء بعيدا عن تلك القراءات الثابتة وعن مهاترات حرّاسه والمدافعين عنه. لاشيء مقدّس سواه. لا قدسيّة لغير العمل الفنيّ. هو ابن الحريّة، طفلها المدلّل، لا يسترقّه الواقع ولا يسلبه اليوميّ طقوسه. يظلّ يحفر في "أناه". كائنا حرّا تواقا إلى الأفق الرحب ينصرف كله إلى المغامرة الإبداعية التي هي أشدّ ضراوة من سياط الواقع. 3/ المعرفة الممنوعة/ الفنان تكفيري أولا يكون إن الفنان وهو يتجرّأ على واقعه ويربكه ويظلّ يهتف ضدّه، ويقلق سكينته ويشهر في وجهه سخريته، ويلعن جموده، "يبذل كلّ ماهو غال مقابل نعمة نار الإبداع المقدّسة" (6) فهو يفكّر ويذهب بعيدا برؤاه ويحفر عميقا في اتجاه الإنسان،ولا يعير بالا لعلامات "قف". يكفر دائما بما يقدّمه مجتمعه أو سياقه التاريخي والثقافيّ على أساس أنّه مسلّمات لا نقاش فيها. فهو عادة ما يهزأ ويشكّ، مؤمنا فقط "بالسخرية اليقظة التي تستريب بما ترى" (7). يُدين كلّ ما يُقدّم على أساس أنّه معرفة أو حقيقة. يَدين بالسؤال والتفكيك والحفر. هو نيتشويّ أساسا، يرفع قبّعته للمعرفة . المعرفة هي الرقص " الرقص بالقدمين، بالأفكار، بالكلمات.." يُنطق العالم وتفاصيله.. سيكون دليلا "سياحيا" في اتجاه مغامرة الوجود وقدسيّة الإنسان الذي لا مقدّس سواه. لن يكون الأمر في حضرته رتيبا. ولن تتوقّف عن الحلم. المعرفة هي الحلم. ستعلم أن الظلمة ليست أبديّة، وأنّ الضوء يتسلل من شقوق الجدار، وأنّ الماء ينبع في أكثر الأماكن عزلة. ستدرك أن بشاعة العالم واهية كخيط عنكبوت، وأنّ آلاف الشمعات تضيء طريقك نحوك. المعرفة هي النشوة. نحن لا نحتاج الأشياء واضحة تماما. نحتاج إلى من يدفعنا نحو أفق أرحب. نحن مدينون له بتشهيره بكل القيود. المعرفة شكّ.. المعرفة حريّة. "إنّ كرة الكريستال التي تبدو للجميع فارغة هي في نظره ممتلئة بمادة معرفيّة غير مرئيّة" (8) فهو الذي تعبر كلّ الحيوات بين يديه، يعصرها في كأسه ويرفعه عاليا. هو الشاهد الذي يرى ما كان وماهو كائن وما سيكون وما لن يكون. المعرفة شغف وجودي. 4/ مارستان الضبط الاجتماعي وحدود الإقامة الجبريّة
لقد انخرط الفنانون في أحزاب سياسية أو في مؤسسات الضبط الاجتماعي كالجمعيات والنقابات. هذا الكائن الزئبقيّ وقع في فخّ خطابين: الخطاب الفنيّ من جهة وبين خطاب مؤسسات الضبط الاجتماعي التي تهتمّ أساسا بالقضايا الآنية المهنيّة أو الاجتماعية أو السياسية، خطاب يفرض تصوّرات واضحة للواقع وبدائله وفق توجّهات معيّنة ونسق محدد سلفا وأطر صارمة. فهل يصحّ القول إننا اليوم أمام فنان المجتمع المدني؟ "لا يمكن اختزال صورة المبدع بحيث تصبح صورة مهنيّ مجهول الهويّة، أي مجرد فرد كفء ينتمي إلى طبقة ما ويمارس عمله فحسب" (9) إن تأسيس نقابات فنيّة بعد 14 جانفي وقبل هذا التاريخ بقليل، يعتبر ظاهرة صحيّة تهدف في عمقها إلى الحفاظ على كرامة المبدع وضمان حياة كريمة له في ظل التهميش والتفقير الذي عانى منهما. فهل يمثل انخراطه في هذه النقابات إرباكا للعملية الإبداعية؟ هذا الكائن المتصادم بطبعه دائما مع الكادر، "هو المحكوم عليه أبدا بالحريّة"(10)، هل يستطيع أن يتنفّس داخل الأطر والهياكل؟ نقابة كتاب تونس، هي من النقابات الفنية الأولى التي تأسست قبل 14 جانفي نتيجة وعي حاد بضرورة إيجاد هيكل نقابي يدافع عن حقوق هؤلاء الكتاب باعتبارهم الفئة الأكثر ضلالا والطبقة المفقّرة والمهمشة. كانت تجربة مهمة لكنها فشلت وتمّ حلّها. يبدو أن الكثير من المبدعين الذين اخرطوا في عمل نقابي أو سياسي سرعان ما انسحبوا معلنين انكسارهم وإحباطهم. لا لفشل في التنظيمات التي انتموا إليها وإنما لأن بعضهم يعتبر أن إقامته فيها جبريّة وأنه انساق بقدميه إلى تجربة عمليّة تسعى إلى ترويضه وتفرض طرائق حواره وتفاوضه وتعامله مع العالم.. وهي طرائق قد لا تتلاءم مع هذا الكائن. والفنان نسّاء بطبعه، ولا يركن إلى الثابت. فهل حقا يعنيه في العمق وضعه المادي والاجتماعي والمهني؟ أعتقد أنه ينفلت من الدائرة ليعود إليها، ليعاود قطيعته معها. 5/ مثلث بارمودا وقيد المركب الإضافي تبجّحت كل الأنظمة بأنها ضمنت امتيازات عديدة للفنانين وأنها كانت تحمل مشروعا تحديثيا يقوم في جوهره على ضمان كرامتهم، وعلى النهوض بدورهم في المجتمع. حقوق كثيرة زعم النظام التونسي أنه كفلها للمبدع من خلال الإلحاح على التمسّك بكليشيهات الديكور.. وروّج لذلك لا فقط خارج البلاد، وإنما أراد ترسيخ هذه الفكرة في كلّ الأوساط التونسية.. قوانين شكلية لا يتم تطبيقها عادة وانتهاكات تمارس يوميا ضد المبدع نفسه وسخرية منه في كل المجالات.. قوانين واهية واستغلال إن لم نقل تشفيّا بأوضاع اجتماعية للكثيرين منهم. ألم يكن أداةً استعملها النظام الدكتاتوري لشرْعنة دفاعه عن حقوق الإنسان أمام العالم فيما كان المبدع التونسي يتعرّض إلى أشكال متنوعة من الانتهاكات ضد كيانه الإنساني؟ فقد صوّر النظام السابق نفسه راعيا رسميّا لحقوق الفنان. وكان المثقّف في الواجهة تماما، إمّا مرضيّ عنه في دواليب الدولة، يحمل حقائب السياسة فيكون سفيرا وناطقا رسميا باسم دولته.. واجهة لا غير، منخرط فيما يرسم له من دوائر، ورود بلاستيكيّة في المحافل الرسميّة وعلى موائد السلطان. وإمّا نراه في السّاحات يعبّر عن رأيه دون خوف، يكتب ويحاصر سياسيّا ويقمع اجتماعيّا... لقد مُورس القمع والعنف على أساس ثقافي فنيّ في تونس قبل 14 بطرق ملثّمة أو مفضوحة بالسجن والتهديد والتشويه وعرقلة كلّ مسار ثوريّ تقدميّ يطمح حقّا لتحقيق الحريّة في مجتمع شبه تقليديّ يرفض أن يعلو فيه صوت غير صوت السلطة. وكنا أمام نوعين من المثقفين، مثقفو السلطة/ النظام و مثقفو المعارضة/ على يسار السلطة/النظام. فنانو الديكور وفنانو الشوارع الخلفيّة. هذا المركب الإضافي الذي يلاحق الفنان بصفة عامة هو قيد آخر لا يمكنه كسره بسهولة أو التحايل عليه. فإما أن يكون راضخا تمام الرضوخ للسلطة القائمة، وإما أن يكون على يسارها وأن يكون على يسارها لا يعني سوى أنه انخرط في منظومة أخرى ستقمعه حتما. "فعوض الإكراه البدني مُنحت له حرية بالغة المحدودية، وعوض حوار الهذيان والتهجم كان هناك مونولوغ.. وكانت اللامبالاة" (11)
الهوامش: 1/ كارل غوستاف يونغ ، الروح في الإنسان والفن والأدب، ترجمة سلام خير بك، دار الحوار، الطبعة الأولى 2014، ص 136 2/ نفس المرجع، ص 135 3/ فريديريك نيتشه، نقيض المسيح، ترجمة علي مصباح، منشورات الجمل الطبعة الأولى 2011 4/ ميشال فوكو، تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، ترجمة سعيد كرّاد، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2006 5/ نيتشه،نفس المصدر، ص 22 6/يونغ، المصدر نفسه، ص 136 7/ادوارد سعيد، المثقف والسلطة، ترجمة محمد عنابي، رؤية للنشر والتوزيع الطبعة الأولى 2006،ص. 196 8/ فوكو، المصدر نفسه،ص 42 9/ ادوارد سعيد ، المرجع نفسه، ص 43 10/ جان بول سارتر، الوجودية منزع إنساني، ترجمة محمد نجيب عبد المولى وزهير المدنيني، دار التنوير، طبعة أولى 2012 11/ ميشال فوكو، المرجع نفسه،ص 502 ( نشر المقال في جريدة الشعب سنة 2020)
Comentarios