top of page
Search
Writer's pictureasmourajaat2016

بين الصّحافة والشّعر (الهاشمي الخلاّدي) بقلم الشاعر والأديب التونسي : جلال المخ


لقد ظلّ هاجس الثّقافة يسكن روح الهاشمي الخلاّدي ويملأ كيانه ويقضّ اطمئنانَه طيلة حياته وظلّ تَطلّعه للكتابة منذ نعومة أظفاره يتقلّب بين جوانبه ويبحث عن شكل أو جنس كتابي يتشكّل داخله ويترجم كلّ ما يتدفق في أعماقه ويعتمل في ذهنه من أفكار ومواقف وأحاسيس واهتزازات إلى نصوص مكتوبة تعطي لوجوده معنى وتحقّق من خلالها ذاته التي لم تقنع بما انتهت إليه مسيرته التعليمية من شهادات خوّلت له التدريس طيلة عقود من الزّمن وآثرت أن تعطي لحياته بعدا إضافيّا تكتسبه من خلال اهتمامه بالفعل الثقافي وتفاعله معه.

وقد ولد الهاشمي الخلاّدي يوم 03 جانفي 1955 بضاحية رادس التي زاول بها دراسته الابتدائية قبل أن ينتقل إلي معهد الحبيب بورقيبة بالزّهراء ليتمّ تعليمه الثانوي ويتحصّل على شهادة الباكالوريا شعبة الآداب في شهر جوان 1976 بعد أن تتلمذ على جيل من الأساتذة الذين غرسوا في عديد من تلاميذهم حبّ الأدب والمعرفة والشّغف بالكتابة والإبداع نذكر من بينهم الأساتذة حسن نصر ومنصف الشطّي وفيصل عبروق... ثمّ التحق الهاشمي الخلاّدي بمعهد بورقيبة للّغات الحيّة ليدرس فيه اللّغات الأجنبيّة ويتحصّل سنة 1981 على الأستاذية في الترجمة التي مكّنته من الالتحاق بسلك التعليم ومن مباشرة التدريس في المعهد الثانوي بالقيروان أوّلا قبل أن ينتقل إلى المعهد الثانوي بحمّام الأنف ثمّ المعهد الثانوي بالزّهراء...

وفي حين كان جلّ المحيطين يه يتصوّرون أن حياته الاجتماعية والمهنيّة ستظلّ تنساب منتظمة بين مهنة التدريس وبين دفء العائلة رفقة زوجته وابنتيه لتختتم بتقاعد يركن فيه معظم الموظّفين إلى الرّاحة والسّكون إلى حدّ الخمول أحيانا، لم يعد شغفه بالثقافة وولعه بالكتابة يقويان على البقاء مستترين بداخله ولم يعودا يطيقان أن يتخبّطا في الخفاء أو يقتصران على الاعتمال في أعماق الذّات بل طفحا وبرزا إلى الوجود الفعليّ معلنين على انطلاق الرّجل في مرحلة أخرى من مراحل حياته وفي تجربة بقيت تنتظر عشرات السنين لتتجسّم في الواقع وتتجسّد في الفعل الكتابي.

ورغم أنّ هذه التجربة انطلقت في سنّ متقدّمة نسبيّا أي على مشارف الخمسين فقد اتّسمت بالتنوّع وكان طابعها المميّز هو الغزارة المتدفّقة.

وثقافة الهاشمي الخلاّدي الواسعة وحذقه للّغات الأجنبية جعلاه يميل إلى العمل الصحفي وينشر بداياته الأولى ومحاولاته البكر بالجريدة الناطقة بالفرنسية "تونس الأسبوعية Tunis-Hebdo" لينتقل منها بعد ذلك إلى أعمدة صحيفة "لوطون –Le Temps" ويصبح واحدا من محرّريها وأكثرهم مواظبة على الكتابة.

وافتتح التعامل مع تلك الجريدة بنشره مجموعة من البورتريهات التصويرية لشخصيّات العديد من المشاهير في الإعلام وفي دنيا الثقافة والفنّ عموما وليقدّم قراءة شخصيّة لأعمالهم وإنجازاتهم التي طبعت الوجدان الإنساني وغيّرت تاريخ الآداب والفنون.

ومن أولئك المشاهير نجد ثلّة من رجالات تونس ونسائها الذين كتبوا بإبداعاتهم صفحات مشرقة في تاريخ الثقافة التونسية مثل علي الدّوعاجي وعبد العزيز العروي والهادي الجويني الثالوث المنبثق من جماعة "تحت السّور" رغم اختلاف مشاربهم الإبداعية وكذلك أقطاب التمثيل والإخراج المسرحين والسينمائيين مثل حمّودة معالي ومنى نور الدّين وفريد بوغدير. ونجد كذلك في هذا العرض الكتابي بورتريهات لبعض الشخصيات العربية مثل ابن بطّوطة في القديم وكوكب الشّرق أم كلثوم التي رحلت في مشاعر الشعوب العربية في الحديث وتغنّت بالحبّ والأمل والسّلام... وينضمّ إلى هذه الشخصيات رائدان من كبار روّاد القصيد العربي الحديث رغم اختلاف توجّهاتهما وهما الشاعران السّوريّان الكبيران نزار قبّاني وأدونيس، وكذلك أدباء عالميّون كبار تحصّل بعضهم على جائزة نوبل للآداب منهم ألكسندر دوماس Alexander Dumas وأنطون دي سانت اكزوبوري Antoine de Saint-Exupéry وألبار كامو Albert Camus من الأدب الفرنسي، وصاحب رائعة "الشيخ والبحر" ارنست همنقواي Ernest Hemingway من الأدب الأمريكي.

وينضاف إلى كلّ هؤلاء مجموعة من البورتريهات الأخرى تجسّد فنونا استعراضية مثل الفرنسي "ريمون ديفوس Raymond Devos" في الإضحاك والتقليد والفنان الاسباني الكبير "بيدروا ألمودوفار Pedro Almodovar" في الإخراج السينمائي والفنان "هنري فوندا Henri Fonda" في التمثيل في الفنّ السّابع. ويختم من هذه البورتريهات الثقافية المرسومة بالكلمات بعملاقين من عمالقة الأغنية الغربية الحديثة هما "إلفيس بريسلي Elvis Presley" ملك الرّوك و"مايكل جاكسن Michael Jackson" ملك البوب...

وما هذه الرسوم الكتابية لهؤلاء الأقطاب سوى بورتريه ثقافي لكتابتها تدلّ على اهتماماته المتنوّعة وعلى مراجعه الفكرية وميولاته الفنيّة وتكوينه الثقافي حيث تمتزج الحضارة العربية القديمة بالأدب المعاصر وحيث يعانق الشعر العربي الحديث الشعر والأدب الفرنسيين ويُخالط السينما والمسرح والموسيقى الشرقية والأغنية الغربية المعاصرة. إنّها ثقافةٌ واسعة ذات بعد إنساني فسيح تؤمن بالحوار بين الحضارات وترى في الاختلاف الحضاري تكاملا وتبادلا يثريان التراث الإنساني ولا يقصيان الآخر بل ينخرطان معه في حوار فعّال وبنّاء...

لقد كانت الانطلاقة الفعلية في جريدة "لوطون" في شهر مارس 2007 وأوّل ما ميّزها هو غزارة المقالات التّي حبّرها صاحبها وارتفاع عددها لتبلغ في بعض الأحيان ثلاثة مقالات في اليوم الواحد وليفوق عددها الجملي الألفي مقالا في ظرف زمنيّ لا يتعدّى العشر سنوات.

والمتأمل في محتوى هذه المقالات يفاجأ بأنّها لا تتعلّق كلّها بالثقافة بل إن أكثر من نصفها يهتمّ بالقضايا الاجتماعية العامّة ويتعرّض إلى عدّة مجالات مثل الصّحة ووسائل النقل والطّرقات ومظاهر الحياة الاجتماعية المختلفة إلاّ أنّ الكثير من بينها خصّص للمسائل البيداغوجية بحكم انتماء صاحبها إلى سلك التعليم والأسرة التربويّة. وهذا ما جعل العشرات من تلك المقالات تعالج قضايا تربويّة متنوّعة وتهتمّ بالتّلميذ وبكلّ ما يحيط به من تجهيزات ماديّة وبشريّة ومن برامج تعليمية ودروس عموميّة وخصوصيّة وإلى عديد المشاكل التي تعترض العملية التربويّة وتؤثّر سلبا على ذلك المجال الحيوي الخطير ودوره في بناء المجتمعات وتطوير الذّات البشريّة.

أمّا باقي المقالات أي ما يقارب نصفها الآخر فقد اهتمّ بالشأن الثقافي. وينقسم إلى قسمين أوّلهما مقالات خصّصت لتغطية الأحداث والتّظاهرات التي تجدّ في الساحة الثقافية بالبلاد التونسية مثل الملتقيات الفكرية أو الندوات الأدبية والأمسيات الشعريّة والعروض المسرحية والسينمائية وكذلك المعارض التشكيلية ومختلف التظاهرات المتعلّقة بالفنون الجميلة التي أصبحت تجتذب الهاشمي الخلاّدي بصفة ملحوظة. أمّا ثانيها فمجموعة من المقالات تتعلّق بتقديم قراءة أوّليّة لعديد الإصدارات الجديدة في عالم الكتب الشعرية والأدبية خصوصا والثقافيّة عموما...

وقد كان لنادي "إضافات" بالمركّب الثقافي علي بن عيّاد بحمام الأنف نصيب وافر من هذه المقالات الثقافية التي تولّت تغطية البعض من أنشطته منذ تأسيسه سنة 2007 وخلال المواسم الثقافية الاثنتي عشرة التي قطعها بكلّ ثبات في خدمة الثقافة المحليّة والوطنيّة والإنسانية عموما، وقدّمت ثلّة أخرى من تلك المقالات إصدارات أعضاء النادي وإصدارات أصدقائهم من الكتب والدّواوين والمجموعات القصصية والدّراسات والترجمات والرّوايات الّتي تزامن صدورها مع انبعاث النادي ونشاطه لتبلغ رقما مرتفعا يدلّ على كثافة النّشاط الإبداعي وغزارة تآليف أعضاء هذا النادي التي بلغت ما يقارب الخمسين كتابا في ظرف زمني لا يتعدّى العشر سنوات.

وقد كان لهذه المقالات المتعلّقة بالنادي دور حاسم في التعريف به وبأنشطته في الصّحافة الوطنية وعكست إشعاعه على الساحة الثقافية التونسية ومساهمته في بناء حركة ثقافية تتجذّر في واقعها المحلّي وتنفتح على العالم المحيط بها شرقا وغربا...

وطريقة الهاشمي الخلاّدي في كتابة الخبر الثقافي أو في تقديم تأليف أدبي أو ثقافي تعتمد البساطة والإيجاز وتنتقي مفردات يسيرة الفهم تصاغ في جمل بسيطة التركيب وتركّز على أهمّ ما يقوم عليه العمل الإبداعي أو النشاط الثقافي لتقدّمه إلى القارئ ببساطة مفهومة تستخدم الوصف الدّقيق وتعمل على التشويق والانتباه ليخرج بـﭑنطباع إيجابي يحبّب إليه العمل الثقافي ويجعله يتابع أهمّ ما يدور في الساحة الثقافية ويتشوّق لزيارة المعارض والتظاهرات وقراءة الكتب ومطالعة الآثار الإبداعية. وهذا ما جعله يصبح في حيّز زمني محدود صوتا صحفيا هامّا وقلما من أهمّ أقلام الصحافة الثقافية الناطقة بالفرنسية على غرار حمّادي العبّاسي وعادل الأطرش وحاتم بوريال.

وهذا الاهتمام الشغوف بكلّ ما يتعلّق بالثقافة والإبداع كان لا بدّ له أن يخفي وراءه نفسا مبدعة وذهنا خلاّقا وعاطفة إبداعيّة جيّاشة. وبالفعل فإن الهاشمي الخلاّدي ما انفكّ يكتب الشعر باللغة الفرنسية وله ما يفوق الخمسين قصيدا كتبها بلغة فولتير.

وكان لا بدّ من طباعة هذه القصائد ونشرها لتصنّفه نهائيا شاعرا مبدعا بين شعراء هذه الرّبوع ومبدعيها.

وبالفعل تجسّدت هذه الفرضيّة في شهر ماي من سنة 2017 من خلال نشر الخلاّدي على حسابه الخاصّ مجموعتين شعريتين باللغة الفرنسيّة...

وتتعلّق المجموعة الأولى بموضوع الثورة التونسية وعنوانها "عن أي ثورة تتحدّثون" وتشتمل على ثلاثين نصّا شعريّا تسجّل مختلف المراحل التي مرّت بها الثورة التونسية منذ اندلاعها إلى اليوم وبتتبع عناوينها يمكن التعرف إلى محتواها فهي تبدأ من شرارة البوعزيزي التي تحوّلت إلى حريق هائل أتى على النظام الأسبق وتمرّ "بديقاج" الكلمة الشهيرة التي طالبت من خلالها الجماهير برحيل الرئيس السّابق وتعرّج على الانتخابات ومختلف الحكومات المتعاقبة والإرهاب الذي ضرب البلاد والعباد والأزمة الاقتصادية الخانقة التي مرّت بها تونس والترويكا والرّباعي الرّاعي للحوار والعدالة الانتقالية إلى غير ذلك من التقلّبات السياسية والاجتماعية التي عرفتها الجمهورية التونسية منذ نهاية 2010 إلى بداية 2017.

والحقّ أنّ التشاؤم طبع معظم قصائد هذه المجموعة إذ يدعو الشاعر إلى البكاء على تونس وعلى ما حاق بها من ويلات ويندب حظّها ولا نستشفّ من وراء هذه الكتابة نظرة تفاؤلية إلى المستقبل أو تبشيرا بيسر بعد عسر وكأنّ الجانب الصّحفي في شخصية الخلاّدي طغا على الجانب الشعري فهو يكتفي برسم لوحات قاتمة وأوضاع مزرية دون أن يحلم بمستقبل أفضل أو يدعو القارئ إلى ذلك رغم أهمية ثورة شعبية في تاريخ بلاد لا بدّ أن تعترضها عقبات وعراقيل في بداية أمرها قبل أن تظهر نتائجها على مدى عقود وربّما قرون.

وما يزيد الحضور الصحفي كثافة في هذه النصوص هو النزعة التقريرية في وصف الأحداث وكأن الأمر يتعلّق بـﭑستعراض متواتر لأحداث عبر الأيام والشهور والسنين والمحافظة على الترتيب الكرونولوجي للأحداث زد على ذلك الأسلوب المباشر الذي خاطب به القارئ في لغة واضحة ودقيقة لا تلحّ على الخوض في تلافيف الصّورة الشعريّة في مختلف تجلّياتها الفنيّة والإيجابيّة.

وما يمكن قوله في هذه المجموعة التي تقرأ بيسر وتجذب القارئ إليها بتقنيات الكتابة الصحفية التي تمرّس بها الشاعر هي أنّه تأريخ لسبع سنوات حافلة بالأحداث والمتقلّبات جاء في شكل منظوم وطريف سهّل على القارئ استساغة ذلك الكمّ الهائل من المعلومات وهضمه.

أمّا المجموعة الثانية والتي عنوانها "أشعار شتّى" Vers divers ففيها ينطلق الشاعر في أجواء شعريّة أرحب تتّسم بالذّاتيّة والتنوّع في آن وقد بلغ عدد نصوصها خمسة وثلاثين نصّا شعريّا وتعلّقت بمواضيع شعرية اتفق على تناولها معظم الشعراء مثل الحياة والموت والطبيعة والزّمن والحبّ وفيها كثير من المواقف المؤثّرة مثل اكتشافه لأوّل شعرة بيضاء تغزو مفرقه لينتحب على الشّباب الضّائع والحياة المهرولة نحو الفناء وفيها تغنّ رغم ذلك بكل ما في الوجود من مواطن جمال ودوافع محبّة واحتفاء بالمشاعر الإيجابية التي تدخل البهجة على القلوب وتشرح الصّدور.

وفي القصائد كذلك اهتمام بالمواضيع الإبداعية والشعرية والفنية وكلّ ما يحوم حول عوالم الخلق والابتكار مثل "الشاعر والشعر والكلمة والكتابة" ومن أجمل الأوصاف التي أسبغها الشاعر تشبيهه بالمحيط الهائل الضخم من أمواج الاحاسيس وأعماق المشاعر...

وهذه الاهتمامات المتعارف عليها لدى الشعراء لم تمنعه من التطرّق إلى مواضيع جديدة وواقعية تغذّيها روح الصحفي في نسجها فلم ينغلق في الأغراض الكلاسيكية المشتركة بل كتب قصائد تهتم بكثير من الظواهر التي يعيشها مجتمعه ليدلّ على أنّه رغم تجنيحه في عوالم الأحاسيس والشعور يعيش واقعه بقوّة ويتأثّر به ويتغذّى شعريا وكتابيّا من ملابساته. وفي هذا الإطار يمكن أن ندرج قصائد عن آفة التدخين أو "الحرّاقة" الذين يغامرون بحياتهم ويعبرون البحار حلما بجنة موهومة في البلدان الغربية إلى غير ذلك من المشاكل التي تشغل الشباب اليوم والذين دعاهم في إحدى قصائده إلى استعمال الانترنيت ووسائل الاتصال الحديثة بطريقة إيجابية ونافعة...

إنّ المجموعة الثانية تختلف على الأولى وتطلعنا على جوانب شعريّة عديدة في شخصية الهاشمي الخلاّدي وعلى اهتمامات فنيّة وثقافية متنوّعة تعكس لنا شخصيته الإبداعية التي بذلت قصارى جهدها لتثبت وجودها الفعلي إلى جانب كتابته الصحفيّة الثقافية ذات الأهمية الكبيرة في تغطية الحركة الأدبية والثقافية في تونس منذ 2007 تقريبا إلى اليوم...

والقصائد التي حوتها المجموعتان موزونة تحافظ على عروض الشعر الفرنسي وتلتزم بالقافية كتبت بلغة تجتنب التعقيد وتتسم بالبساطة والوضوح وفيها كثير من المباشرة ظهرت خاصّة في المجموعة الأولى وخففت من وطأتها في المجموعة الثانية كثير من الأحاسيس المتدفقة والعواطف الجيّاشة تنفذ مباشرة إلى قلب القارئ...

8 views0 comments

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page