بيان اليوم العالمي للشعر
بيت الشعر التونسي في 21 مارس 2019
___________________________
شاعر الهنا والآن: وحده يرث التّاريخ وما أخفى
شاعر الهنا والآن: ماذا يكتب؟ ما جدواه؟ وأين هو ممّا يجري؟
ما يكتبه شاعر الهنا والآن، في أقنعة شتّى، يلزمه في العمق إلى حدّ لا يلزمه وحده. وبمعنى آخر، يلزمه زمن ليرى ما يكتبه في أزمنة أخرى، في أمكنة أخرى، مع أجيال أخرى.
ما يكتبه، لا يكتبه وحده. فلأجداده ضلع ولأحفاده، أيضا، ضلع.
لكنّه، مضطرّا، يتحمّل وحده مسؤوليّة ما يجري في الشّرق الأوسط أو في مقبرة أخرى.
فهو من ضيّع، قبل قرون راكدة، في بئر أريس الخاتم ثمّ هو من أوقع في الأحبولة أجيالا متعاقبة فإذا بالجنّة محض جحيم لي وإذا بالعالم، كلّ العالم، يضحك ملء سعادته ممّا يفعله وعلى ذقنه وإذا بيده تغتال غده.
وحده يرث التّاريخ وما أخفى.
وحده يتحمّل هذا الإرث سعيدا، حدّ التّخمة، بالفردوس وما أخفى.
من هذا الإرث، تجيء كتاباته.
لا همّ للشاعر إلاّ تلغيم القرية، قرية ماكلوهان بالممكن من حلمه: كلمات ليس لها من الجبروت عدا هذا التهريب الدائم، تهريب للذاكرة المثقوبة عبر قرون الهجرة من وإلى، بالشقشقة اللفظية، لا غير.
ما يكتبه، حرث في البحر، محاولة للقفز بمنطاد الخفّاش إلى لبّ الموضوع، مباشرة: ما جدوى الشّعر؟ سؤال يطرحه النّقّاد، إذا وجدوا والنّاس جميعا والحيوان.
ما جدوى العيش بلا شعر؟ بل ما جدوى قلب لا ينبض؟ أو رأس لا يحمل مشروعا لحياة من نوع خاصّ؟
أن نسمو بالإنسان إلى وضع الحيوان هو الهدف الأسمى: أعلى ما يبلغه الإنسان، هنا والآن، على خلفيّة أنّ الحالة ليست آلة ما يبدو. هي في محلول الصّودا صابون الذّات الأمّارة بالإفلات من الأنموذج نحو طبيعتها الأولى حيث الينبوع يقول الغابة والحيوان بأعلى ما في الغابة من عذريّات وصهيل.
تلك مفاتيح الشاعر. ومفاتيحه ألقى بها في البئر على مرأى من أعدائه الهرمين وهم كثر.
ما يكتبه، أفعى برؤوس سبع.
سبع رؤوس تكفي، في نصّ، لمحاصرة القرد المتأرجح في كينونته بين المعنى واللا ّمعنى، يحكي ويحاكي الجدّ الأوّل في سيرك التّهريج.
تجيء كتاباته من هناك فيروّح عن نفسه ويحسّسها بـأنوثة هذا العالم، حيث الفحل طغى برداءته القصوى، وسرى في الأمكنة الموبوءة، في الكلمات وفي الأشياء.
لدى هيدجر: " اللّغة بيت الكينونة".
وهي لدى شاعر الهنا والآن، فضاء الطّائرة العملاقة ترضع في الجوّ ابنتها وتواصل رحلتها نحو الآفاق الأرحب، حيث اللّه سماء أخرى، والإنسان ضمير مستتر يعني الحيوان.
لقد أخفى الإنسان سياسته الرّعناء بدانتيلاّ بيجامته واحتال على المضمون فأخفى في الدهليز تحاليل امرأة حبلى بغد لا يأتي إطلاقا.
أمّا الحيوان، وقد ظلموه على مرّ الأزمان، فلا يخفي شيئا يأتيه على الإطلاق فخلف ثقافته، في قلب الغابة، يسترخي أو يستلقي جسد عار ذو إيقاع يتناهشه قلق وشعور قهريّ بالعجز إزاء الآلة أحيانا والآلهة الموقوتة أحيانا أخرى.
في القرية، له ما يكفي، حيث الزّيتونة تعكس له، ظلاّ، حيث الأشياء يعاملها الحيوان معاملة حسنى، والكلب يهبهب مفعولا بنباح آخر.. والقارئ؟ أمّا القارئ، فهو يفكّر في شيء للبطن وفي شيء للرّأس وفي شيء للقلب وفي أشياء لوجه الله، سينسى القارئ هذا الشّعر وقائله. أمّا البيت، فلا أرجوحة فيه لطفل محتمل، لا شعر فيزهر في البيت النّيلوفر والمعنى، لا شيء عدا كرة في الرّأس لها حجم الكرة الأرضيّة والكرة الأرضيّة بين يدي طفل يلهو، هو ذاك شاعر الهنا والآن تقريبا، يلعب بالكرة الأرضيّة منذ ضياع الخاتم، ذات مؤامرة أو ذات مسامرة، في بئر أريس.
وله أن يسأل: ماذا هو فاعل بالأجداد وبالأحفاد معا؟
كم يخجله وجهه وهو في عاصمة الأنوار و/أو في نيويورك بلا وجه. كم يزعجه هذا.
لكن هذا ما أورثه إيّاه الجدّ الأكبر حتّى أنّه لم يجد المفتاح ليفتح أندلسا أخرى.
لم يبق لأشعاره إلاّ هذا: أن يكتب حتّى تكتب له، وهو يتجمّل للدينوصورات، حياة ما.
هو بين قصائده، نصّ يتحرّك في النّقصان وطفل يشخص بالعينين إلى شرق لا يعرفه غرب وإلى غرب لا يعرفه شرق.
وبأفعى ذات رؤوس سبع، يدحو الأرض سماء للجشعين من القرّاء، إذا وجدوا.
هو حيث قصائده. وقصائده مشروع حياة من نار لا يصلاها إلاّ الأشقى.
____________
يوسف رزوقة - تونس
شاعر – أمين عام شعراء العالم بأمريكا اللاتينية – ممثّل العالم العربيّ
Comments