انسياب في مقياس الحركة
الشاعر " محمود البريكان " وقصيدتهِ " النهر تحت الأرض " .
" للهِ في تلك الأزمان الأولى ، لم يكن سوى المياه – اسطورة بابلية ".
عدنان أبو أندلس – العراق .
يمثل رمز" النهر" في المعتقدات ، والأساطير، والروايات متمثلاً بحالة ذكورية فاعلة مجازياً في الاخصاب . يلاحظ في أكثر الأجناس الأدبية يُمثل ايضاً بخاصية الطُهر، والحياة ، والفحولة ، والقوة ، والنماء ، وينظر إليهِ كجنس ذكوري أولاً . وحسب رؤى النقاد : " يُعد عند الشعراء من خاصية تحمل دلالات وايحاءات خصبة للتعبير عن افكارهم ورؤاهم " *1 . لهذا تمْ توظيفهُ وفق هذه المعطيات الحاملة لدلالاتهِ الحركية فيهِ كـ السرعة والبطء بوصفه متوسط الانسيابية كونهُ مغلقاً ومحدود الجريان من حيث الوضع الطبيعي بتشكيل مجراه . وضعه هذا يُبان من تأثيره الجوهري على حياة الإنسان وواقعهِ ، من حيث الظواهر النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ؛ معاً ، وغيرها من مكملات مسيرة الحياة الشائكة . لذا كان وصفه يماثل حياة الشاعر الذي يكتب بهدوء دونما اشهار ، مثله مثل النهر الذي يخبأ مجراه وصلصلته . النهر في جريانه يشع ضوءاً فضياً وبانعكاسات ، كذلك الشاعر عبر عن دلالاته بصورة المجاز الممكن الإشعاع روحي ، النهر يجري يجري دون أن يوقفه الا بفعل المؤثرات الطبيعية التي تعيق حركة جريانه ، مثله مثل الشاعر الذي يكمن في محسبه اليومي بفعل المصدات التي تعيقه .
نستشف من ذلك بدءاً ؛ وعلى ضوء دراسة ما لأحد النقاد " يقول : " حولوا هذا الرافد الطبيعي إلى طاقة للتعبير عن الأفكار والهواجس ، ومنحوهُ دلالات خاصة ، استجابة للكوامن النفسية ولأحلام الطفولة المختزنة " *3 . عنوان القصيدة "النهر تحت الأرض " يوحي للمتلقي بأنهُ يجري في مكمن غير مرئي مثل القناة الجوفية " الكهريز " ، أي- نهر سرّي - مضمر ومخبوء .إن ظرف المكان - تحت - وفي العنونة اضاف بعداً مكانياً غائراً ، لكن في مستهل النص ورد " النهر الغامض تحت الأرض" تأكيد الغور والصورة معاً .في ظِل ما تعرض له من ضغوطات نفسية حادَة ، لذا انزوى بعيداً ؛ وركن نفسه في زاوية النسيان كتفادي ما سيلحقه من مؤثرات ، لذا كانت ارهاصاته وفق مزاجه المتقلب بالأحداث التي عاصرها في كافة مناحيها .
يمكن تقسيم النص إلى ثلاث محاور موازية لحركة جريان النهر في مقياسه ، وحسب النفس الشعري في رؤاه ، فكل محور له حركة دلالية " في الظلمة - تحت الصحراء - عبر الكهوف " ، على وفق الحالة النفسية وتقلبات الحياة مع شخصية الشاعر، والتي تترك أثراً في النفس كما الإنسان يجري بهذه الأشياء - بداية لا صوت لهُ - لا شكل لهُ ،كونهُ يجري بهدوء ... هذا النهر السرّي يمثل إرهاصات ثورة - النهر الغامض - حياة مبهمة تدفع رموز المجتمع للقيام بمتغيرات في واقعها ؛ كـثورة - تبديل ، فـ النهر هو الحياة بذاتها ، يبدو إن هذه التحولات لها دلالات نوعية في بنية النص والتي تتماهى فعلياً بتشكيل حركة الواقع من المتغيرات والعوامل الطارئة عليها من تيارات - اتجاهات كـ النهر ، والذي يخضع لأعاصير - فيضانات - رمزاً مركباً من تداعيات ، ربما في الظلمة والذي يمثلهُ الظلم من اشتقاق بتجنيس مطابق حتى في اللونية ربماِ .
"قصيدة "النهر تحت الأرض"
النهر الغامض تحت الأرض
يجري بهدوء
يجري في الظلمة
لا صوت له
لا شكل له *4 .
غموض النهر يُمثل الشاعر بكل حالاته وتحولاته ، فالنهر الغامض غير مرئياً كونه يجري تحت الأرض ، كذلك الشاعر المتستر بالعٌزلة والاختفاء ، هذا ما جرى التطابق والتشابه بينهما . فالغموض مساوياً للحالة ، والهدوء والظلمة متطابقة ، فلا صوت لهما .. ربما هاجس الموت ملازم لحالة الشاعر المواكبة للحدث المأساوي الذي حلَ في تلك الليلة . يلاحظ الدفقة الشعورية تتماوج في الخفاء وبانسياب افتراضي غير مرئي بلغة تعبيرية ، نعم أراه يستبطن موازياً لحالته تلك التي تكمن تحت التخفي الملموس ، يتماهى بحالته ويشاكلها فيما مضى من تشوه وتسلط الحياة التي تعتريه باستدامة امتدت من شبابه وحتى كهولته ورحيله المفجع ، ربما النهر توقف عن الجريان ونضبت مياهه ، كونهما الروح المترابطة حياتياً .
يجري تحت الصحراء المحرقة
تحت حقول وبساتين
وتحت قرى ومدت
يجري .. يجري
نحو مصبات مجهولة
عبر كهوف وبحيرات وصهاريج
ينحت مجراه ببطء
ويزامن نبض الأرض .*5.
رسوخاً وكما اسلفنا في تشبيه النهر وسرعة جريانهِ واختراقه أشياءً أمامهِ ، قد مُثل بالحياة- الإنسان وبما هي حياة الشاعر نفسهً ، كونهُ كان غامضاً حياتياً - مغبوناً – لا صوت لهً في المحافل الأدبية رغم علو شأنهِ الشعري - بل يثأر لنفسه إبداعاً بصمت وبهدوء ، في متن النص ، يجري .. يجري - وفق التحولات التي طرأت في المسار المتمثل بتداعيات المكان والزمان ، هذه إشارات تنبأ بالتغيير رغم حاجز ظرف المكان - تحت - الغائر - الغامض - المجهول تارةً والمعلن بأخرى ، فاستبطان ذلك الممكن هو إرهاصات الثورة السرّية - شكل الحياة - كما النهر في إطار تحولاتهِ المعتادة في حركة جريانهِ المستمرة :
النهر الغامض تحت الأرض
يجري أبداً
يجري ..يجري
لا إسم لهُ
لا أثر لهُ
في أية خارطة .*6
كمسايرة للواقع حدّ التطابق - فالنهر - المرسوم عياناً بشكلهِ معبراً للنطق به- التلفظ - عن مطابقتهِ رسماً على الورق ،حروفهِ - ن- ه- ر - هي متحركة وسريعة اللفظ ،حروف هاربه وكأننا نلفظ ، نَهَرَ - زَجَرَ....دلالة السرعة وبطئها حسب المتغيرات - المكان - الظلمة - الصحراء المحرقة - مصبات مجهولة - عبر كهوف ،يمثل في جريانهِ الشكلي - الكهريز .
وحسب مقصدنا في المستهل واعتقادنا الراسخ بالتشبيه من أن النهر يمثل الحياة بتقلباتها الزمانية – الاستمرارية والدفقات السيالة والأمواج ربما ، والتأكيدية لها - يجري - يجري ،حيثُ الاستخراجات الدالة عليها -لا اسم لهُ -لا اثر لهُ – لا صوت لهُ – لا شكل لهُ - يمثل بنيان هُلامي غير مرئي ؛ سيال لا يمكن حصرهُ بشكل أو رسم ، تحت الأرض - قلبها - قلب الإنسان - الشاعر ، كل هذا آتيا من تحولات وقياسات وحركات تنم عن واقع متغير في أزمات متجددة كل حين .
ما سُطر بحق هذا الكائن العجيب الذي يميل للعُزلة في الحياة ، التي استلذ بها عازباً وعازفاً عن الشهرة والمجد والتعالي . وظف الفلسفة في رؤاه وتناغم مع حركة الطبيعة المخبوء وأشياء كونية أخرى ..لم ينل حظاً من النقاد بدراسات باستثناء القلة من معاصريه ، كذلك بقى اسمه يتداوله بالنزر اليسير ، لذا ربما لم يسمع به أحداٌ من الجيل الجديد الا القلة الفاعلة في المشهد الأدبي،وذلك لقلة ما نشر سوى قصائد " حارس الفنار " الذي لم يحرسه أو يحميه من الموت ، وهواجس عيسى ، وقبر في المرج وغيرها .. لم يصدر مجموعة شعرية وكما قيل باستثناء مختارات شعرية بعنوان " متاهات الفراشة " صادرة عن دار نيبور ، لم ينظم لاتحاد الأدباء بغية حصوله على الهوية كإثبات ذاته كما يفعل الكثير في هذه المرحلة بالذات ، رغم هذا : " يُعد من أهم رواد الحداثة في القصيدة العربية ، لذا استطاع أن ينتج نصَاً لا يشبه الا البريكان " *8 بل توحد وانزوى في بيته ، عاش مظلوماً ومات بمثلهِ ..وعزف عن كل المباهج والمغريات التي يتقاتل عليها الكثير كي يُمنح ما يصبون اليه . كذلك قال عنه الرائد بدر شاكرالسياب في شهادة مفعمة بالصدق : " شاعر عظيم ، لكنه مغمور ، بسبب نفوره من النشر ، وسأحاول بذل كل جهد لا خراجه من صمته ليتبوأ المكانة اللائقة به "*9. بهذه السيرة الحافلة بالمتناقضات من عسر حال ، وغُربة مكانية ، وانعزال أختاره بنفسه مستلذا يبحث عن الحرية بكل مسمياتها ، نعم طويت صفحة حياته بجرم مشهود في غرة شباط من العام 2002 لكنه بُقي مخفياً الى الآن .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
1- رمزية النهر وانتاجها الدلالي ، بلاوي رسول ، موقع التواصلية – الانترنت ، 17-12-2019 .
2- كتاب الموقع ، الشاعر الذي قال شعراً من تحت الأرض ، داود سلمان الشويلي ، 28-شباط -2015 .
3- مجلة الأقلام ، جاسم عاصي ، الموسوعة الثقافية ، بغداد ، ط1 ،2010 .
4- مجلة الأقلام ، قصيدة " النهر تحت الأرض " محمود البريكان ، الموسوعة الثقافية ، العدد المزدوج٣و٤ ، بغداد ، ط1 ، 1993 .
5- نفس المصدر السابق في 4 .
6- نفس المصدر السابق .
7- نفس المصدر السابق .
8- وكالة نخيل عراقي \ خاص ، محمود البريكان في ذكرى رحيله ، بغداد ، 2-3-2022 .
9- موقع الحوار المتمدن ، محمود البريكان " الشاعر – الانسان – المُثقف " ، توفيق الشيخ حسن ، 18-6-2009 .
ــــــــــــــــــــــــ
Comments