« ليس من يكتب بالحبر كمن يكتب بدّم القلب » تنطبق هذه المقولة الجبرانية على الشاعر صالح الطرابلسي الذي ظل يعتصر قلبه أربعة عقود أو تزيد ويستنزف دماء روحه المبدعة وكيانه الخلاق ليحوّلها إلى قصائد تختلج ألمّا وأملا طفحت بهما مجاميعه الشّعرية السّابقة : «للفرح الظّامئ» و«قصائد من جمر وماء» و « مطر لقبّرة البراري » و «أنكيدو» و« للحبّ أن يصبح أنقى » و « بلبل غنّى » إلى غير ذلك من النصوص الشعرية الكثيرة والغزيرة التي تنتظر النشر والتي من بينها هذه المجموعة...
والشاعر صالح الطرابلسي يكتب نصوصه بغزارة وينشرها بانتظام ولا تكاد تخلو صحيفة وطنية أو ملحق ثقافي أو مجلّة أدبيّة من قصائده ولا يكاد يمرّ أسبوع أو بعض أسبوع دون أن يكتشف القارئ إبداعاته بمختلف الدّوريّات والجرائد ليكون واحدا من أكثر الشّعراء حضورا في السّاحة الثّقافية..
وهذا الإصرار على الكتابة الشّعرية وهذه المثابرة على النّشر دليل على أنّه يرى الكون والمجتمع والأحداث والعلاقات بين النشر من خلال الإبداع عموما ومن خلال الشّعر خصوصا برهانا على إيمانه بأنّ للشّعر منزلة هامّة في وجود الإنسان وفي حياته وعلّى أنّ للشّاعر دورا منوطا بعهدته الإبداعية يتحتّم عليه الاضطلاع به للمساهمة في توعية الأفراد والجماعات وفي بناء صروح الثّقافة في المجتمعات وإضفاء معنى على الحياة تكتمل به شخصيّة الإنسان وتتحقّق به إنسانيته وتتطوّر بمفعوله جوانبها الذهنيّة والنّفسيّة والفنّية...
ورغم أن قصائد صالح الطرابلسي تستلهم الأسطورة وتستخدم أبعادها الفكريّة والفنّيّة في عديد الدّواوين ورغم أنّها تعود للتاريخ في أحيان كثيرة وأخرى تستقرئ وقائعه وتستعمل رموزه وتستغلّها فنّيا فانّ ذلك لم يمنعها من المراهنة على الواقع لتنطلق من أحداثه وتصوّرها وتصفها ولتهتّم بملابساته وقضاياه على مرّ العقود إلى حدّ جعلها تستمدّ وجودها الفنّيّ من خلاله...
وتندلع الأحداث الأخيرة والخطيرة بالبلاد التّونسية لتؤكّد أنّ الشّاعر محقّ في توجّهاته الواقعيّة الّتي يصوغ من خلالها النّصوص وينشئ أعماله الإبداعية انطلاقا منها. ويتجلّى الواقع في أعنف مظاهره وأوضحها وأنقاها عندما تفوق انجازاته الأساطير وعندما يصحّح المفاهيم التّاريخيّة الموغلة في الخطأ ويصنع التاريخ من جديد مبيّنا أن الأحداث التّاريخيّة الجسام منبعها العطش إلى الحريّة والجوع إلى الكرامة ومحرّكها الأساسي إرادة الشّعوب الّتي لا تقهر وإيمانها بحقّها في تقرير مصيرها. وقد أعلن الشّاعر من وراء هذا انتصارا شعريّا وإبداعيا حاسما للشاعر التّونسيّ الخالد أبي الّقاسم الشّابّي على نظريّات الفيلسوف الياباني « فوكوياما » الّتي أعلنت موت التاريخ ونهايته. بينما آمن الشّابّي ومن ورائه صالح الطّرابلسي تصحيح المسار التّاريخيّ وخلّصته من زيف النّظريّات الجامدة وأعلنت أنّ الواقع هو أب التّاريخ لأنّه يصنع الأحداث العظيمة الّتي يسجّلها التاريخ كما بيّنت أنّ الواقع أثرى وأعمق من الأسطورة وأنّه قادر على تحقيق إنجازات تفوق الأسطورة هولا وعظمة. وقد كانت الثّورة التّونسيّة الّتي اندلعت يوم 17 ديسمبر 2011 وقوّضت أركان نظام دكتاتوريّ عصيّ وعتيد ودكّت أسسه وحطّمت عروشه وانتصرت على قمعه البوليسي العنيد وأعلنت « أنّه لا خوف ولا ظلم » بعد ذلك اليوم، إثباتا نهائيّا لذلك الإعلان وكان من الطّبيعيّ أن تهلّل قصائد الطّرابلسي لهذا الحدث الخطير في تاريخ البلاد التّونسيّة لأنّ من دوافع تشبثها بالواقع، إيمانها بالحريّة وحبّها للعدل والمساواة. وجاءت قصائد هذه المجموعة تحتفي بالثّورة التّونسيّة وتحتفل بها وقد حفلت بمشاعر النّشوة والفرحة والانتصار وشابتها في بعض الأحيان أحاسيس تخوّف من الانزلاق بهذه الثّورة الوليدة نحو متاهات الفوضى وخشية عليها من تأثير قوى الجذب إلى الوراء، لكنّها كانت سجّلا مليئا بالأحداث والتّطلعات نحو الأفضل وعكست بطريقة حيّة نبض الشّارع التّونسيّ واختلاجات المواطن التّونسيّ المتأرجحة بين التفاؤل والخوف والإصرار على التّحدّي لإنجاح هذه الثّورة، لتكتسب بذلك قيمة توثيقية لما كان يحدث بالبلاد في ذلك الخضمّ الهائل بالإضافة إلى قيمتها الفّنيّة والإبداعية ولتسجّل الأحاسيس والمشاعر بالإضافة إلى تسجيلها لبعض الأحداث والوقائع.
وهذا الاحتفال الشّعريّ بالحريّة وبالثّورة الّذي بلغ أوّجّه في هذه النّصوص لمّا وجد أقصى تجلّيّاته فيما وفّرته الثّورة التّونسيّة من فضاء شعريّ مفتوح على اللاّنهاية ليس وليدا لهذه الثّورة وإن وجد فيها المجال الأمثل لكتابة نصوص تجسّم الحريّة بل هو ملازم للشّاعر منذ بداياته الكتابيّة. والمتصفّح لكلّ مجاميعه يرى بوضوح هذا الاهتمام بكلّ المفاهيم الّتي تحيط بالحريّة وتتولّد عنها ويرى كذلك رفضا لكلّ أصناف القمع والقهر والإذلال الّتي سلبت الإنسان الطّاغي والإنسان المقهور إنسانيتهما. وقد كان الإنسان دوما محور الكتابة في هذه النّصوص وكذلك الشّعر كان موضوعا أساسيّا في كتابته يمثل عالما بأكمله وكونا من الجمال والحريّة يستردّ فيها المقموعون والمستضعفون حقوقهم وينعمون بالجمال والحبّ والحياة الكريمة الّتي افتقدوها إلى حين في الواقع المعيش.
وفي هذا الإطار تتنزّل عشرات القصائد الوطنيّة الّتي تدور حول الإنسان التّونسيّ ومشاغله وتوقه نحو الأفضل وتعلّقه بوطنه وعشرات القصائد ذات الهمّ القوميّ العربي الّتي تتغنّى بفلسطين ولبنان وتبكى العراق وتصوّر جراحات الإنسان العربيّ وانكساراته ونكسات واقعه وهزائم سياسات بلاده وتشبثّه بماض عريق وبمستقبل رغد ومختلف يرفض من خلالها حاضرا بائسا ومهزوما. إلا أنّ هذا الاهتمام جزء لا يتجزّأ من انشغال الشّاعر
بقضايا الإنسان عامّة الّتي تنطلق من الذّات الشّاعرة لتلامس الذّات الكونيّة، والّتي تندلّع من المحليّة والقطريّة لتعانق الكونيّة والإنسانية قاطبة. إن قصائد صالح الطرابلسي نصوص تحترق بمآسي الإنسان وتكتوي بصراعاته من أجل الحقّ في الحياة والكرامة. لذلك صوّرت هواجسه ومشاغله وآلامه وجراحه وتغنّت بطموحاته وآماله وإصراره على تغيير ما به. كما أنها هلّلت لانجازاته وانتصاراته وبشّرت بحياة يسود فيها الحقّ والجمال والحريّة وللإبداع والفنّ وللشّعر منزلة هامّة فيها.
ورغم عديد النّصوص الشّعرية الّتي كتبها في هذا المجال فانّه يصرّ على مواصلة الإبداع الشّعريّ لأنّه لا يكسب وجوده الفعليّ إلا من خلال تلك العمليّة الإبداعية المبتكرة الّتي تسعى فيها ذاته الشّاعرة إلى الارتقاء بالذّات البشريّة والسّموّ بها نحو محلّ أرفع...
وما يزال الشّعر رغم مرّ السّنين يواصل بذره الشّعريّ في عالم مأزوم وفي أوضاع محمومة عسى أن تورق القصائد بالمحبّة وتثمر الحريّة والمساواة الحقيقيّة ٪ (جوان 2012)
Comments