جزء ١*
كان اغتيال غسان كنفاني، بداية الموت الفلسطيني الرمزي، اذ صار جسد الكاتب استعارة لأرضه، وصارت اشلاؤه صورة عن اشلاء شعب ممزق، وصار قبره صورة عن المنفى، حيث لا يستطيع الفلسطيني ان يجد لنفسه قبرًا ! |
(وإشارة في آخر المقالة )
في الثامن من تموز ١٩٧٢، اغتيل غسان كنفاني في الحازمية، ضاحية بيروت الشرقية، حيث كان يقيم. انفجرت سيارته بعدما استقلها والى جانبه ابنة شقيقته لميس، وتطايرت اجزاؤها ومعها تحولت جثة الكاتب أشلاء وشظايا.
ثلاثون عامًا (*١) مرت على الاغتيال ولا يزال الموت الفلسطيني هو الكاتب الخفي الذي يصوغ صورة المأساة المستمرة.
لم يكن كنفاني سوى حلقة من الموت الفلسطيني الكثير الذي غطى تاريخ المنطقة منذ بدء الغزوة الصهيونية واكتسابها شرعية دولية مع ”وعد بلفور“
الذي رسم سياسة الانتداب البريطاني على فلسطين.
هذا اللاجىء من عكا الى دمشق، فالكويت، فبيروت، لم يكن الكاتب الفلسطيني الأول الذي يسقط في المقاومة. فذكرى عبد الرحيم محمود، الشاعر الفارس الشهيد، كانت قد صارت جزءًا من ذاكرة فلسطينية تصنعها النكبة.
لكن اغتيال كنفاني أخذ شكل القتل الرمزي، وبه افتتحت اسرائيل سياستها المركزية مع الجسد الفلسطيني، فصار قتل القادة والمناضلين الفلسطينيين أشبه بطقس رمزي، يسعى، ليس الى قتل الشخص المحدد فقط، بل الى قتل الفكرة الفلسطينية.
عندما اغتيل كنفاني في بيروت عام ١٩٧٢، اعتبر الكثيرون هذا العمل محض اغتيال سياسي، أما تحويل جسد الكاتب اشلاء فلم يكن مقصودًا في ذاته. اذ ان الهدف هو قتل الكاتب والمناضل الذي كان يترأس تحرير اسبوعية "الهدف" الناطقة باسم ”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين“.
لكن الشاعر الفلسطيني كمال ناصر كان له رأي آخر. روى محمود درويش ان كمال ناصر جاءه غاضبًا، بعدما نشر درويش مقالاً في ”الملحق” يرثي فيه كنفاني، وسأله: ”ماذا ستكتب عن موتي، بعدما كتبت كل شيء عن غسان؟”. (*٢)
ضحك محمود درويش يومذاك من "النرجسية" الفلسطينية المرتبطة بالموت، ونسي الحكاية، الى ان قُتل كمال ناصر بعد تسعة أشهر من اغتيال كنفاني. ففي العاشر من نيسان ١٩٧٣، تسللت وحدة ”كوماندوس” اسرائيلية الى بيروت، واغتالت ثلاثة من قادة المقاومة الفلسطينية: كمال عدوان ومحمد يوسف النجار، عضوي اللجنة المركزية في حركة "فتح"، وكمال ناصر - الناطق الرسمي باسم ”منظمة التحرير الفلسطينية”.
امام جسد كمال ناصر المدمّى، أُصيب الناس بالذهول. اذ لم يكتفِ الاسرائيليون بقتل الشاعر الفلسطيني رميًا بالرصاص، بل ألقوه ارضًا على ظهره، يداه مصلوبتان، وهناك رصاصة في فمه.
يومذاك اتضحت دلالة الرمز في الموت الفلسطيني. كاتب ”رجال في الشمس” تمزق اشلاء وتطايرت أعضاؤه، والشاعر الناطق، أُخرس برصاصة في فمه، وصُلب على الأرض.
نشر محمود درويش رثاءه لكمال ناصر في قصيدة العرس الفلسطيني: "طوبى لشيء لم يصل" (*٣) ثم جاءت التقارير الاسرائيلية لتشير الى أن قائد عملية الاغتيال هو ضابط اسرائيلي يدعى إيهود باراك، تسلل مع مجموعة ”كوماندوس“ في ”الجيش الاسرائيلي” الى بيروت، متنكرًا في زي امرأة تضع على رأسها باروكة شقراء.
”هذا هو العرس الذي لا ينتهي
في ساحة لا تنتهي
في ليلة لا تنتهي
هذا هو العرس الفلسطيني
لا يصل الحبيب الى الحبيب
الا ﺷﻬيدًا أو شريدًا“
قرأ محمود درويش اغتيال الشاعر الفلسطيني ورفيقيه، في سياق عرس الدم الفلسطيني الذي يجعل العاشق ﺷﻬيدًا، متابعًا بذلك تراث شعر الحب عند العرب الذي أوصله الشاعر الأموي جميل بثينة الى الشهادة: ”لكل لقاء نلتقيه بشاشة/ وكل قتيل عندهن شهيد”.
غير ان الصور الفوتوغرافية التي نشرتها صحف بيروت لكمال ناصر شهيدًا، قدمت قراءة رمزية أُخرى للاغتيال. فالشاعر الذي عمل ناطقًا رسميًّا باسم ”منظمة التحرير”، أخرسته رصاصة في فمه. والفلسطيني المسيحي صُلب على الارض وليس على الخشبة، والرسالة الاسرائيلية تبحث ليس عن القتل فقط بل عن القتل الرمزي.
اتخذت الاغتيالات ومحاولات الاغتيال طابعًا رمزيًا صارخًا، بعد هذين الاغتيالين الكبيرين: أنيس صايغ، مدير ”مركز الابحاث الفلسطيني“، انفجرت عبوة ناسفة في يده وعينيه. الكاتب والباحث يجب ان تُشلّ يداه ويفقد البصر. والرجل الذي خلَفَ كنفاني في رئاسة تحرير "الهدف"، بسام ابو شريف، انفجرت فيه عبوة مشابهة. وائل زعيتر قُتل في روما (*٤). ومحمود الهمشري وعز الدين القلق قُتلا في پاريس. واللائحة تطول لتتوَّج في النهاية بخليل الوزير (أبو جهاد)، ثم تتخذ أبعادًا جديدة عبر سياسة القتل العمد التي اتبعها الجيش الاسرائيلي في مواجهة انتفاضة الأقصى، حيث استخدمت الصواريخ التي ترميها المروحيات في الاغتيال بدءًا بالأمين العام لـ”الجبهة الشعبية“، أبو علي مصطفى، الى ما لا نهاية له من المناضلين.
كأن اسرائيل تخوض مع الشعب الفلسطيني معركة رمزية، الى جانب معركتها السياسية - العسكرية. الهدف هو محو الرمز الفلسطيني، واحلال رمز مكان رمز. لكن السياسة الاسرائيلية صنعت من دون ان تدري ربما، مخزونًا رمزيًا فلسطينيًا جديدًا، فصار الرمز أكبر من وعائه الأدبي، ولم ينحصر بالموت وحده، بل امتد الى حقول متنوعة، ربما كان مشهد الاسرى والمعتقلين هو الأكثر دلالة: العيون المعصوبة، الأيدي والأرجل المكبلة، الاجساد التي تُجبَر على التعري، الركوع... وهنا تأتي صورة مروان البرغوثي، أمين سر حركة "فتح" في الضفة الغربية، لتحتل مكانها الرمزي، في وصفها تجسيدًا للفلسطيني المقاوم.
كان اغتيال غسان كنفاني، بداية الموت الفلسطيني الرمزي، اذ صار جسد الكاتب استعارة لأرضه، وصارت اشلاؤه صورة عن اشلاء شعب ممزق، وصار قبره صورة عن المنفى، حيث لا يستطيع الفلسطيني ان يجد لنفسه قبرًا !
في حقل الموت تخوض الدولة العبرية اكثر معاركها الرمزية شراسة ضد الوجود الفلسطيني، فالمعركة التي قادت الحركة الصهيونية الى الاستيلاء على التاريخ والارض والفولكلور والمطبخ والعمارة، لن يُكتب لها النصر إلا في حقل الموت الرمزي، عبر فرض المنفى الكامل على السكان الاصليين الذين يعيشون في بلادهم.
(يتبع)
هوامش:
(*١) يوم كتب ونشر هذا المقال - ١٨ تموز ٢٠٠٢ / س.د.
(*٢) الصحيح اني اخترتُ هذا المقال القديم نوعًا لسبب إضافي غير ذكرى غسان كنفاني. السبب الثاني هو أني قرأت الكثير مما كتب عن غسان وذكر الكتاب عن مقولة / ”غيرة” الشاعر الشهيد كمال ناصر من ”رثاء“ لغسان كنفاني. ولكن في جميع الكتابات أغفل الكتّاب ان ”غيرة“ كمال ناصر كانت مما كتبه بالذات محمود درويش في رثاء رفيقهما غسان كنفاني لا من الرثاءات ككل. وبما اني أعرف هذه الحادثة من محمود درويش نفسه، بالإضافة الى الأدبيات السيّارة، فقد ارتأيت الكتابة عن ذلك؛ فصادف اني وجدتُ المعلومة بقلم زميل محمود درويش في تلك السنوات - الروائي الياس خوري، على لسان محمود درويش أيضًا.
قال محمود درويش نقلاً عن كمال ناصر بلسانه : “ماذا أبقيتَ لي عندما سأستشهد بعدما كتبت كل هذا عن غسان”!؟ ولَم يكن غضبه مازحًا.
فاقتضى النشر والتنويه.
(*٣) على ما يبدو قصد الياس خوري الرثاء المعنون بـ: “هم أكثر من الكلمات“ - ”شؤون فلسطينية”، العدد ٣٢، نيسان / أپريل ١٩٧٤، ثم قام الصديق سمير الزبن بتوثيقه في مؤلفه الذي جمع به مراثي محمود درويش، تحت العنوان : (المراثي - يكسر إطار الصورة ويذهب) الصادر عن “دار كنعان” عام ٢٠١٤ / س.د.
(*٤) وماجد أبو شرار / س.د.
(**) رثاءات محمود درويش لغسان كنفاني على صفحتي هذه - روابطها في التعليقات.
موقع ”الحوار المتمدن“، ١٨ تموز ٢٠٠٢.
نقلاً عن “ملحق النهار الثقافي“.
Comments