لم تعد تفصلهم عن أيـّام التصويـر إلا أسبوع. كان نسق الإعداد جيّـدا فقـد تعوّد على العمل مع نفس الفريق خلال الأفلام الأربعة التي أخرجها. كان ينتظـر اللّحظة التي ينتهي فيها مساعده من إتمام خطّة العمل لِتُعلــّق بعد ذلك نسخة منها على جدار المكتب أمامـه. وقتها فقـط يستطيع أن يستـرجع أنفاسـه وينـام لـيلتـه بـهـدوء، لأنّ أيّـام التوتّـر الصّعبـة ستـكـون انتهـت لتحـلّ محلّـهـا أيّـام إنجاز مـا تخيّلـه. هو على خلاف العديـد من زملائـه لا يعتبر التصويـر العصب الأسـاسي للفيلم، بل الكتابة وتقطيع المشاهد وحسن اختيار الممثلين وإعدادهم وعموما دفع المخيّلة لتجعل من الفيلم لغة بذاتـها، وما التصويـر إلا تحقيـق أو امتـداد طبيـعيّ لذلك الجهد.
ومع ذلـك كان هـنـاك ما يحول دون الانتهاء من إعـداد خطـة العـمـل، فـفـريـق الانتاج لم يتمكن من العثور على ممثلة لتأدية أحد الأدوار الرئيسية. منذ الأسبوع الثالث إكتمـل الكاستـيـنغ باستثنـاء دورها، دور دانيا الذي بـقي ظلاّ بلا جسم مـنـذ أكـثـر من أربعـيـن يـوم من البـحـث. وبالرغـم من ترشّح العـديـد من الممثلات وأشبـاه الممثلات فإن خروجهـنّ من مكتـب الكاستينغ كـان أسـرع من دخولهنّ إليه. ولمّا حاول البعض إقناعه بأن الاعتماد على ممثلة مهما كانت ممّن أتين خير من أن تتعطّل عجلة الإنتاج، قرّر إعادة النظر في الشخصية لدراستها من جميع جوانبها. وفي مساء الغد وبعد مراجعـة كامـلة للسينـاريـو استغرقـت ساعات طويلة إلى آخر اللـّيـل، انتهى إلى إعادة كـتابـة الـدّور الذي صـار بعد قراءته على فريقه أكثر وضوحا واكتمالا وبالتالي أهمية في سير أحداث الفيلم. نظر إليه مساعده وقال :
_ أردتَ الوصول إلى حلّ فجعلتَ الأمر أكثر تعقيدا ! ثم أعقب
_ لا يهمّ سننتهي من ىهذا الأمر سريعا !
***
في إحدى صفحات الرواية التي كان يقرؤها قبل أن يخلد إلى النوم تراءى له وجه. ترك الكتاب ينزلق على صدره وأغمض عينيه وفي لحظة خاطفة أدرك أنّها صاحبة الدّور. لم يكن يعرف من هي وإن كانت ممثّلة أو لا ولكنه تذكّر أين ومتى رآها. قفز من سريره غير منتبه إلى كتابه الذي يسقط وراح يذرع الشقـة جيئة وذهابا ثم جلس على كرسي في المطبخ وابتسم، ثم تجهّم ثم ابتسم من جديد. أشعل سيجارة أخذ منها نفسا ثم وضعها على المنـفـضة ورجع إلى غرفته ليأخذ تلفونه الجوّال ويضغط على بعض أرقامه.
_ آلو ! من فضلك مساعد المخرج الأول ! (ينتظر قليلا ثم يبتسم ويتكلم) :
_ آلو ! لقد وجدتها ! أقصد تذكرتها. هناك فتاة لها نفس صفات دانية. تماما نفس الصفات. في العشرين من عمرها. متوسّطة الطول. دائمة الإبتسام دون تكلّف أو سوقية. تبادر بالسّلام. لا أعرف ماذا أقـول ! ولكنها مشرقة على كـل العـالـم من حولها، دون تكلف كما قلت، تماما مثلما يجب أن تكون في الفيلم. لقد رأيتها ثلاث او أربع مرات منذ حوالي الشهريـن عند مـبـاشـرتي لإخراج الحصة الصباحيــة بالتلفزيون قبل تفرغي للفيلم معكم.
_ ولكن هل أنت متأكد من أنك ستعثـر عليها ! قد تكون ضيفـا أو زائرة لإحدى الحصص التلفزيونية !
_ لا تقلق ! أنا متأكد مـن أنـها ليست زائرة لأني رأيـتـها أكثر من مرة. كانت محاطة ببعض الزملاء وهذا دليل على أنها تشتغل هناك ! على العموم سأجدها.
***
في الغد وقبل أن يذهب إلى عمله مرّ على مبنى التلفزيـون. كان بالكاد يـمـيّـز بين الوجوه أو يردّ على التـحيـات. كانـت له فكـرة واحـدة أو بالأحرى، كـان في رأسه وجه واحد يتعيّن عليه تميـيـزه من بين الجميع. اخـتـرق الساحـة التي تـلـي البهو وتفقد المشرب. بعد ذلك طاف طـوابـق المبنى فمـرّ على مصالـح الإنـتــاج والإخراج والبرمجة والتنسيق والأخبار والديكور والتصوير والإضاءة والمونتاج والبثّ ثم انتهى به الأمر في المشرب حيث شرب قهـوته مـسـرعـا وخـرج. في اليوم الموالي وبعد نوم متقطّع، اشتغل طيلة الفترة الصباحية مع مدير التصويـر على إعداد اللّحظات الحاسمة في الفيلم واختيار العدسات ومرشحـات الإضـاءة المناسبة. في استراحة الغذاء توجه إلى مبنى التلفزيون. لم يكن راغبا في الأكل، وكان يفكر في إمكانية أن تكون قد غيّرت توقيت شغلها من الحصّـة الصبـاحـيـة إلى حصّة ما بعد الزوال. من جديد زار كل المكاتب والقاعات ثم عاد إلى شركة الإنتاج حيث وجد نسخة كبيرة من خطـة العمـل مُلصقـة على إطار خشبيّ مُعلّق على الجدار المقابل لمكتبه. اقترب منها واستعرض أسمـاء الممثلين. كـان هناك بياض أمام إسم دانية. دخل مساعد المخرج الأول ضاحكا :
_ ما رأيك ؟
_ شكرا ! عمل جيّد...أما بالنسبة لدانية...
_ فيما يخصّ دانية...إذا لم تجدها إلى حدود يوم الإثنين اترك المسألة لي وسأجد ممثلة تُرضيك ! موافق !
كان رأسه يؤلمه وأفكاره مبعثرة، ومن فرط تعبه أدرك أن أحـداث الروايـة التي كان يقرأها منذ أيام، تداخلت مع سيناريو الفيـلـم. يوم الغـد هو يـوم راحـة وهـو يعرف أن أكثر من ثلثي المشتغلين في التلفزيون غائبون، لكنهـا قد توجـد هنـاك حيث لا يتوقّع أن يجدها. قرّر أن يسأل الفتيـات والنسوة بصفـة خاصـة. تحـدّث عن الفتاة التي يبحث عنها لدور دانية واصفا إياها بدقّـة كأنـه يراها أمـامـه. كنّ يعجبن لأمر هذه الأميرة النائمة التي لا ترى ولا تسمع ولا تعيـر انتباها لحظِهـا الذي يبحث عنها ليوقظها من سباتها حتى تصير دانية شهيرة لا مثيل لهـا. وفي كل مرة تقوده فيها إحداهنّ بثقة وثبات إلى إحدى المنشّطات أو قارئات الأخبار أو المتمرّنات الجديدات، كان يعجب ! كيف يُترجم الناس ما رآه ووصفه لهم أو لهنّ، إلى وجوه وحالات، ليس فقط تختلف عن بعضها البعض بمقدار كبير، بل لم يجد لأحد منهنّ شبها بها ولو قليلا.
***
نفذت سجائره وأحسّ بتعب ويأس ورغبة في الذهاب بعيدا. بعيدا عن بيته وعمله ومعارفـه. بعيـدا عن مديـنـتـه وعن كـلّ الـمـدن. بـعـيـدا عن النــاس والضوضاء والأضواء والروائح والأكل والسجائر والقهوة...بعيدا عن كـل شيء. إلا عـنـها. إنه يريد أن يقترب منها. أو بالأحـرى يـقـتـرب من حالـة الصّفاء. صفـاء الذّهـن والروح، علّه يجد سبيلا للوصول إليها. كان على ثقة كبيرة أنها قريبة جدا. قريبة منه ومن الجميع، وإن لم يجدها فلا ذنب لها لأنها لا تعلم، فلو علِمت لجاءت. لو علِمت فقط لالتفتت. لاستدارت نصف استدارة وحتى دون أن تبتسم سيعرفها. سيعرفها حالا. وها إن أمله يتجدّد حين أتاه أحد الأصدقاء الذين اشتغلوا بالكاستينغ بعلبة كرتون كبيرة مليئة بالأشرطة قائلا :
_ كل الفتيات اللّاتي ترشّحن لكاستينغ التنشيط والتمثيل وتقديم البرامج وقراءة نشرات الأخبار موجودات في هذه الأشرطة !
بعد أن شاهد كل الأشرطة الواحد بعد الآخر، شعر بإرهاق كبير وإحساس بضيق الصّدر وشعور بالمرارة. لم يجد ما كان يبحث عنه. نسي أن يحلق ذقنه منذ أسبوع وحالته مثيرة للشفقة. بعد يوم يبدأ التصوير وكل شيء جاهز أما دور دانية فسيقع تصويره في الأسبوع الثاني لحسن الحظ. وفكّر من المحتمل أن يكون وحده الذي رآها. من المحتمل أن جمالها أشعّ عليه وحده.
في اللّيلة السابقة ليوم التصوير الأول زاره صديقه (ع.) مساعد المخرج الأول في منزله. كان (ع.) يحترمه ويحبّه وبينهما صداقة طويلة. قال له :
_ اسمع صديقي ! يبدو أن كل شيء توقف لديك ما لم تجد من يؤدي دور دانية. ما الذي يحدث في رأسك لا يعلمه أحد ! وأنا فبالرغم من أنني أقرب الناس إليك فقد صرت حائرا. لماذا هي بالذات ؟ أنت تعرف أن لا شيء مستحيل في مهنتنا. نحن قادرون على إيجاد مئات الفتيات لتختار إحداهنّ لأداء دور دانية. شخصية مستعصية إلى هذا الحدّ ؟ لماذا هذا الشبح بالذات ؟ أنت تُرهق نفسك أكثر مـن اللّازم. رجاء صديقي لا تنسى أنك أنت المخرج وأن الأيام القادمة تتطلّب مـنـك هدوءا وتركيزا ! أعرف أنك تُحبّ عملك فلا تجعل عائقا واحدا يحول بينك وبين الذهاب قُـدُمـا !
نظر إليه مليّا وربّت على كتفه وقال :
_ نعم صديقي أنت محقّ ! لا بدّ أنك تُحس أن لا رغبة لي في الكلام لذلك تكلمت على راحتك وقلت كلّ شيء. شكرا لك على كـلّ شيء ! غدا نبتـدأ يـومـا جديدا وحظّا سعيدا لنا !
***
إستفاق من نومه ونظر. لم يكن نائما في غرفته. تأمّل حواليه فأحسّ بدوار وأيقن أنه في غرفة مستشفى. دقّ قلبـه عنيفـا. مـاذا حصل ؟ ماذا يفعـل هنا ؟ دخلـت شابة ترتدي ثوب التمريض الأبيض وابتسمت له وقالت :
_ ها إنك استفقت الحمد لله !
_ صباح الخير ! أين أنا وماذا حدث ؟
_ مساء الخير ! الآن التاسعة ليلا. أنت هنا منذ ثلاثة أيام.
_ كيف ؟ لقد بدأنا التصوير !
_ نعم بدأتم التصوير يوم الإثنين واليوم هو الاربعاء. خلال ساعة الإستراحــة للغذاء، خرجتَ من مكان التصوير دون أن تتغذّى وذهبت إلى مبنى التلفزيــون حيث جَريت حسب شهود عيان رأوك. جريْت وراء فتاة وناديتها لكنك انزلقـتَ وسقطت وأصابك دوار وغبت في غفـوة. الحمد لله لـيـس هنـالـك كسـور لـكـن جهازك العصبيّ تأثّر والآن حالك أفضل.
_ شيء لا يُصدّق هذا الذي حدث لي !غريب كلّ هذا ! كيف ؟ والتصوير؟ نظر إلى الفتاة فلم يرها. لم تكن هناك وهو لم ينتبه إليها لمّا خرجت. أحسّ بثقل رأسه ودوار خفيف فأغلق عينيه ونام من جديد.
***
بعد أسبوع رافقه صديقه (ع.) إلى بيته وشرب معه الشاي وأعطاه حبوبه وقال :
_ صديقي ! لحسن الحظّ أنك لم تتزوّج وتعيش وحدك ! لكن هذا ليس مشكلا لأنه يُلزمني ولحسن حظي أيضا أن أكـون معك وأساعدك في كـل شيء وخاصـة في استهلاك دوائك !
_ لكن ...كيف ؟ ماذا حدث؟ ولماذا ؟
_ لا تبتئس ! توقف التصوير إلى حين عودتك معافى ! المهمّ أن تستعيد صحّتك. بالعكس صديـقـي أنا الذي أعرف مـا الـذي حـدث بالضبـط ! لقد حَـكوا لي عن ملاحقتك لفتاة ثمّ سقوطك في أحد الأروقة. أردتُ أن أعرف هل تذكـر من هي هذه الفتاة ؟ أليست تلك التي تبحث عنها لتُنفّذ دور دانية ؟
_ اسمع صديقي ! وأنت تتكلّم الآن تذكّرت أني رأيت حلما. لا أعرف حقـا إن كان حلما أم يقظة ؟ قد يكون ما حصل لي هو هذا.
_ تكلّم قل ما رأيت !
_ كنت في مبنى التلفزة وبالتحديد في المشرب. رأيـت الفتــاة مارّة بسـرعـة فخرجتُ أجري فلم أجدها. دخلت من أحد الأبواب فرأيتهـا في آخـر الـرّواق. جريتُ نحوها وأنا أصيح :
_ انتظريني ! رجـاء ! لحظة واحدة ...لكنها لم تلتفت. ثـم لا أذكر شـيـئـا آخر.
_ يبدو صديقي أنك وقعت في الأسر ! أقصد أنك أحببتَ الفتاة لأنك رفضت أن يقع تغييرها.
_ شكرا صديقي ! أنا أشكرك لأنك الوحيد الذي بقيت معي وآزرتني. أنا آسف لأني أحسّ أن كل شيء انتهى. لم تعد لي رغبة في أي شيء.
***
بعد هذه المحادثة بساعات قليلة توفّي المخرج على سريره. وجدوه ميّتا مفتوح العينين وبيده نسخة من السيناريو مفتوح على صفحـة فـيـها وصف لشخصيـة دانية.
***
قالت الممرضة دامعة العينين :
_ يوم وفاته أرسلتني إدارة المستشفى لزيارته. دحلتُ غرفته لأتثبّت في حالته وأعاين حالة السيروم . نظر إليّ مستغربا وقال :
_ من أنت ؟
_ أنا الممرّضة !
_ عفوا لم أعرفك لأنك لا ترتدين ثوبك الأبيض ! أنت تشبهينها الآن !
تنهّد وأضاف :
_ يبدو أن حياتي تنتهي. لم أرها أمامي ولـم ترني. لم أكـلـمـها ولم تُكـلّمـني. ما عرفتُ إسمها. كلّ شيء انتهى !
_ يا إلاهي لم أكن أتصوّر أنه سيموت بعد كلامه ذلك ! لقد مات من أجل شيء لا يعرفه أحد...مُخرج يموت من أجل فتاة لا يعرفـها ولا تعرفه ولـم يـرهـا أحد ! قالت كلامها للمحيطين بها في المستشفى وبكت.
نعيم بن رحومة
حقوق التأليف محفوظة
Commentaires