إنّ قراءة النصوص الشعرية قراءة دلالية تؤدّي إلى الوقوف عند مراكز اهتمام نعتبرها نوافذ هامة للدخول في الكون الشعر لتلك النصوص واستكشاف مدلولاتها في خصم حضورها اللغوي والإيحائي والرمزي.
وشعر مختار اللغماني في مجموعة " أقسمت على اِنتصار الشمس " تتبعنا في معاني قصائده وصورها ظاهرة التعبير عن العطش والبحث عن الماء فهو يقول في قصيدته الأولى:"التعبير عن الغربة"( ص.7.)
عيناي الضيقتان واسعتان جوع
يابستان ياشفتان عطش
عيناي مسافران ضائعان يبحثان عن ينبوع؟
هل صدفة أننا نلاحظ الصلة الوثقى بين كلمة (ماء) وكلمة (أمّ) فإذا كانت الأمّ مصدر الإنسان فإن الماء هو أصل الحياة وقد حفلت اللغة العربية في معجمها بهذين الكلمتين حيث أنها نشأت واِنتشرت وسادت في أصقاع هي من أشد الأقاليم حاجة إلى الماء بل إن الحضارة الإنسانية ظهرت حول الينابيع والأنهار الدافقة التي على ضفافها عرف الإنسان الفلاحة والثقافة فِانبثقت الحضارات الأولى بين دجلة والفرات والنّيل حتى عمّت العالم عبر العصور وعبر الأودية والسّواحل أيضا.
حفلت اللغة العربية اذن بالماء ووجدت له كلمات لا تحصى ولا تعدّ بحسب خروجه وسيلانه وبحسب نوعه واِستعماله وبحسب وجوده ومشتقاته حيث أورد الثعالبي في كتابه ـ فقه اللغة ـ أن الماء إذا كان من السّحاب فقد سَحّ وإذا كان من الينبوع نَبع ومن الحجر اِنبجس ومن النهر فاض ومن السقف وَكف ومن القِرية سرب ومن الإناء رشح ومن العين اِنسكب وإذا كان الماء دائما لا ينقطع ولا ينزح في عين أو بئر فهو عَدٌّ فإذا حرّك منه جانب لم يضطرب جانب آخر فهو كرّ فإذا كان كثيرا عذبا فهو غدق، فإذا كان مغرقا فهو غمرا فإذا كان تحت الأرض فهو غور، فإذا كان جاريا فهو غيل، فإذا كان سبل المنال والاستعمال فهو سيح، فإذا كان ظاهرا جاريا فهو معين، فإذا كان جاريا بين الأشجار فهو غلل، فإذا كان إلى العكبين فهو ضحضاح فإذا كان قريب للقعر فهو ضحل فإذا كان قليلا فهو ضهل فإذا كان خالصا يخالطه شيء فهو قراج فإذا خاضته الدواب فهو طرق، فإذا تغير فهو سجس فإذا تغيّر من حيث الرائحة فهو آجن، فإذا كان حارا فهو سخن، فإذا اشتدت حرارته فهو حميم ، فإذا كان بين البارد والحار فهو فاتر، فإذا كان مرّا فهو قعاع فإذا كان شديد الملوحة فهو حراق ، فإذا كان مرّا ومالحا فهو اجاج فإذا كان يشرب فهو شريب فإذا كان لا يشرب إلا على ضرورة فهو شروب والماء العذب فرات.
فإذا زادت عذوبته فهو نقاخ فإذا جمع الصفاء والعذوبة فهو زلال.
وقد فصلت اللغة القول تفصيلا في ذكر الأنهار والأودية والجداول والآبار والأحواض والأمطار بحسب الأوصاف والكمية والوقت والمكان والصوت والسيلان كما أنها صنفت الماء تصانيف بحسب المناسبة والشراب والمصدر
الطعم.
بل أن اللغة اشتقت من مفردات الماء كلمات تدلّ بها على أوصاف لمسميات أخرى كالفرس مثلا، فإذا كان الفرس سريع الجري فهو غمر وهو الماء الكثير، وهو جموم أي مستعد دائما للعدو ومثل البئر الجموم أي التي لا ينزح ماؤها، فإذا كان الفرس متتابع الخطو فهو مسح كالمطر المتتابع فإذا كان لا ينقطع جريه فهو بحر ومن دلالات الماء كذلك كلمة العين التي لا تفضي إلى عديد المعاني بحسب سياقها في الكلام فهي منبع الماء وجارحة البصر وهي الذات والنفس في قولهم عين الشخص وهي في الابرة موضع الخيط ومن
معاني الكلمة قولهم مال عين أي عقار وقولهم فلان عين عن جمع أعيان وقولهم كان عينا أي جاسوسا وقولهم عين الشجرة أي منطلق الغصن فيها، أما أهل الصرف فقد جعلوا للفعل عينا أيضا.
نحن إذا تتبعنا سيرة الشعر العربي في مختلف عصوره الزاهرة وجدنا عيون النصوص فيه ترشح بالماء تصريحا وتلميحا حتى لكان الشعر العربي إنما كان وأينع وازدهر عندما احتفل بالماء ومعانيه ولكان الماء هو حياة الأدب أيضا فسبحانه الذي قال وجعلنا من الماء كل شيء حي.
من ضمن المعلقات التي تعتبر من أهم عيون الشعر العربي معلقة امرئ القيس حيث تحدث فيها عن يوم دارة جلجل إذ أورت كتب الأدب القديمة أن امرئ القيس كان عاشقا لابنة عمة عنيزة وأنه طلبها زمانا فلم يصل إليها حتى كان يوم الغدير وهو يوم دارة جلجل الذي باغت فيه النسوة ومعهن عنيزة وهن يغتسلن في الغدير فأتى امرئ القيس وأخذ ثيابهن فجمعها وقعد عليها والله لا أعطي جارية منكن ثوبها ولو قعدت في الغدير يومها حتى تخرج متجردة فتأخذ ثوبها. فأبين ذلك حتى تعالى النهار وخشين أن يتخلفن عن العودة فخرجن جميعا غير عنيزة التي أبت لكنها أذعنت لإرادته في آخر الأمر فما كان منه عندئذ إلا نحو ناقته اكراما لهنّ وطلبا للهو والمتعة ولقد قال لله درّه في ذلك اليوم – يوم الغدير
ألا ربّ يوم من البيض صالح
ولا سيما يوم بدارة جلجل
ويوم عقرت للعذارى مطيتي
فيا عجبا من رحلها المتحمل
فظل العذارى يرتمين بلحمها
وشحم كهدّاب الدمقس المفتّل
وامرئ القيس يذكر الماء في معلقته عند قوله أيضا.
وليل كموج البحر أرخى سدوله
علىّ بأنــواع الهمــوم ليبتلــي
وهو عندما يصف فرسه يستعمل الماء في صورة
مكرّ صفر مقبل مدبر معا
كجلمود صخر حطه السيل من عَلِ
مِسَحٌّ إذا ما السّابحات على الونى
أثــرن الغبــــار بالكــديد المركّــل
فالماء لدى امرئ القيس كان إطارا لبعض أحداث معلقته بالإضافة إلى جعله من العناصر التصويرية في الوصف عند فرسه خاصة.
أما معلقة عنترة بن شداد فهي أيضا ذكرت الماء في قوله :
لا تسقني ماء الحياة بدلّة
بل فاسقني بالعزّ كأس الحنظل
ماء الحياة بذلّة كجهنّم
وجهنّم بالعزّ أطيب منزل
فاقتران الماء والحياة كان يمثل التلازم بينهما فكلما وجد الماء وجدت الحياة ولا حياة بدون ماء ولكن سياق الماء في هذه القصيدة يفيد بالإضافة إلى ما سبق رونق الحياة ومسراتها وذلك من شاعرية المعنى في القصيدة. ويذكر عنترة الماء عند وصفه لخوضه المعركة على متن جواده قائلا :
لما رأيت القوم أقبل جمعهم
يتذامرون كررت غير مذمّم
يدعون عنتر والرماح كأنها
أشْطانُ بئر في لَبَانِ الأدهم
فالحبل والبئر من سياقات الماء وكذلك الشراب والزجاجة في قوله أيضا.
ولقد شربتُ من المدامة بعدما
ركد الهواجر بالمشوف المعلم
بزجاجة صفراء ذات أسرّة
قرنت بأزهر في الشمال مقدّم
فإذا شربت فإنني مستهلك
مالي وعرضي وافر لم يُكلم !
تلك هي بعض دلالات الماء في الشعر القديم وقد واصل مختار اللغماني التعبير عن الماء في غضون قصائده هو أيضا لكأن الماء هو نسغ الشعر العربي قديما وحديثا
العــطـــش
لقد عبّر الشاعر عن قساوة زمنه فهو عبارة عن مستنقعات ومزابل ويتساءل في اِستنكار عن العلاقة الواهية التي تربط بهذا الزمن الذي أسند اليه الجدب والفقر.
يامستنقعات الأيّام
يامزابل منتصف الليل
يا عمري
مالي ولهذا الزمن المجدب القفر ؟
وزمنه الذي عاش فيه لم يكن الزمن الذي ينشده بل زمن شرس لا يحقق الأحلام وإنّما يبّخرها
على صدر الحالم في زمن تبخُّر الحلم (ص.11)
و يقول ايضا :
مرّت الأعصُر بعد عصر
نشفت بحار (ص.45)
ونرى أن العالم في حالة من القلق بينما الشاعر يُجابه مصير الحرق الصورة تمثل الانسان المأزوم الذي يعيش في وضع مأزوم يقول
محترق أنا في عالم القلق
و أقف أمسح عرقي (ص.13)
و هذا الإنسان يحمل قضية الصحراء القاحلة الجافة كناية عن القضية الإنسانية المعذبة غير أنه يحمل كذلك ـ الوجه ـ كناية عن المشروع الجميل للكون الزاخر بالعلاقات الإنسانية داخله لكن هذا الإنسان لم يقدر على الفعل والمواجهة و التحدي فاِتخذ من الصمت رفيقا في رحلته
أحمل عطش الصحراء الى العيون
أحمل وجهك و أحمل صمتي
و أنا أمشي .... (ص.37)
و صورة الأرض في شعر مختار اللغماني نجدها قاتمة متجهّمة بل مجروحة مطعونة يقول
أعطش أعطش
كما تعطش الى الدّماء الكرة الأرضية (ص.42)
و في صورة أخرى يقول
هاهي الأرض تسود من اليبس
وهاهي الحمائم البيض ترحل
تمدّ أعناقها نحو الشّمس
هذا الإنسان كان واعيا بالإطار المكاني والزماني المُجدب المُقفر الذي يحيا فيه فمضى يحلم بالمنشود من الخصب والاِخضرار فقلب المعادلة من الضدّ إلى الضدّ فجعل من حالة اليأس حالة أمل
أحمل حزنا مخصبا وموتا منجيا
و عطشا يرويني .... (ص.68)
و يقول أيضا
جسمك الخبز الطري و ثدياك ماء
و أهلي و أهلك عطاشى .... (ص.68)
المــــــاء ماذا ينشد الذي يحمل الصحراء والعطش والجدب واليُبس يقول مختار اللغماني
صُبّي غيثا على يُبسي (ص.42)
ولئن اِتّصف الحاضر بالجدب ولم يحقق أحلام الشاعر فإنه يتّجه الى المستقبل مؤمنا بأن التاريخ سيحبل من الحاضر وسيلد بالمنتظر يقول
يا ماء يتدفق من عيون الغد
يا زيتونة لا شرقية ولا غربية (ص.42)
إنّه يحنّ إليها تلك الأماني الجميلة ويحلم بها و يخاطبها أحيانا بالضمير المؤنث المفرد وهي أحيانا محبوبة الطفولة يقول
و هل تذكرين... أنا كنت أطول منك فأقطف تفاحة
و تقولين نقسمها قطعتين فأقسمها تأكلين
و تعطينني قطعة فأقول
"حلفت عليك بأن تآكلي القطعة الباقية " (ص.94)
و هي أحيانا تتّخذ بعدا رمزيا كناية عن الوطن يقول
و حين تجيئها ليالي الشده
يلقي بالماء على نارها
و يأتي بالغرباء الى دارها (ص.84)
و يعبّر عن الوطن أحيانا بأكثر تصريحا
فقلت لقد صرت تمرا و خوخا و لوزا و أخشى
عليك من الطامعين و هذا أبوك يعاشر
تجّار كل البلاد ويعشق عطر النقود
و أخشى عليك .... (ص.95)
و أحلام الشاعر تكون سيلا جارفا فتكون أحيانا عنيفة مدمّرة
أحلم : قصر الليل
ينهار كالليل على بانيه (ص.73)
حزني السّيل الجارف
المُحدث في أرض السّوس الجراف (ص.74)
و يصرّح الشاعر حينا آخر أنّ تلك الأحلام إنما هي ماء أو زيت يبعث الحياة والنّماء
تتجذّر فينا الأحلام الخضراء
تتسرّب كالرياح
كقطرة زيت
كالماء (ص.58)
و يصبح الماء حينا آخر أمطارا وفياضات أنهار... إنّه اليوم الكبير الموعود الذي تكون فيه الدنيا على قدم وساق فهو اليوم التاريخي لأنه يوم تحقّق الأمنية الكبرى
هذا نزول الأمطار
و هذا فيضان الأنهار
و هذه حبيبتي قادمة
مع القيامة القائمة ! (ص.15)
و بعد فإن مختار اللغماني أحسّ بضراوة الواقع فعبّر يالصورة الشعرية عن تعفّنه وذلك بصُور الجدب واليُبس وغيرها من المفردات التي تدلّ على الجدب والعطش .و حمل الشاعر مشروعا آخر بديلا لهذا الواقع يتّصف بالاِخضرار و الحبّ من خلال مُرادفات للماء كالأنهار والمطر والبحر والبحيرة و الاِغتسال والِاستحمام والعرق والشراب والغيث والكأس ألخ ...كقوله
أشهد أنّي السّمك الأصفر في البجر
و أنت البحر وأنت الماء (ص.111)
أو
أقف مكتوف اليدين أستحمّ في العرق
تجرح الشّمس عيوني (ص72)
فالعطش عند مختار اللغماني تعبير عن الوضعية المؤلمة التي تصل الى حد الفاجعة فهو حينئذ رمز لظرفه المتدهور .
أما الماء فهو البديل لهذه الوضعية التي يريد الشاع تغييرها بما هو أحسن فجعل الماء يحمل رمزين معا فهو المُدمّر والمُغيُر وهو الحلم النّقيض للعطش والحامل للخصب والباعث للحياة. وإضافة إلى دراسة دلالات ـ الماء ـ في هذه القصائد ثمّةَ مجالات اِهتمام أخرى مهمّة كي يمكن الإحاطة بالكون الشعري لقصائد ـ أقسمت على اِنتصار الشّمس ـ كرؤية الشاعر للتراث القومي والعالمي ومثل دراسة الجانب الطبيعي في هذه القصائد كالزيتون و الحمام والشمس والصحراء.
كل هذه المباحث حسب نظرنا تُعين إلى حدّ بعيد على مقاربة شاعريّة مختار اللّغماني
بقلم سُوف عبيد
Comments