كُفّي الملام ولا تزيدي ما بي هلاّ كفاكِ تشرُّفي وعذابي؟
وانسَيْ عتابك وارفقي بي إنني حُمّلتُ ما حمّلتُ من أوصابي
لا تعتبي إن فرّقتْ ما بيننا نُوَب الزمان وطال عنك غيابي
فلقد حَملتُ هواكِ بين جوانبي وجعلت ربعك في النوى محرابي
وجعلتُ زادي منك ذكرى حلوةً عبّأت منها مزودي وجرابي
أحيا بها في البُعد، فهي لفرحتي وسعادتي سبب من الأسباب
أرأيتِ أني ما سلوتك لحظةً أبدًا. وهل أسلو ربوع شبابي؟
فانْسي عتابك لحظة وترفّفي فلقد أتيتُكِ أستحثّ ركابي
أقبلتُ يا «زاراتُ» ظمآناً إلى عينٍ تسحّ وجدول منساب
لي من مناهلكِ السخية رشفةٌ هي في فمي الصادي ألذّ شراب
وبحوض عينك سبحة وتقلّب ٌ وعلى رباك تلاعب وتصابي
وبظلّ نخلكِ مجلس أهفو لهُ في الخِيرة الظرفاء من أصحابي
أيام كنا والشباب جناحنا كالطير بين خَمَائِلٍ وروابي
تبعاتنا تُلقى على مرح الصبا وعلى انتفاضة عمرنا الوثّاب
نمضي إلى آرابنا لا ننثني، لا شيءَ يُرجعنا على الأعقاب
نسعى إلى اللذات وهي متاحةٌ سعيَ الفَراش لنفحة الأطياب
ونصيدها صيدًا إذا نفرتْ، فلا نرتدّ عند مَوَانِعٍ وصِعاب
تلك العهود فهل لديكِ حديثها؟ هل من رجوع للصبا وإياب؟
والعينُ؟ هل من خطْرةٍ في دربها؟ ضُمّي ليَ الأشتات من أترابي
لِنؤمَّ نهج العين في تجوالنا ونَجوبه في جيئة وذهاب
والوارداتُ الفاتنات روائحٌ للنبع بين صبيِّةٍ وكَعاب
حمرُ الغلائل قد نسجنَ من الضحى ومن الأصيل، مضرّج الجلباب
يخطرْنَ في خطواتهنَّ كأنما يحسبنَ للإيقاع ألف حساب
يلقينَنا فعُيُونهنَّ إلى الثّرى مشدودة الأجفان والأهداب
أهو الهوى تحت اللحاف مؤجَّجٌ؟ ومن الحيا مُتنقّب بنقاب؟
ونظلُّ نسأل بعضنا عن هذهِ، عن تلك، عن هاتيك في إعجاب
ونظلُّ نبني ما نشاء بوهمنا ونطير بين كواكبٍ وسحاب
طالتْ مطامحنا فكنا نبتني أعلى أمانينا بلمح سراب
ونعود للحانوت فوق حصيرةٍ للشاي ينفح عاطر الأكواب
أسمارنا، والصيف ينثر بِشرَهُ نُحيي الهزيع بلهونا الصَخَّاب
«زاراتُ» إني قد أتيتُكِ ذاكرًا عهد الصبا ردّي إليَّ شبابي
ذاك الشباب بما عليه وما لهُ بحصاده المحمود والمرتاب
واللّهُ يجزي السّيئات بعفوهِ ويُعدّ للإحسان ألف ثواب
لي مأمل أني سألقَى عندَهُ يوم القيامة أفضل الترحاب
ولسوف آتيه بوجه ناعمٍ ولسوف أُوتَى باليمين كِتابي
أقبلتُ يا «زاراتُ» ألثم تربةً مُتمسّحًا بالساح والأعتاب
في كلِّ درب لي هوى أحيا بهِ يسري بشرياني وفي أعصابي
فهناك منزلنا القديم وبابُهُ يا حسرتي ماذا وراء الباب؟
أُصغي فأسمع صوت أمي هاتفًا «قد عاد أحمد بعد طول غياب»
«يا مرحبًا بك يا ضياءَ نواظري يا حظَّ أمك يا رجاء الكابي»
وأُحسّ ضمّتها وأُغمض ناظري فأرى مُحيَّاها النحيف الخابي
وأكاد ألمس جسمها وأضمّهُ ضمّاً، فيعلق عطرها بثيابي
وأبي كأني سامع دعواتِهِ مُتبتّلاً للخالق التوَّاب
مُترنّمًا من آي سِفر اللّه «بالْـ أثمانِ» و«الأرباع» و«الأحزاب»
فكأنه ما زال يملأ بيتنا هذا الذي أضحى شبيه خراب
فلوالديَّ ببيتنا أثرٌ أُسَا ئِلُهُ، وأظفر عنده بجواب
فهما هنا ما دام حبّهما على شفتي وملء جوانحي وإهابي
وهما هنا ما دام يخفق خافقي لكليهما أُفضي وأشكو ما بي
كُفّي الملام ولا تزيدي ما بي فلقد أتيتُكِ أستحثّ ركابي
تهتاجني متناقضات عواطفي: وجْهٌ يهشُّ بمدمع سكَّاب
جدّدتِ عهدي بالصبا ومِراحهِ وأهجتِ أوجاعي وزدتِ عذابي
إني أتيتُكِ باكيًا مُترحّمًا وأنسْتُ في مغناكِ بالأحباب
كُفّي الملام فأنتِ أول صبوتي ولأنت أقصى القصد من آرابي
ولسوف أقنع منكِ - يا زاراتُ - إنْ أطبقتُ أجفاني بشبر تراب
Comments