العلامات اللّغويّة ودلالات الخطاب في ألواح الوهايبي الشّعريّة " مقاربة هرمينيوطيقيّة "
نصّ الأديب والشاعر والناقد الأستاذ بوراوي بعرون
مدخل تمهيديّ
" ألواح " مجموعة شعريّة للمنصف الوهايبي صادرة سنة 1982 عن " ديميتير " للنّشر في حجم متوسّط. وهي باكورة أعماله تتضمّن نصوصا مؤسِّسة لرؤيا شعريّة خاصّة بالشّاعر تتنزّل في سياق تشكّل تيّارات شعريّة في تونس في بداية الثّمانينات من القرن الماضي في منتدى الحمّامات المنعقد سنة 1981 ومنها التّيّار الذي أسّسه الشّاعر صحبة ثلّة من الشّعراء تحت اسم " التّيّار الصّوفي الكونيّ ". ونظرا لخصوصيّة هذه المجموعة، وتميّز خطابها الشّعريّ ارتأينا ضرورة اعتماد المقاربة الهرمينيوطيقيّة لتحليلها وتعميق النّظر فيها. والهرمينيوطيقا هي فنّ التّأويل وهي مقاربة تُعنى بتأويل النّصوص وفكّ شفراتها من خلال الغوص فيها والنّظر في ما هو ثاو تحت الأسطر وهي قراءة تستنطق العلامات والرّموز والأسرار منطلقة من المعطيات المتوفّرة. وتتميّز القراءة الهرمينيوطيقيّة حسب الدّراسة القيّمة للدّكتور " محمّد علي الموساوي " بعنوان " في القراءة الهرمنيوطيقيّة، الأصول والآليّات " الصّادرة بمجلّة " عالم الفكر "، العدد181 ( يناير-مارس 2020 ). صص215-248. بجملة من الخصائص منها 1) لا تدّعي القراءة الهرمينيوطيقيّة الوصول إلى امتلاك الحقيقة فهي حسب " راستيي " لا " تدعي أنّها المنهجيّة الوحيدة الممكنة، كما أنّها لا تدّعي أنّها الأحسن والأكثر اقتصاديّة أو الأكثر كماليّة ". 2) إنّ القراءة الهرمينيوطيقيّة ليست تلقّيا ساذجا للمقروء فلا تقبل الوقوف عند العرض والتّحليل والتّلخيص بل تسعى إلى إعادة بناء ذلك الخطاب بشكل يجعله أكثر تماسكا وأقوى تعبيرا عن إحدى وجهات النّظر التي يحملها أو يتحمّلها الخطاب. 3) تنطلق القراءة الهرمينيوطيقيّة من الجانب اللّغويّ الذي ينبغي أن نفهمه في أبعاده النّحويّة والشّعريّة والرّمزيّة، ومن ثمّ علينا أن نعطي الأهمّيّة في تأويل النّصّ الشّعريّ – مثلا – لخصائصه الجماليّة والشّعريّة، لكون العلاقة بين الشّعريّة والتّأويل هي بامتياز علاقة تكامل ... إنّ التّأويل يسبق الشّعريّة ويليها في الآن نفسه " – تودوروف - / الشّعريّة 1990 ص24. وتشتمل القراءة الهرمينوطيقيّة على مرحلتين، الأولى استكشافيّة أي قراءة إجماليّة انطباعيّة تساعد القارئ على تمثّل المقروء تمثّلا يقوم على الملاحظات العامّة والفرضيّات الأولى التي تمهّد للقراءة الثّانية أي القراءة الأعمق و الأدقّ وهي قراءة استرجاعيّة تعود بالنّظر إلى مخرجات القراءة الأولى وتكون قراءة تحليليّة تأويليّة تسعى إلى إنتاج المعرفة المنتظرة بالمقروء وفق الإستراتيجيّة المضبوطة بدقّة. ونعتمد في هذه القراءة التّمشّي الهرمينيوطيقيّ الذي ينطلق من القراءة الاستكشافيّة الشّاملة التي تتوقّف عند أهمّ المؤشّرات المساعدة على الولوج إلى مكامن المقروء ( العتبات / العناوين : العنوان الجامع والعناوين الفرعيّة الدّاخليّة وعناوين النّصوص، الكلمات / المفاتيح، شكل الكتابة / هندسة النّصوص والتّشكيل البصريّ للمكتوب ) ونمرّ بعد ذلك إلى القراءة التّحليليّة الاسترجاعيّة ( منابع الخطاب أوّلا و تجلّيّات الخطاب وآفاقه ثانيا ) لنختم بأهمّ الملاحظات والاستنتاجات.
القراءة الاستكشافيّة
تبدأ القراءة الاستكشافيّة أو الذّوقيّة بالنّظر في المؤشّرات الدّالة أي العلامات الكبرى في المجموعة، العنوان الكبير الجامع ( ألواح )، والعناوين الكبرى للأقسام الدّاخليّة ( مراثي الملك ) و ( القصيدة العربيّة ) و( قصائد أولى ) وعناوين النّصوص ( نشيد الملك، ليلة أولى، في اصطفاق الرّيح و النّخلة، ذنوب، احتفاليّة، وأسمّي، هل سنرحل يا رجل النّوء، في البيت العربيّ، النّخلة، الصّحراء، الجمل، رجل ينهض من غار حراء، سورة النّخيل، الآن استراحت ركابي، أنهار، في منزل السّهروردي، حديث الألواح الطّينيّة، يوميّات بورجوازي صغير، يد، أرض، فناء، ماسح الأحذية، أحدب ). هذه العناوين تساعد القارئ على صياغة فرضيّات القراءة الأولى فالعنوان الجامع " ألواح " مفردة في صيغة الجمع مفردها لوح ولوحة وفي الحالين نحن إزاء محمل للكتابة بأدوات مختلفة وألواح جمع لوح تحيل على الألواح الطّينيّة وهو ما يُؤكّده اختيار الشّاعر العنوان الدّاخليّ لأحد النّصوص " حديث الألواح الطّينيّة " صص48-53 والألواح الطّينيّة هي الآثار الخالدة للحضارة الرّافديّة وتتضمّن آثارا عدّة منها ملحمة " جلجامش " ذائعة الصّيت. فهل يعتبر الشّاعر نصوصه في هذه المجموعة بمثابة الألواح الأثريّة الكبيرة؟ في ذلك تقدير من الشّاعر لنصوصه البكر وفيه أيضا ارتباط بالآثار الكبرى وهو ما نلمسه في ميله اللّافت للأثر القرآنيّ والصّوفيّ بالخصوص. أمّا العناوين الثّلاثة الفرعيّة " مراثي الملك " ص3 و " القصيدة العربيّة " ص23 و " قصائد أولى " ص55 فهي عناوين لأجزاء من النّصوص أراد من خلالها الشّاعر التّبويب للفصل بين القصائد في المجموعة لاختلاف مدارات اهتمامها ربّما وللوصل بين القصائد المجمّعة تحت عنوان من تلك العناوين لخصائص مشتركة بينها ونتساءل في هذا المقام عن سرّ وضع الباقة الثّالثة من القصائد تحت عنوان " قصائد أولى " لماذا لم يضعها الشّاعر في البداية ثمّ ماذا يعني الشّاعر بعبارة " أولى " هل هي باكورة قصائده ممّا اختار في هذا الكتاب؟ ونتساءل كذلك عن علاقة النّصّ " في منزل السّهروردي " صص45-47 بالعنوان " القصيدة العربيّة "؟ كلّ قصائد المجموعة كتبت بالعربيّة وكلّها تدور في فلك مدارات ذات علاقة باللّغة العربيّة وإذا كانت القصيدة العربيّة تتميّز عن القصائد الأخرى بارتباطها إلى هذا الحدّ أو ذاك بالاهتمامات العربيّة فما علاقة " في منزل السّهروردي " بمثل تلك الاهتمامات خاصّة إذا علمنا أنّ " السّهروردي " فارسيّ وكتب باللّغتين العربيّة والفارسيّة، ولئن كان مقامه في حلب وكان ينتمي إلى الثّقافة العربيّة الإسلامية بمعناها الواسع فإنّ القصيدة قد لا يكون ذلك تصنيفها الأنسب ... أمّا عناوين النّصوص في المجموعة فيمكن تصنيفها حسب أحجام نصوصها ( عناوين نصوص قصيرة / عناوين نصوص متوسّطة / عناوين نصوص طويلة ) أو حسب مدارات اهتمام نصوصها ( عناوين نصوص رؤياويّة / عناوين نصوص علامات لافتة / عناوين نصوص أخرى ) من النّصوص الرّؤياويّة نذكر: " هل سنرحل يا رجل النّوء؟ "، " سورة النّخيل"، " حديث الألواح الطّينيّة ". ومن النّصوص / العلامات نذكر: " النّخلة "، " الصّحراء "، " الجمل "، " أنهار "، ومن النّصوص الأخرى نذكر: " احتفاليّة "، و " رجل ينهض من غار حراء "، و " يوميّات بورجوازي صغير "، و ماسح الأحذية ". ويمكن الاستفادة من الكلمات المفاتيح مثال: السّهروردي، عائشة، الفتى الضّلّيل، الحضره، شيخي، ذنوبي، باب الله، مولاي، نجمة الصّبح، الحلم، رجل النّوء، الجمل، غار حراء، برنسي، الألواح الطّينيّة، الرّمح، غابة حزني، المرايا، الأحدب. من خلال تصنيفها إلى كلمات تحيل على أشخاص ( السّهروردي، عائشة، الفتى الضّلّيل، شيخي، مولاي، رجل النّوء، نجمة الصّبح، الأحدب ) وكلمات تحيل على حالات ( الحضرة، الحلم، ذنوبي ) وكلمات تحيل على علامات ( باب الله، الجمل، النّخلة، غار حراء، المرايا ) وتدور هذه الكلمات المفاتيح في معظمها في فضاءات التّصوّف والارتباط بالتّراث الشّعريّ العربيّ وبالأخصّ الصّوفيّ منه. أمّا التّشكيل البصريّ( أثر القلم على بياض الورق ) وهندسة النّصوص ( شكل الكتابة ) فتفيد أنّ الشّاعر يختار في أغلب النّصوص نمط الكتابة السّطريّة ذات الأسطر المتوسّطة الطّول أو الطّويلة ممّا يشير إلى غلبة الدّفقة الشّعوريّة الطّويلة نسبيّا لديه مع الميل إلى إحداث فراغات بين المقاطع داخل النّصّ الواحد دون عنونة أو ترك أثر ( نقاط أو نجوم او ما شابه ذلك ) وفي بعض النّصوص القصيرة اعتمد الشّاعر الكتابة العموديّة، نظام الشّطرين مثال: النّصّ بعنوان " يد " ص63 و النّصّ بعنوان " أرض " ص64 و مطلع النّصّ " حديث الألواح الطّينيّة " الأبيات الثّلاثة الأولى. والملاحظ في النّصّين " يد " و "أرض " أنّ الشّاعر اختار الكتابة على منوال مغازل الحلاّج مثال: " أنا من أهوى " و " يا نسيم الرّوح " وفي ذلك تأثّر واضح بالمناخات الصّوفيّة في الكتابة. هذه العلامات / المؤشّرات دوالّ تساعد على صوغ جملة من الفرضيّات، منها: 1/ إعمال النّظر في هذه الدّوالّ يساعد على فكّ شفرات الخطاب الشّعريّ للوهايبي ورصد منابعه، أي من أين يتدفّق الهدير؟ الفرضيّة: الخطاب الشّعريّ في " ألواح " ينبع من التّراث العربيّ وبالأخصّ الصّوفيّ منه كما ينبع هذا الخطاب من الأثر العربيّ الحديث وبالأخصّ الكتابات الشّعريّة المحتفية بالتّراث الصّوفيّ منه ( البيّاتي / أدونيس / ... ) ويتأثّر هذا الخطاب بالشّعر العالميّ الحديث ( التّيّار الرّمزيّ والسّورياليّة ). 2/ إعمال النّظر في الدّوالّ المشار إليها أعلاه يساعد على فكّ شفرات الخطاب الشّعريّ للوهايبي ورصد مجاريه، أي كيف يتدفّق الهدير و كيف يتجلّى على بياض الورق؟ الفرضيّة: يتدفّق الخطاب الشّعريّ في " ألواح " في صورة نصوص سطريّة تحتفي بالأوزان الشّعريّة والإيقاع الدّاخليّ المتنوّع. 3/ إعمال النّظر في نفس الدّوالّ يساعد على فكّ شفرات الخطاب الشّعريّ المعنيّ بالدّراسة و التّحليل ويمكّن من رصد جماليّاته ومآلاته أي آفاقه، الفرضيّة-أ-: الخطاب الشّعريّ في " ألواح " يحتفي بالصّور الشّعريّة المختلفة وبالأخصّ الحديثة منها على غرار الرّموز و الأساطير و الانزياحات، الفرضيّة-ب-: الخطاب الشّعريّ في " ألواح " يؤسّس لرؤيا شعريّة جديدة ( التّيّار الصّوفيّ الكونيّ ).
منابع الخطاب
تتعدّد الدّوالّ داخل المجموعة الشّعريّة " ألواح " وتتنوّع وهي تدور في أفلاك حقول دلاليّة مختلفة يمكن حصرها في دالّتين جامعتين هما : دالّة الأنا / الذّات الشّاعر، ودالّة الآخر / الأنت والمجتمع و الهو / المرجع أي التّراث. هذان الدّالّتان تترابطان وتتكاملان حيث لا يمكن الحديث عن الأنا بمعزل عن محيطها / الأنت وعن المتلقّي / القارئ وعن الهو / المرجع / التّراث / النّصوص المرجعيّة. كما لا يمكن الحديث عن الآخر في علاقة بهذه المجموعة الشّعريّة " ألواح " دون التّطرّق إلى الذّات الشّاعرة المتفاعلة مع هذا الآخر. في " ألواح " الوهايبي لا تكاد تفصل بين الدّالّتين لكأنّهما منهصرتين، لكأنّ الشّاعر يتماهى مع الخطاب الصّوفيّ المحتفي بالتّوحّد ( وحدة الوجود ) حيث أنّ الدّوالّ بقدر ما تتنوّع فهي تبدو وكأنّها ذات دلالات واحدة ويظهر هذا التّوحّد كذلك في مستوى أبعاد الخطاب فيما يتعلّق بالبيان والبرهان والعرفان " أمّا التّصوّف فقد ذوّب هذه الوحدة في تجارب الفناء في الحقّ والبقاء في الحقيقة، وجعل منها أسلوبا لنطق القلب، باعتباره نطق الحقيقة والمعنى. ممّا أعطى له إمكانيّة التّعبير عنها في الكلمة من خلال وحدة الأبعاد البيانيّة والبرهانيّة والعرفانيّة في الحقيقة، والتّعبير عنها في العبارة من خلال وحدة الأبعاد البيانيّة والبرهانيّة والعرفانيّة في المعنى. " تضاريس الإبداع الحرّ في التّجربة الصّوفيّة، مجلّة نزوى، العدد26، افريل 2001، ص111. هذا الضّرب من الوحدة والتّماهي يظهر خاصّة في الحلم أو ما شابهه من حالات الوجود، مثل الرّؤيا والالتباس وما إلى ذلك. يقول الشّاعر في النّصّ بعنوان " نشيد الملك "ص6: " أرتدي حلمي وأقفو أثري " في هذه الصّورة الشّعريّة المجازيّة ( استعارة مكنيّة ) يفصح الشّاعر عن احتفائه بالحلم بل هو يتّخذه رداء أو قل برنسا يلبسه ويقفو أثر نفسه، بالحلم أو بالأحرى في الحلم يتّبع الشّاعر خطاه " وأنا قلت لكم " نفس الصّفحة، يخاطب الشّاعر قرّاءه قائلا: " من وجعي أستلّ روح الفرحة المرتبكة / فإذا الزّهرة تغدو طاقة / وإذا الرّيشة تغدو قبّرة / وإذا بي حين أصحو أتدلّى في حبال / الكلمات الشّجرة. " في الحلم تغدو الزّهرة طاقة، وتغدو الرّيشة قبّرة، أي في الحلم يتمّ الخلق البديع ويتمّ تحويل الأشياء من كينوناتها الأولى إلى حالات أخرى طاقيّة في حال الزّهرة، وحياتيّة في مثال الرّيشة. ما الذي يجعل الشّاعر قادرا على مثل ذلك الفعل؟ إنّه الحلم بالتّأكيد، وهذا يحيلنا على الإبداع الصّوفي من ناحية والسّريالي من ناحية ثانية. في المدى الصّوفيّ يكون الحلم هو البرزخ، هو المدى الرّابط بين العالم وما وراء العالم فالوحي تنزّل في الرّؤيا / الحلم ( هشام جعيّط ) والتّواصل مع الآلهة تمّ في الرّؤيا ( ابراهيم والأمر بالذّبح مثلا ) أمّا الحلم عند السّرياليّين فهو منبع الإبداع ومعينه وهو كذلك محمل له وأفقه اللّامحدود حيث يكون الحلم " وحده لبّ الحقيقة ويتشابه – عند السّرياليّين – الحلم مع الشّعر و الهذيان وفي الحلم يتسارع الزّمن، كما يتكاثف وينضغط هو والمكان بشكل غريب ... والإيمان بتشابه بين هذين ( الحلم و الهذيان ) و الشّعر يعني فتح المجال واسعا أمام تعتيمه وإبهامه وصعوبة فهمه. " الإبهام في شعر الحداثة، العوامل والمظاهر وآليّات التّأويل، صص113-114. لذلك عندما ينتهي الحلم يجد الشّاعر نفسه يتدلّى في حبال الكلمات الشّجرة. يتدلّى أي يتأرجح في الحبال، هل هو مقيّد في الحبال أم هو مشنوق في تلك الحبال؟ ولكن أيّة حبال؟ إنّها حبال الكلمات الشّجرة، الشّجرة عند المتصوّفة تحيل على الكمال حيث يشبّه هؤلاء الانسان الكامل بالشّجرة " والكامل يتجلّى تارة في مثال " الشّجرة " إشارة إلى جمعه حقائق الامكان والوجوب كالشّجرة أصلها ثابت في الأرض وفروعها في السّماء، فأعضاؤه كعروق الشّجرة وحقائقه الرّوحانيّة كفروعها، وتجلّيه الذّاتيّ الدّائم كثمارها " هيثم الجنّابي، تضاريس الإبداع الحرّ في التّجربة الصّوفيّة، مجلّة نزوى العدد 26، افريل 2001 ص112. وتحيل الشّجرة كذلك على النّسب و الانتساب والكلمات تحيل على اللّغة وهي أيضا انتساب ثقافيّ هامّ، فهل يقصد الشّاعر في هذا المقام أنّه في الواقع الحيّ يرتبط بعلاقات أسْرٍ وتبعيّة واستلاب في علاقته بلغته وعندما يرتدي حلمه يتحرّر من تلك القيود ويحلّق حرّا في سماوات الخلق و الإبداع؟ إنّنا إزاء شاعر يكاد يعلن صراحة عن رؤياه الشّعريّة ومقاصده ممّا سنراه لاحقا في مآلات الخطاب. في الحلم وما أدراك ما الحلم / الخيال المترامي الأطراف يمدّ الشّاعر المتوجّع الجسور مع المتوجّعين من أبناء نفس الشّجرة أي أبناء نفس اللّغة وأقصد هنا أقطاب المتصوّفة وتحديدا " السّهروردي. " وأنا آنست في موقد جدّي / غصن نار فأتيت / كان في حضرتها تأخذني الحال أناديك من / الأحراش صوتا مثخنا بالرّيح يا مولاي / إنّي السّهروَردي. / كان في خضرتها يأخذ جدّي بيدي يمنحني / شارة البعث وسرّ الشّجرة " يرتبط الشّاعر بجدّه أيّما ارتباط ويظهر الجدّ في هذا المقطع من النّصّ بعنوان " أنهار " ص44 المريد و القطب في نفس الوقت فهو يوقد النّار وهو يمنح شارة البعث، ويظهر الجدّ و السّهروردي متداخلين كأنّهما شخص واحد، فالسّهروردي في ملكوت الشّجرة وفي حبالها المتدلّية هو جدّ الشّاعر، جدّه البعيد وجدّه الآخر الذي يذكره في نصوص مختلفة في هذه المجموعة هو جدّه القريب الذي يحضر كامتداد و تواصل للأجداد والأحفاد في تجربة الشّاعر. لماذا السّهروردي وليس غيره من أقطاب الصّوفيّة ذائعي الصّيت؟ لأنّه حسب الشّاعر زين المجالس حيث يقول في النّصّ بعنوان " في منزل السّهروردي ": " إنّه السّهروردي زين مجالسكم / عاد مختلجا " ص45، ويضيف في الصّفحة 47: " أيَّ نهج سأنهَجُ بين المفازات / يا سيّدي السّهروردي؟ / إنّهم يسألونك عن آخر الحلمْ / أَيّان يُفتضُّ مُغلقُه / قل ضعوا في يد الله أيديكم / واقتفوا أثر النّهر و العاصفة " يحظى السّهروردي بمكانة كبيرة عند الشّاعر فهو زين المجالس وهو السّيّد الملهم الذي يسأله الشّاعر عن النّهج المناسب للسّير صوب آخر الحلم فهو القطب / الشّجرة، ألم يكن السّهروردي قطب الإشراق مُشرقا بذوقه الرّفيع في كشف أسرار الوجود ممّا حدا بالفقهاء من المغتاظين من سعة علمه إلى كيد المكائد له والدّعوة لقتله بسبب كفره، وتمّ ذلك، والمفارقة عجيبة، بأمر من صلاح الدّين الأيّوبي، محرّر القدس من الصّليبيّين، وهو لم يره ولم يستمع إليه. السّهروردي قتيل آخر على درب الإتيان بما يتعارض مع مصالح الفقهاء والسّلاطين. وهو قتيل في سنّ مبكّرة ( ستّ و ثلاثون ) مازال في ريعان العطاء، مازال شابّا بل فتى وهو المقصود بالفتي الضّلّيل في النّصّ بعنوان " في اصطفاق الرّيح و النّخلة: " ستبقى للفتى الضّلّيل / صومعة وشبّاك ونخلة " ص9. وهو الملك في " نشيد الملك " : " ملك يستبدل البيت بسرج / والمرايا بطقوس السّحرة " 5. والمتصوّفة يعتبرون أقطابهم ملوكا بل هم خير الملوك في نظرهم. والشّاعر متعلّق بالسّهروردي المظلوم بل هو يظهر في شعره وكأنّه مريد من مريديه يرتدي برنسه في آخر النّصّ " في منزل السّهرورديّ " : " أرتدي برنسي / وأحثّ خطاي إلى بيت جدّي " ص47.ويحثّ خطاه إلى بيت جدّه، مرّة أخرى يضعنا الشّاعر إزاء غموض يتعلّق بجدّه عن أيّ جدّ يتحدّث الشّاعر؟ هل هو يشير إلى جدّه القريب ويمنحه مكانة تكاد تضاهي مكانة الجدّ الكبير السّهروردي أم هو يشير إلى السّهروردي ويعتبره جدّه الذي يسكن هنا قريبا من بيت الشّاعر ؟ فيكون السّهروردي في كلّ مكان، نحن هنا إزاء حالة انصهار بين الدّالّتين المشار إليهما أعلاه، دالّة الأنا / الشّاعر ودالّة الأنت و / أو الهو الجدّ، العالم ، الوجود الخ ... ألم يقل الشّاعر في نفس النّصّ: " يرتدي السّهروردي برنسه / ويحثّ خطاه إلى الجامع الأغلبيّ " فهو هناك حيث مقتله قلعة حلب ( قبره مجهول ) وهو هنا حيث مقام الجامع الأغلبيّ في القيروان. لكن لماذا السّهرورديّ وليس غيره؟ السّهروردي والبسطامي والنّفري وأقطاب آخرون يحتفي بهم أيّما احتفاء شعراء عرب معاصرون أمثال البيّاتي والشّعراء التّمّوزيّون وأدونيس وجماعة مجلّة " شعر " ويظهر تأثّر الوهايبي بهؤلاء كبيرا ألم يهتمّ في دراساته المعمّقة بأدونيس في " مفرد بصيغة الجمع " ويُعدّ هذا الأخير منبعا من منابع الكتابة الشّعريّة عند الوهايبي إلى جانب " البيّاتي " الذي يتقاسم معه الاهتمام ب" عائشة " عائشة التي نجدها في نصوص عدّة للشّاعر العراقيّ عبد الوهّاب البيّاتي ويرد ذكر عائشة في نصوص المجموعة الشّعريّة " ألواح " حتّى تكاد تكون شخصيّة في مستوى الأقطاب، فمن تكون " عائشة "؟ " غسلت عائشة جثّتها / وانغمست في الزّرقة المنبجسة / حملت زهرتها الأنثى / ولم نحمل سوى ريشتها المنكسرة./ لم نرث إلاّ اسمها يورق في الكفّ / ويزكو كسقيط الشّجرة. "، " نشيد الملك " صص5-6، ويقول الشّاعر عن عائشة في " ليلة أولى " ص7 " لبست عائشة غيبتها الكبرى ونامت / وتوارى البجع الوحشيّ في البحر، / وغنّى للرّحيل " ويضيف الشّاعر في "في منزل السّهروردي ": " لو خصفتم على حزنه خضر أوراقكم / ربّما استلّ من قبر عائشة حجرا / ربّما حزّ عِرقا / وغنّى لكم " فمن تكون عائشة بمثل هذه الصّفات؟ هي بالتّأكيد ليست عائشة بنت أبي بكر زوج الرّسول وهي صاحبة الجمل وما أدراك ما موقعة الجمل، وهي ليست عائشة المتصوّفة المغربيّة فمن تكون؟ ربّما هي عائشة عبد الوهّاب البيّاتي التي كتب عنها أشعارا عدّة وجعلها بمثابة الشّخصيّة الملهمة والمفجّرة لطاقاته الشّعريّة، ولعلّها في " ألواح " تكون هي هي نجمة الصّبح التي يشير إليها الشّاعر في النّصّ " في البيت العربيّ ": " سيّدي يا سيّدي / يا أيّها المنسلّ في الحلم انتشر في جسدي / ولجت خيمتنا / نجمة الصّبح وحطّت في مرايا الزّبد " ص26. وهي في الميثولوجيا الرّافديّة والسّوريّة القديمة الإلاهة " عشتارت " إلاهة الحبّ و الخصب و الجمال. وينهل الشّاعر من القصص القرآنيّ ويقتبس منه حتّى لايكاد نصّ من هذه المجموعة يخلو من ذلك. ففي النّصّ بعنوان " رجل ينهض من غار حراء "ص 32 يقول الشّاعر: " وأخرجت المرعى. فجعلناه غثاء أحوى. تذروه الرّياح .. " ويقول في النّصّ بعنوان " سورة النّخيل ": " قال أيّتها الشّجرة / مباركة أنت يا ابنتنا الرّاحلة / فادخلي في عبادي الذين أحبّ / وادخلي جنّتي المقبلة. " وفي نفس النّصّ يقول الشّاعر: " سلام أنت يا ابنتنا / سلام أنت حتّى مطلع الفجر " وينهدر الخطاب الشّعريّ في " ألواح " موظّفا كتابات ذات تواشج بالقصص القرآنيّ ومستخدما معجما قرآنيّا يتضمّن عبارات لم تعد مستخدمة أو هي نادرة الاستخدام.
تجلّيّات الخطاب و آفاقه
ثلاثة وعشرون نصّا موزّعة على ستّ وخمسين صفحة بمعدّل صفحتين للنّصّ الواحد منها سبعة نصوص قصيرة من صفحة واحدة، وثلاث طويلة من ستّ صفحات. يميل الوهايبي إلى النّفس الطّويل، حيث يوظّف تقنيات جديدة في الكتابة مثل الحكاية، في: " يوميّات بورجوازي صغير " مثالا والبناء الدّرامي، في: " حديث الألواح الطّينيّة " والتّراجيديا الملحميّة، في: " وأسمّي / " مرثيّة إلى أخت صغرى " والتقاط التّفاصيل في نصوص مختلفة منها: " فناء ، ماسح الأحذية، أحدب "... كما يعتمد الوهايبي في ألواحه الشّعريّة الإيقاعين الخارجيّ أي الأوزان الخليليّة ( في نظام الشّطرين في بعض النّصوص القصيرة مثال: " يد " و " أرض " و " نظام التّفعيلة في أغلب النّصوص الأخرى ويمثّل النّصّ " احتفاليّة " استثناء فهو يرد في نظام الأسطر مع أنّه موزون على النّمط العموديّ التّقليديّ وكأنّه معارضة في صورة من الصّور لمعلّقة الأعشي " ودّع هريرة "، و يوظّف الإيقاع الدّاخليّ أي التّكرار و التّوازي التّركيبيّ وما شابه ذلك بإتقان في مختلف النّصوص. كما ينجح الشّاعر نجاحا لافتا في مستوي تشكيل الصّور الشّعريّة البديعة وبالأخصّ الصّور المشكّلة على توظيف الأسطورة والرّموز والانزياحات ممّا سنشير إليه حسب السّياق لاحقا. في باكورة أعماله " ألواح " يُؤسّس المنصف الوهايبي لكتابة شعريّة تحتفي بالتّصوّف في نصوص مختلفة وتنهل من هذه التّجربة الشّعريّة ذات الرّمزيّة العالية، وإذ يغرف الشّاعر من التّراث الصّوفيّ ويُشكّل به عوالمه الشّعريّة الخاصّة فإنّه في هذه النّصوص المؤسّسة لا يحيل إلى أقطاب الكتابة الصّوفيّة على غرار النّفري مثلا مع أنّه يتمثّل خطابها خير تمثّل فيما سنرى لاحقا، بل يرتبط خاصّة بالسّهروردي كما أشرنا إلى ذلك أعلاه. يرتبط بالسّهروردي المقتول شيخ الإشراق والدّارس للفلسفة و صاحب التّجربة المتفرّدة وكأنّنا بالوهايبي يريد أن يتواصل مع الفعل الصّوفيّ المتفرّد للسّهرورديّ، مع العطاء الصّوفيّ الغزير، و مع التّضحيّات مع ضمان الارتباط بالخطاب الصّوفيّ العجيب. ولعلّ شاعرنا يريد بذلك أن يُؤسّس خطابه الشّعريّ الخاصّ به في أفق الثّراء، ثراء المنابع الصّوفيّة وغيرها مع الحرص على أن تكون المصبّات وهايبيّة أو بالأحرى صوفيّة وهايبيّة، قيروانيّة فيما يشير إليه التّهامي الهاني: " الاتّجاه الصّوفيّ أو الكونيّ أو القيروانيّ، وبالتّالي فإنّ أصحابه من القيروان، وشعرهم يعتمد على معجم لغويّ ذي سمة صوفيّة، ويكون الجوّ صوفيّا بامتياز مثل البخور والنّار والسّجّاد و المريدون والحضرة ... ويمثّل هذا الاتّجاه كلّ من: محمّد الغزّي ومنصف الوهايبي وحسين القهواجي " الشّعر التّونسيّ / بين ريادة الإصلاح وشعارات الحداثة،ص31. ولئن كان التّعريف في هذه القولة عامّا ومقتضبا فإنّ ما يهمّنا أساسا هو انتماء صاحب " ألواح " إلى ذلك التّيار. في قصائد أولى اختار لها الجزء الأخير من المجموعة، خمس قصائد قصيرة ونصّ طويل في نصّه الأقصر بعنوان " أحدب " ( خمسة أسطر ) يُوجز العبارة فيوسّع الرّؤيا ( على خطى النّفري ) ويكثّف الدّلالة وينتج ما يشبه الحكمة محدثا مفارقة مدهشة، إذ كيف يكون منتصب الظّهر أحدبَ؟ في واقعيّة ذات رمزيّة لافتة ينجح الشّاعر في التّأسيس لكتابة مختلفة تتأكّد في نصّه بعنوان " ماسح الأحذية " إثنا عشر سطرا في صفحة واحدة، يلتقط الشّاعر تفاصيل الحياة لماسح أحذية يحلم بالخبز أي بمن يمدّ له ساقه لينال مقابل ذلك بضع نقود، لم يمرّ به لا أغنياء المدينة و لا فقراؤها وفي لقطة مفاجئة ينزاح الشّاعر بالمتلقّي ويجعل من الماسح الذي يمسح حذاء صاحب سيّارة الظّهيرة يمرّ بشيتته إلى الوجه والبدلة الفاخرة. مرّة أخرى يحتفي الوهايبي بالمفارقة و الإدهاش وكأنّنا به يريد أن يؤسّس لكتابة مدهشة، هل يقصد الشّاعر بذلك أنّ الشّعر إدهاش أو لا يكون. ذلك ما يؤكّده في نصّه الطّويل ضمن " قصائد أولى " ستّ صفحات بعنوان " يوميّات بورجوازي صغير " يستحضر الشّاعر الذّاكرة ويوظّف الحلم لاستعادة تفاصيل من الماضي / النّوستالجيا وينفخ فيها ليصوغ نصّا مليئا بالرّمزيّة والإيحاءات منتهيا بانزياح مدهش حيث يقول: " آه يا صاحبتي / تنتهي الذّكرى / وفي منتصف اللّيل / أرى وجهيَ ملقى / في صناديق القمامة. " ص62. وفي نصوصه بعنوان " القصيدة العربيّة " يحتفي في إحداها " في البيت العربيّ " بالحلم ويوظّفه لتشكيل صورة كلّيّة ذات ملامح سرياليّة واضحة، حيث يتداخل الواقعيّ بالميتافيزيقيّ في لوحة عجائبيّة لافتة " سيّدي يا سيّدي / يا أيّها المنسلّ في الحلم انتشر في جسدي / ولجت خيمتنا / نجمة الصّبح وحطّت في مرايا الزّبد. " ص26. " وهنا ينجح الشّاعر في توظيف الأسطوريّ البديع ( نجمة الصّبح / عشتارت ) في تشكيل صورة عجائبيّة بديعة. وفي نصّ " النّخلة " ص27 يميل الشّاعر إلى لعبة الإحياء و الأنسنة حيث يجعل من النّخلة امرأة حبلى طلعها المغسول في النّوء نفاس امرأة أوجعها الطّلق، وهي أي النّخلة رمز للمخاض العجيب يستمرّ في الزّمن من المسيح إلى الفتى العربيّ وهو في هذا المقام الشّاعر نفسه فهل يوظّف الشّاعر في هذا المستوى من الكتابة تقنية القناع؟ هل يؤسّس الوهايبي للشّاعر النّبيّ على خطى جبران و الشّابي، أم هو يذهب إلى أبعد من ذلك إلى روح الله المسيح الذي يحظى بمكانة خاصّة عند المسيحيّين كما عند المتصوّفة. وفي نصّه بعنوان " الصّحراء " ينفخ الوهايبي من روحه في هذا الفضاء الفسيح فيجعله أي الصّحراء رماد امرأة مسكونة بالعاصفة، ألسنا في هذا المقام من الكتابة الوهايبيّة إزاء كشف عن المخفيّ والمستور؟ ألسنا إزاء إعادة تشكيل للعالم وللوجود؟ " لغة الصّحراء م البدء / نجيل طالع يزهر في سور الرّياح " إذن للصّحراء لغة فهي تتكلّم وتتواصل مع العالم ألسنا إزاء ضرب من الإحياء والأنسنة والنّفخ في الموجودات؟ " نبعنا الأوّل كانت أمّنا / حملتنا ثمّ أهدتنا / لعصر المدن المنتظرة " الصّحراء هي الأمّ وهي النّبع الأوّل في رحمها نشأ الشّاعر و من رحمها ظهر وعمّر المدن المنتظرة وكأنّنا بالشّاعر يجعل من الصّحراء المقام الأوّل وليس الغابة فيما يذهب إليه علماء البيولوجيا والتّطوّر، لسنا هنا إزاء سياق علميّ يقوم على السّببيّة و العقلنة نحن في هذا السّياق إزاء حدوس شعريّة ترى ما لا يرى و تقول ما لا ينقال على حدّ تعبير" رامبو ". في نصوصه الطّويلة الأخرى في " ألواح " يمضي الشّاعر بعيدا بخياله الخلاّب في أكوانه العجيبة إذ يقول في " هل سنرحل يا رجل النّوء " : " .. وأضاء الكاهن المذبح، هذا بيتنا / يا امرأة الله من الصّندل واللّيلة بيضاء / فمدّي لرياح الفصل زنديك / فقد باركنا الكاهن في خلوته / واغتسلي من عرق الله تري / أشباح نخل ولجت فصل اللّقاح. " ص19 صورة بديعة لامرأة الله، أتكون " السّيّدة مريم "؟ تغتسل من عرق الله، هل يشقى الله حدّ تصبّب العرق من جبينه مثلا؟ وترى أشباح نخل هل المقصود بذلك لجوء مريم إلى جذع النّخلة خلال المخاض؟ فمن هو الكاهن إذن ؟ هل هو كاهن المعبد الذي كانت تزوره مريم وخالتها " إليزابات " فيما ذهب إليه " فالح مهدي " في أطروحته " دراسة مقارنة في ثماني ديانات "؟ يوظّف الشّاعر في هذا المقام رموزا عدّة مريم و الكاهن والنّخلة . ويوظّف الشّاعر رمزيّة " الموت " فيقول في " حديث الألواح الطّينيّة " صص48-53 : " عراةً سنرحل إلاّ من الموت / جسر العبور إليك / فيا زمن الله كن ضيفنا " الموت لا يخيف الشّاعر هو يراه مثلمَا يراه أقطاب التّصوّف جسر العبور إلى زمن الله إلى الملكوت الأعلى هو قارب الخلاص من شقاء الدّنيا إلى حيث لا شقاء ولا عناء .. كأنّي بالشّاعر يعيش تجربة صوفيّة حقيقيّة ولا يقوم بمجرّد التّوظيف و الاستفادة من تجارب السّهروردي ومن هم على شاكلته هل بالفعل ينغمس الوهايبي في حال من العشق الصّوفيّ؟ يقول في الصّفحة51 : " سمعتك واللّيل أزرق تهتف باسمي / فأسرجت حلمي / وجئت إليك " الحلم قارب آخر وجسر للعبور والارتحال هو البرزخ بين الواقعيّ و ما وراء الواقعيّ هو الخيال الواصل بين المرئيّ واللّامرئيّ كما أشرنا إلى ذلك أعلاه، في هذا المستوى من الكتابة يتفاعل الشّاعر عن وعي وعن لاوعي مع الموروث الصّوفيّ ومع التّجارب السّرياليّة المعاصرة وكذلك مع تصوّر للوجود شبيه إلى حدّ ما مع تصوّر " غادامير "
على سبيل الخاتمة
نقرأ " ألواح " قراءة أولى استكشافيّة شاملة فتدفعنا إلى قراءات أخرى أعمق وأدقّ ونقرأها بعد ذلك فتترسّخ لدينا أهمّيّة المقروء وجودته، انطلاقة تأسيسيّة جريئة ورائدة. تَمثُّلٌ للأثر الصّوفيّ وانخراط ٌفي التّجديد و التّجريب، دون وقوع في فخاخ التّقليد والاتّباع رغم كثرة المتأثّرين بمثل تلك المناخات الصّوفيّة، في تخطّ للكتابات السّابقة عربيّا وتونسيّا، بعيدا عن الأثر التّمّوزيّ والأثر البيروتيّ لجماعة " شعر " وفي تجاوز للكتابات التّونسيّة من الشّابي إلى الطّليعة. كتابة فيها تجديد في علاقة بمدارات الاهتمام وفيها احتفاء بالأوزان على غير ما ذهب إليه الرّوّاد العراقيّون ( نازك الملائكة تحديدا ). ينجح الوهايبي في التّأسيس لإبداعه الشّعريّ والتّأسيس لرؤياه الشّعريّة في علاقة بتيّار الكتابة الصّوفيّة الذي أسّس له في تونس ( الحمّامات 1981 ) دون تقديس، إذ سنجد الوهايبي يتّسع مداه ليتجاوز ذلك التّيّار الثّمانينيّ الهامّ ويحلّق بعيدا في فضاءات الإبداع الشّعريّ المترامية الآفاق ويظهر علينا سنة 2014 برائعته " ق،ي،ر،و،ا،ن " . نقرأ " ألواح " هيرمينوطيقيّا ونقرأها فلا نملّ من قراءة النّصوص وتذوّق جماليّاتها. ومع ذلك نجد أنفسنا في حاجة إلى دعوة المهتمّين بالشّعر إلى مزيد الاهتمام بها وبأخواتها من بواكير الشّعراء التّونسيّين من مجايلي الوهايبي وغيرهم إذ بالقراءة يتطوّر الشّعر كتابة إبداعيّة وإبداعا نقديّا ويشتدّ عوده أكثر فأكثر.
بوراوي بعرون
كاتب عام اتحاد الكتّاب التّونسيّين
شاعر و ناقد
والمشرف العام على نادي مختار اللغماني (للأدب والفكر والفنّ)
ความคิดเห็น