*للأديبة التونسية زهرة مراد
كَرِهَ الْحَيَاةَ. كَرِهَ الْبَشَرَ جُلَّهُمْ. لَقَدْ أَثْقَلُوا عَلَيْهِ حَتَّى مَلَّهُمْ. وَكَمْ تَوَسَّلَ إِلَيْهِمْ صَامِتًا أَنْ يَرْحَمُوهُ فَلَمْ يُبَالُوا. لَمْ يَرْأَفْ بِحَالِهِ أَحَدٌ. لَمْ يحْتَرِمْهُ وَلَمْ يُفَكِّرْ فِي مُعَانَاتِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. ظَلَّ يَتَحَمَّلُ وَيَتَحَمَّلُ إِلَى أَنْ فَاضَ بِهِ الْحَالُ وَلَمْ يَعُدْ قَادِرَا عَلَى الصَّمْتِ تُجَاهَ تَهَوُّرِهِمْ.
هَذِهِ السَّيَّارَاتُ الرَّاسِيَةُ خَارِجَ الْمُعَبَّدِ تَمْنَعُ الْمُتَرَجِّلِينَ مِنَ الْمُرُورِ بِسُهُولَةٍ تُرْهِقُهُ. وَهَذِهِ الصَّنَادِيقُ الَّتِي يَضَعُهَا أَصْحَابُ الْمَغَازَاتِ أَمَامَ مَحَلَّاتِهِمْ قَدْ أَنْهَكَتْهُ. وَهَذِهِ الْأكْدَاسُ مِنَ النِّفَايَاتِ هُنَا وهُنَاكَ، وَتِلْكَ الْكَرَاسِي الَّتِي يَتَرَبَّعُ عَلَيْهَا جُلَّاسُ الْمَقَاهِي خَارِجَ فَضَاءِ الْمَقْهَى، تِلْكَ لَهَا حِكَايَةٌ أُخْرَى. فَهِيَ تُؤْذِيهِ بِمَا يَفْعَلُهُ الْجَالِسُونَ عَلَيْهَا: تَصَرُّفَاتُهُمْ لَامَسْؤُولَةٌ بِالْمَرَّةِ حَيْثُ كَثِيرًا مَا تَنْدَلِقُ قَهْوَتُهُمْ عَلَيْهِ فَلَا يَأْبَهُونَ. أَمَّا مَا جَعَلَهُ يَكْرَهُ كُلَّ شَيْءٍ وَيَنْقِمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَذَاكَ التَّصَرُّفُ الَّذِي اِشْتَرَكَ فِيهِ الْجَمِيعُ مِنَ الْمُتَرَجِّلِينَ إِلَى جُلَّاسِ الْمَقَاهِي إِلَى أَصْحَابِ الْمَغَازَاتِ إِلَى الْعَابِرِينَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ رِجَالًا كَانُوا أَوْ نِسَاءً، شَبَابًا كَانُوا أَوْ كُهُولًا أَوْ حَتَّى شُيُوخًا وَحَتَّى الْأطْفَالُ، كُلُّهُمْ لَا يَتَوَانَوْنَ فِي أَنْ يَبْصُقُوا عَلَيْهِ فِي أَيَّةِ لَحْظَةٍ.
لَمْ يَعُدْ يَتَحَمَّلُ ذَلِكَ. أَلِهَذَا الْحَدِّ لَا يَحْتَرِمُونَهُ؟ أَلِهَذَا الْحَدِّ لَا قِيمَةَ لَهُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ. آهٍ لَوْ كَانَ فِي بِلَادِ الْغَرْبِ! هُنَاكَ حَقًّا يُمْكِنُهُ أَنْ يَلْقَى الْعِنَايَةَ اللاَّزِمَةَ وَالاِحْتِرَامَ مِنَ الصَّغِيرِ قَبْلَ الْكَبِيرِ. هُنَاكَ لَا أَحَدَ يُثْقِلُ كَاهِلَهُ بِغَيْرِ مَا هُوَ لَهُ. يَمُرُّ الْمُتَرَجِّلُونَ مَهْمَا كَانَتْ أَعْمَارُهُمْ فَلَا أَحَدَ يَتْرُكُ خَلْفَهُ شَيْئًا يُثْقِلُ كَاهِلَهُ أَوْ يَجْعَلُهُ يَشْعُرُ بِعَدَمِ احْتِرَامِهِمْ لَهُ.
لَقَدْ سَئِمَ أَوْسَاخَهُمْ وَتَهَوُّرَهُمْ وَعَدَمَ الْاِكْتِرَاثِ بِهِ. هَا هُوَ يُقَرِّرُ اللَّيْلَةَ أَنْ يَضَعَ حَدًّا لِكُلِّ هَذَا. نَعَمْ، لَقَدْ قَرَّرَ أَنْ يُدَافِعَ عَنْ نَفْسِهِ. وَمَا دَامَ لَمْ يَنْفَعْ مَعَ هَؤُلَاءِ التَّوَسُّلُ لِاحْتِرَامِهِ، سَوْفَ يَسْلُكُ طَرِيقًا آخَرَ: سَيَحْتَجُّ وَيَرْتَجُّ تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ. سَيَثُورُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا. لَا مَجَالَ لِلْاِنْتِظَارِ بَعْدَ الْآنَ.
وَفِي صَبَاحِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ الَّتِي تَمَخَّضَ فِيهَا قَرَارُهُ، اِنْتَظَرَ أَنْ تُرْسِي السَّيَّارَاتُ فَوْقَهُ، وَأَنْ تَنْتَصِبَ الْكَرَاسِي عَلَيْهِ، وَتَبْدَأَ حَرَكَتُهُمْ هُنَا وَهُنَاكَ، ثُمَّ اِهْتَزَّ بِقُوَّةٍ تَحْتَهُمْ جَمِيعًا فَانْتَفَضَتْ السَّيَّارَاتُ مُتَنَاثِرَةً فَوْقَ الْمُعَبَّدِ وَانْتَشَرَتْ الصَّنَادِيقُ تُكَسِّرُ الْوَاجِهَاتِ وَتَدْخُلُ الْمَحَلاَّتِ وَأَسْقَطَتْ الْكَرَاسِي أَصْحَابَهَا وَهَرَعَتْ إِلَى دَاخِلِ الْمَقَاهِي. أَمَّا الْمَارَّةُ، مَنْ كَانَ لَطِيفًا مَعَهُ فَقَدْ وَجَدَ نَفْسَهُ وَاقِفًا فِي مَكَانِهِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ يَبْصُقُ فِي وَجْهِهِ، فَقَدْ وَجَدَ نَفْسَهُ يَجْلِسُ عَلَى بُصَاقِهِ.
وَهَكَذَا، اِسْتَفَاقَ الْجَمِيعُ وَتَفَطَّنُوا إِلَى أخْطَائِهِمْ فِي حَقِّ الطِّوَارِ فَقَرَّرُوا الْعِنَايَةَ بِهِ.
Comments