منقول عن جريدة أوروك
( حوار مع الشاعر العراقي محمد تركي النصار )
( القصيدة بناء ذو فكرة يرتفع بها الخيال ليضخ شعاع الصور )
قصيدة النثر هي مشروع ستيني تبناه بعض شعراء السبعينيات والثمانينيات
حاوره : هادي الحسيني / أوسلو
ما يريده الشاعر العراقي محمد تركي النصار من أجل الكتابة الشعرية هو إضاءة عتمة الموت بالحب أو بدم الكتابة نفسها ويسري بينهما ومن ثم ينصهر فيه إستيحاشه ، الشعر مكان من مكانات الجسد اللانهائية لا ينكشف عبر اللغة إلا لينأى . الشاعر يمتلك رؤية مختلفة فيها من الغموض الذي يشوب القصيدة لكنها تنفتح أكثر في عمقها المعرفي ويتعالى فيها الشعر الصافي . ولعل المعاناة والحرب الشرسة التي أبصر عليها وهي تلتهم كل ما هو جميل في هذه الحياة ، حرب طويلة الأمد أكلت الأخضر واليابس الذي أصبح رماداً . كانت النصوص الأولى للشاعر محمد تركي النصار فيها الكثير من المفارقات والإنزياحات مع علو في الصور الشعرية داخل كل نص يكتبه . وتحمل قصائد النصار منذ البدايات طابعا فلسفيا جماليا ساعده كثيرا في الإبتعاد عن عين الرقيب الذي كان يؤشر على أغلب النصوص التي تسخر من الحرب وتدينها . لكن قصيدة الشاعر محمد النصار كانت عصية على الرقيب الذي لم يتمكن من فك طلاسمها . تأثر الشاعر النصار في بداية مشواره بالشعر الانكليزي وكان إليوت شاعره المفضل وكذلك في الشعر الفرنسي الذي كان سان جون بيرس من أكثر شعراء فرنسا قربا الى روحه .. وقد عانى الشاعر معاناة كبيرة في غربته عن وطنه العراق حتى وهو في داخله ، ومنذ بداية شبابه الأولى وانتقاله من مدينته الناصرية الى بغداد للدراسة في كلية الهندسة التي تركها بعد فترة وجيزة ليلتحق في كلية الآداب قسم اللغة الإنكليزية ، لقد سار الشاعر النصار مع روحه العاشقة للشعر والأدب وبعد إكتشافه بأن الحياة مستحيلة داخل العراق انتقل عام 1994 الى العاصمة الأردنية عمّان . فالبلاد التي تركها الشاعر بدأت تئن من أوجاعها المستمرة ومن عمّان غادر الى منفاه البعيد في كندا . وقبل سنوات قليلة عاد الى وطنه العراق ليستقر فيه بعد رحلة طويلة مع المنفى والقصيدة تحمل فيها الكثير من اللآلام التي بانت في أغلب مجاميعه الشعرية التي أصدرها وهو في منفاه .. الشاعر محمد تركي النصار المولود في مدينة الناصرية عام 1961 والذي يعتبر من أهم شعراء جيل الثمانينيات في العراق وأحد كتاب قصيدة النثر البارزين ومن الذين طوروا في كتابة القصيدة الحديثة . وعن تجربة الشاعر محمد النصار الشعرية وحياة المنفى وعن تاريخ الشعرية العراقية منذ الرواد وحتى يومنا هذا وظروف البلاد التي أودت بالثقافة داخل العراق الى التدهور المستمر بسبب الأنظمة المتفاوتة بدكتاتوريتها كان لي معه هذا الحوار الذي يسلط الأضواء على تجربة شعرية مهمة وتاريخ شعري فريد ...
* بإلقاء نظرة شاملة على المشهد الشعري العراقي منذ انطلاقة جيل الثمانينات الذي استطاع أن يُثبتْ قصيدة النثر التي بدأها الستينيون بعد أن كان لا يسمح بنشرها في الصحف والمجلات ، هل تعتقدون انها تمكنت من إحراج الشعراء الكلاسيكيين وشعراء التفعيلة ؟
-لكي أتوخى الدقة لابد أن أذكر بمناسبة هذا السؤال أن قصيدة النثر العراقية سبق ظهورها جيل الثمانينيات الشعري أو ما اصطلح عليه كذلك بما يزيد على العقدين من الزمن- لست هنا بصدد الحديث عن تاريخية وريادية ظهورها بقدر اعتنائي بمسألة تكريسها منجزا- أي من الناحية الانجازية هي ظاهرة شعرية ستينية بالتحديد . فبعد ظهور حركة الشعر الحر أو الحديث في العراق أواخر الأربعينيات ممثلة بالسياب ونازل الملائكة وعبد الوهاب البياتي, أفرزت الظروف السياسية والثقافيةخلال العقدين اللذين تليا تلك المرحلة حاجة قوية لدى مجموعة من الشعراء اصطلح على تسميتهم بجماعة كركوك ، لكسر قالبية هذا الإتجاه الجديد التي بدت للكثير منهم ليست مختلفة على مستوى الرؤية والمعالجة والأشكال الوزنية والروح الرومانسية ومسطحات ما سمي بشعر الواقعية الاشتراكية والثورية . اذ وجد شعراء كركوك أن خرقاً قوياً لم يحدث في القصيدة الجديدة لا على صعيد الشكل ولا على صعيد الرؤية والنظرة الى دور ووظيفة الشعر . ولعل في هذا ما يفسر الى حد كبير قبول قصيدة السياب وزملائه جماهيريا ومؤسساتيا وان جوبهت هنا وهناك بمحاولات لنفيها وطردها والتشكيك بانتمائها لمملكة الشعر ..
* هل كانت صادمة في رأيك ؟
شخصيا لا أراها صادمة بشكل حاد للذوق الشعري آنذاك ، ولم تكن بأي حال من الأحوال تمردا مشابها على سبيل المثال لما أحدثة بودلير في الشعر الفرنسي على مستوى الشكل أو جماليات وآليات الكتابة . في مقابل هذا فقد احتاج شعراء قصيدة النثر الستينيون الى أكثر من عقدين ليتم احياء حضورهم الفاعل وتأثيرهم على شعراء السبعينيات والثمانينيات معا ، أصر هنا على أنني لا أميل الى مصطلح سبعينيات وثمانينيات . ومرة أخرى كان الضغط السياسي عاملا حاسما في خلق مناخات هذا الإحياء والتأثر مع التنويه بأن المعاناة والعبء كانا أكثر قسوة وحصارا على جماعة السبعينين والثمانينيين تلك لأن قسوة الآلة العسكرية الحاكمة كانت أشرس ووسائلها في القمع والملاحقة والحصار لاتبارى . ومع الأخذ بنظر الاعتبار طبيعة وتعقيدات هذه الظروف التي أشرت اليها فأنني أقول أن أغلب شعراء قصيدة النثر في فترة الثمانينيات كانوا أمام خيارين : أما الانعزال وهذا ينطبق على ما أسماهم الاستاذ الناقد حاتم الصكر شعراء الظل. واتجاه آخر استهوته لعبة الهروب الى مغامرات وعوالم لغوية لم تكن السلطة لتخاف منها كثيرا بل وقد شجعت عليها في أحايين كثيرة .
وقد سقط الجميع أو كاد بهذا الفخ الذي أراه الآن وبعد مرور هذا الزمن الطويل ظاهرة شعرية عراقية بامتياز دفع لها الكثيرون هدرا في الطاقة وأوهاما مضللة لم يتخلف منها إلا الخواء: خواء منشورات لاتستحق ورقها وخيبات وجراح روحية لايعرف مقدار ايلامها إلا من عاناها من هؤلاء الشعراء المخلصين . مفترضا في أغلب الأحوال أن الضمير الإبداعي الحقيقي قد يضلل احيانا بيد أنه لايموت وليس صمت البعض أو تواريهم عن المشهد لبعض الوقت حجة لاثبات العكس كما أحسب . استنتاجا أقول ان الجغرافيا التي أنجبتنا كانت وستبقى لدهر طويل دائما مع الاشكال التقليدية المضجرة بتفريعاتها العمودية والتفعيلية والحرة وأيضا النظم الآخر المضلل داخل مايصطلح عليه بقصيدة النثر :
ليست السلطة بوصفها شخوصا يحكمون هي العلة والمشكلة هنا بل أن من يظنون أنهم معارضون والذين تنجبهم دائما الحاضنة الثقافية ذاتها لايقلون ثباتا ورسوخا وتكريسا
لكل الاشكال القارة برغم مرور مئات السنين على انتهاء صلاحية هذه الرؤى والافكار والتصورات . ودليلي الذي لا أظنه يخفى على المتابع المنصف والمحايد أن ما يحدث الآن في العراق هو امتداد لعقلية الإلغاء وتكريس الاشكال والرؤى التقليدية برغم الضجيج والزعيق الممل عن الحرية والديمقراطية والتغيير وما الى ذلك من شعارات مكررة ..
* يبدو ليّ من جوابك للسؤال السابق ، ثمة عوامل كثيرة داخل العراق كانت ومازالت تضغط على الشاعر العراقي لتجعله يتمرد على كل شيء ، خاصة وأن آلة الحرب وماكنتها التي لم تتوقف منذ عقود جعلت الشاعر يتمرد على الشعر ذاته ، وليبدأ بعملية تجديد ، كيف تفسر لنا الخسارات المتتالية التي لحقت بالمشهد الثقافي برمته ؟
- المشهد الثقافي ضحية التشظي والانشطار . وأنا أرى كما يعتقد كثيرون أن المشهد موجود لكنه بلا شهود أو هكذا يبدو لي . الشهود في حالة غياب وذهول وفي أفضل الأحوال فأن الفاعلين منهم يعملون فرادى .انهم يصرخون في صحارى شاسعة وبالكاد يسمع الآخر كسرا من صدى صرخاتهم .أما إذا تحدثنا عن نظرة السياسي الى المثقف فالأول غير مكترث للثاني ولايهمه إلا استخدام آليات تتكرر في عملية احتواء مكشوفة دوافعها. فاذا كنت مثقفا مشاكسا فان الحكومة تسعى ممثلة بالمتنفذين منها الى تشتيت شحنات غضبك بالعطايا والمزايا مرة ، وبالوعود مرات وباستخدام جوقة من الخبراء في شؤون تنظيم فعاليات موسمية قد يبدو ظاهرها ثقافيا لكنها بعيدة كل البعد عن الهم المقرون بالوعي الحقيقي لتأسيس كيان ثقافي رصين تكون له قدرة على احداث أثر في بنية المجتمع ومفاصله السياسية والأجتماعية تحديدا . فالسياسي لدينا لايتوفر على وعي ثقافي عميق من جهة ومن جهة ثانية فانه غالبا مايصل الى السلطة بوسائل العنف المعروفة أو عن طريق انتخابات شكلية تحشد لها أحزاب وجماعات لا هم ثقافيا لديها ولاتتوفر لديها رؤية شاملة وأنا أتحدث هنا عن الوضع بشكل عام وفي ذهني مشاريع لأسماء قليلة هنا أو هناك لكنها محدودة الفاعلية برغم اصرار اصحابها ورهانهم على احداث رجات حتى ولو كانت على أطراف الجسد المصاب بخدر عمره قرون عديدة ..
* لقد حدث وإن طرأت تغيرات وتطورات في المشهد الذي يجسد الكتابة الشعرية
ومن فرع نسيجي جديد كانت قصيدة النثر عند مطلع السبعينيات وما حملت من تفكيك وتركيب في مسارها أو رحلتها وأنت واحد من الشعراء الذين لديهم رؤيا تجديدية ومتطورة حيال الشعر وحركته المتنوعة في الشكل والمضمون ، هل ترى ان قصيدة النثر قد دخلت حيزاً جديداً في المسار الشعري الحديث ومازالت تمّر بمراحل نسيجية حاملةً معها اتصالاً وزنياً أو نفساً شعرياً في المشهد الحالي ؟
- الكتابة خارج الأوزان الشعرية المعروفة كانت متحققة لدى شعراء سابقين بكثير على جيل السبعينيات والثمانينيات ...وربما تكون محاولات الشاعر حسين مردان الأكثر لفتا للنظر النقدي من قبل النقاد والدارسين في فترات لاحقة .وقد اختلفت التسمية حول جنس تلك الكتابات فمنهم من سماها نثرا مركزا ومنهم من سماها خواطر شعرية وآخرون عدوها قصائد غير موزونة ....وهكذا ...المهم في الأمر أن تلك المحاولات لم تؤخذ مأخذا جديا أو ينظر إليها على انها قصائد نثر بالمعنى الذي تم تحديد ملامحه لاحقا لدى شعراء ونقاد المراحل اللاحقة ابتداء من جيل الستينيات الذي تبنى هذا الإتجاه أو الشكل الشعري بوعي ومعرفة عمقها اطلاع على ثقافة عربية وعالمية وتجارب شعرية ساعدت في تكريس قصيدة النثر في المشهد الشعري العربي واذكر هنا اسماء شعراء مثل انسي الحاج وشوقي ابي شقرا وجبرا ابراهيم جبرا ومحمد الماغوط في فترة لاحقة ...ما اود الوصول اليه هنا هو ان جيل الستينيات هو صاحب المشروع الأول في كتابة قصيدة النثر وتبنيها والتنظير لها على يد شعراء مثل سركون بولص وصلاح فائق وصادق الصائغ وجليل حيدر وانور الغساني ومؤيد الراوي تحديدا . أما الاجيال التي تلت الستينيات فقد تأثروا بهم ابتداء من النصف الاول من عقد الثمانينيات أو في مرحلة مبكرة قليلا , مع وجود استثناءات كانت معزولة ومهمشة عن المشهد أما لاختيارات شخصية أو لأن الظروف السياسية والملابسات الكثيرة التي مر بها العراق خلال تلك الحقبة اسمهت في تغييبهم ولعل تجربة الشاعر عقيل علي هي الأكثر تمثيلا لما اتحدث عنه هنا .. خلاصة القول ان قصيدة النثر هي مشروع ستيني تم تبنيه لاحقا من قبل مجموعة من شعراء السبعينيات والثمانينيات فأخذ حيزا من الإهتمام على صعيد النشر والترسيخ وبدأ الإهتمام به نقديا ابتداء من منتصف العقد الثمانيني على يد النقاد المعروفين واذكر منهم الناقد حاتم الصكر تحديدا وفاضل ثامر وسعيد الغانمي وياسين النصير ومحمد الجزائري وناظم عودة وحسن ناظم وطراد الكبيسي واخرين ..
* الأجيال الشعرية في العراق توالت عبر زمنية عقدية حسب التقسيم الثقافي أو الرؤية النقدية وقد شكلت تلك الأجيال بُنية ثقافية ومعرفية منذ مطلع الستينيات ورافقت تلك البُنية ايدلوجيات حزبية وديكتاتوريات متعددة حيث الصراع الايدلوجي والثقافي في ذات الوقت ، ولكن هل انتجت تلك الأجيال ببنيتها معاملَ معرفية وثقافية منتجة وهل أثرت وتأثرت في هذا الصراع الذي أحيط بالحروب ؟
- موضوعة الأجيال برزت لدينا في العراق وتم التركيز عليها أكثر من بقية البلدان العربية ومن نظرة عامة وتأكيدا لما يذهب اليه السؤال فان ظروفا سياسية وايديولوجية تقف وراء كل مايمت بصلة لفكرة التجييل والتحقيب , اذ ان الدافع الأساسي المحرك لتكريسها هو وضع مجموعة معينة من الأدباء والشعراء ضمن خانة التوجهات الفكرية وربط مميزات فنهم الإبداعي بدوافع ذات طبيعة سياسية هكذا يقال عن السياب مثلا بأنه كان شيوعيا وان الشيوعيين خذلوه في مرحلة ما ثم استماله القوميون والبعثيون في مراحل لاحقة بعد أن لمسوا برمه بالأفكار والسلوكيات المحسوبة على الحزب الشيوعي الأمر نفسه ينطبق على البياتي الذي كتب شعرا كثيرا كانت تغلب فيه الأفكار الأممية وشعارات اليسار العالمي .، وبعدها جاءت مرحلة سعدي يوسف وهو شاعر شيوعي الإنتماء أكثر وضوحا في هويته السياسية وانحيازه فنيا لقضايا الطبقة العاملة ومفاهيم البروليتاريا بكل الأصطفافات الإنسانية والفنية .. ويعد سعدي يوسف صاحب مدرسة فنية لها امتدادات وأنصار , والأمر ذاته ينسحب على شعراء الستينيات الذين يمكن تقسيمهم الى مجموعات , فهناك جماعة كركوك الذين انحازوا للأفكار الوجودية وركزوا على جماليات الكتابة مع ميل للأفكار الانسانية أكثر من القضايا القومية , ولذلك أسباب يطول الشرح فيها ...وأنا هنا أتحدث عن الخصائص العامة الأكثر شيوعا وفي ذهني شعراء ستينيون آخرون يختلفون في توجهاتهم الفكرية والسياسية لكنهم غلبوا انحيازهم الفني على ماهو سياسي برغم محسوبية بعضهم بدرجة أو بأخرى على ايديولوجيات معينىة ...يمكن أن أذكر هنا فوزي كريم , جليل حيدر , حسب الشيخ جعفر على سبيل المثال لا الحصر , ثم لدينا شعراء قوميون وبعثيون مع تفاوت توجهاتهم والتوازنات بين الجانب الجمالي والخيارات الايديولوجية مثل حميد سعيد , خالد علي مصطفى , سامي مهدي , علي جعفر العلاق وسواهم ،.من مجمل ماتطرقت اليه يمكنني أن استنتج ان الجانب الايديولوجي وليس الفكري هو ما كان يحرك هذه المجاميع المتنافرة في معظم الأحيان بكل مايعنيه هذا من مواقف وانحيازات على مر العقود الستة الأخيرة . لم يكن هؤلاء بمجملهم أصحاب آثار فكرية وتنظيرات جمالية مدعومة بكتب مهمة وتنظيرات مؤطرة بأطر علمية ...ولعل تجربة الشاعر محمود البريكان وهو من جيل سعدي يوسف وبلند الحيدري وبعده الشاعر عبد الرحمن طهمازي من الستينيين يمثلان محطتين مختلفتين في نظرتهما للجانب الجمالي واشباع نصوصهما بجرعات الرؤية الجمالية المتشربة في الوجدان بما أسس لتوجه فني مختلف ومميز ...ورغم أن البريكان لم يكن ولوعا بالتنظير ومال لكتابة نصه الشعري المغاير , لكنه من وجهة نظري ومن رصد النقاد كتب شعرا متحررا من إرث النموذج الرومانسي والإتجاه الواقعي وشعر الهتافات السياسية الذي سقط في فخه العديد من الشعراء مثل السياب والبياتي وسعدي يوسف وبعض الأسماء الأخرى التي تنتمي للأجيال اللاحقة .
* وهل ينطبق ما ذكرته على جيل الرواد الذي يمثله السياب والبياتي والتجارب التي جاءت بعدهم على جيلي السبعينيات والثمانينيات ؟
- نعم الأمر ينطبق الى حد بعيد على شعراء السبعينيات والثمانينيات وبعض ممن تلاهم ..غير أن ظروف الحرب والحصار والتعقيدات السياسية خلال العقود الثلاثة الأخيرة خلقت فوضى فنية كبيرة وانشقاقات حادة ستميل لاحقا للصفاء النسبي على يد مجموعة من شعراء رسخوا التجربة الشعرية العراقية بملامح فنية مغايرة بعضها تأثر بتجارب شعرية عربية وآخرون تأثروا بالشعر العالمي دون أن نغفل الشعر المناسباتي وشعراء المهرجانات الحافلة التي جيرتها السلطة لإدامة زخم آلتها الحربية في سنوات الحرب العراقية الايرانية من جهة واحكام قبضتها في السيطرة وتكريس اللون الواحد مستغلة الظرف الحربي والتجييش الإعلامي وضجيج الرصاص حيث تحول الشعر الى مطية للإعلام وغدا الحديث عن الفن والجمال تهمة أو تكاد بحجة الأمن القومي والدفاع عن القضايات الكبرى وما الى ذلك من شعارات مستهلكة ...وفي وسط هذا الجو كان عدد محدود من شعراء السبعينيات والثمانينيات يخلقون نموذجا منحازا للفن أولا ولم يكن ذلك سهلا حيث انه مر بمخاضات عسيرة وواجه صعوبات وعقبات مركبة لا مجال للخوض فيها هنا..
* كيف تحدثنا عن المنفى بوصفه ملاذاً آمنا للشاعر بعد ضغوطات كبيرة مارستها الأنظمة الشمولية وهل كان المنفى خياراً صحيحاً بالنسبة لك تحديداً ؟
- المنفى يحمل مراراته في التسمية أولا وهو على مر العصور كان يمثل عقوبة في مراحل بعيدة عزت فيها خيارات العقاب . كل خيار اضطراري هو منفى يخلق احساسا بالمرارة مرده انك تغادر مسقط رأسك , هواءك , عائلتك , اصدقاءك , ذكرياتك ...وكل هذه المكونات هي العوامل الأساسية المحركة للشاعر على وجه الخصوص بحوافزها المعروفة واختلاف طبيعة اللغة ونوعية الجمهور والقضايا التي تهمه ..أضيف الى ذلك أن المنفى يعني حياة جديدة باشتراطات النظام المختلف الجديد الذي يريدك أن تعمل وتدفع ضرائب وتنخرط في وضع مغاير . وأن لا تكون نغمة نشازا تنفث آهات عالمها الأول بما يشكل عائقا أمام مسيرة الاندماج .. نعم , المنفى يحمي جسدك من الخطر لكنه أيضا يعمق جراحاتك النفسية التي يزداد نزفها بانخفاض رصيدك وتراجع حوافزك للكتابة والتواصل ..وقد واجهت تحديات ليست هينة في هذا الشأن خصوصا في السنوات الأولى وحاولت تقليل الخسائر بمواصلة الكتابة وترجمة شعري والانتماء لاتحاد أدباء الولاية التي كنت أعيش فيها واقامة صداقات مثمرة مع عدد جيد من الأدباء الكنديين والعرب أيضا وبعض العراقيين ..
* بعد مرور أكثر من ربع قرن من الزمن على خروجك من العراق وانت تضع أولى خطواتك في المنفى كيف تقيّم الفترة العمّانية في الأردن ، خاصة بوجود اسماء كبيرة مثل البياتي وسعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر وآخرين ؟
فترة عمّان كانت من أخصب الفترات في مسيرتي الأدبية , وبعد وصولي الى هذه المدينة في تشرين الثاني 1994 واجهت صعوبات معيشية لبعض الوقت ،كنت خلالها أكتب وأنشر وأتعرف على المثقفين والأدباء العرب والأردنيين ...وتلك من الأمور التي احببتها في عمّان فهي كانت انذاك ملتقى للقادمين من مختلف دول العالم بما وفر فرصا لانضاج تجربتنا وزيادة خبرتنا ونحن وقتها كنا في بداية الثلاثينيات من أعمارنا ... وقد تعرفت لاحقا على الشاعر الرائد عبد الوهاب البياتي مع مجموعة كبيرة من الادباء والشعراء العراقيين حيث كنا نلتقي في غاليري الفينيق الذي كان يديره الصديق الشاعر علي الشلاه ..وكنا نقيم نشاطاتنا هناك بدعم معنوي ومادي من السيدة الراحلة صاحبة غاليري الفينيق سعاد دباح والصديق علي الشلاه . كان الفينيق بيتا عراقيا اولا وثانيا للاردنيين والعرب وهناك التقينا بادباء وفنانين ومثقفين كثيرين من الاردن ومختلف الدول العربية أبرزهم محمود درويش وسميح القاسم وشوقي بغدادي ومحمد علي شمس الدين وجهاد فاضل ومحمود الريماوي وماهر الكيالي وفتحي البس وزهير ابو شايب وعبد الله حمدان ومحمد بنيس وقاسم حداد وعلوي الهاشمي وطبعا سعدي يوسف وفوزي كريم وصلاح نيازي وعواد ناصر واخرون كتيرون غيرهم . الأمر المهم الذي لابد من أن أذكره للتاريخ هنا هو ان الشاعر الرائد عبد الوهاب البياتي كان له دور كبير جدا في اسناد وتقوية خيمة العراقيين الثقافية في عمان وأنا واحد منهم وكان داعما كبيرا من الناحيتين المادية والمعنوية بعلاقاته مع الحكومة الاردنية ومع الادباء والمثقفين والعاملين في الامم المتحدة حيث شهدت عمان ابان تلك الفترة موجات هجرة ولجوء واعادة توطين الى مختلف دول العالم وكان للبياتي دور مهم في هذا الجانب .وكذلك بادر لطبع دواوين عدد من الشعراء بعد فوزه بجائزة سلطان العويس حيث صدرت مجاميع للشعراء نصيف الناصري , وعلي الشلاه ,وعلي عبد الامير ومحمد تركي النصار عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر وهو حلم كبير لهؤلاء الادباء الذين كانوا يشقون طريقهم مواجهين سلسلة معقدة من التحديات المعيشية والسياسية والادبية . في عمان عشت كثافة التجربة ومواجهة التحديات بروح قوية واحساس حر أسهم في تخصيب وجداني لأكتب وأنشر وعملت في بعض دور النشر والمجلات الثقافية ..ولي في عمان صداقات وذكريات عزيزة جدا ..
* بعد ان اصدرت مجموعتين شعريتين في بغداد بداية عقد التسعينيات ، الأولى كانت بعنوان ( السائر من الأيام ) التي كتب عنها الكثير من الدراسات في الصحف والمجلات العراقية في وقتها وكذلك مجموعة ( تنافسني على الصحراء ) ، هل تعتقد ان تلك المجموعتين كونت بالنسبة لك الخطوة الأولى في الطريق الصحيح نحو الشروع بكتابة قصيدة مختلفة عما كتب في السابق ؟
- في عام 1992 طبعت مجموعتي الشعرية الأولى ( السائر من الأيام ) وكانت كتاب مجلة أسفار الأدبية التي كنت أعمل سكرتيرا للتحرير فيها ...كنا أنا والزملاء العاملون عبد الزهرة زكي ووسام هاشم قد اقترحنا القيام بهذه الخطوة لفتح نافذة لنشر مجاميعنا الشعرية ووقع الإختيار علي كتابي بمقدمة نقدية مهمة للأستاذ حاتم الصكر صدرت في عدد مجلة أسفار مع ديواني . وبعد صدور المجموعة كتبت عنها العديد من الدراسات للنقاد والشعراء فاضل ثامر ومحمد الجزائري وحاتم الصكر وحكمت الحاج وعبد الزهرة زكي ومحمد شاكر السبع ولاحقا ناظم عودة بالإضافة لعدد كبير من المتابعات والقراءات الصحفية . وفي عام 1993 صدرت مجموعتي الشعرية الثانية ( تنافسني على الصحراء ) التي فازت بمسابقة وزارة الثقافة في ذلك العام ولاقت اهتماما طيبا أيضا . الآن وبعد مرور أكثر من ربع قرن على صدور هاتين المجموعتين الشعريتين فأنني أنظر لهما نظرة القارئ مرة فاعتز بميزة الإختلاف والرغبة بالإبتكار والإنحياز لاسلوب يمثل امتدادا ينقطع عن نموذج شعري سابق عليه . وشاعرا دائما أعيد قراءة قصائدي متأملا هندسة الشكل مرة ومرات متمنيا حذف جمل هنا وصورة هناك ...اعتز بتدفق الروح وصدق التجربة واتحسر أحيانا على عيوب وهنات صارت في ذمة التاريخ .والخلاصة ان ما أنا فيه الآن من خبرة له امتداد عميق في تلك المغامرات الجذابة التي ككل المغامرات الأخرى لها ثمن فني وحسرات وآلام تحولت بمرور الوقت والمراجعة والرصد الى ذكريات قد تغري الباحثين والقراء والشعراء اليافعين ..
* في عمّان طبعت المؤوسسة العربية للدرسات والنشر مجموعتك الثالثة على نفقة الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي والتي جاءت بعنوان جميل هو ( حياة ثالثة ) لاحظت من خلال قراءتي لتلك المجموعة انك استخدمت تقنيات حديثة على صعيد اللغة مع تكنيك جديد داخل القصيدة ؟
- مجموعة ( حياة ثالثة ) طبعت كما ذكرت سابقا ضمن أربع مجاميع شعرية على نفقة الشاعر عبد الوهاب البياتي وصدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام1996 في بيروت . حاولت أن اعطي اهتماما أكبر لبناء الجملة الشعرية وضبط انثيالات الخيال وتدفق الصور التي تزخر بها مجموعة ( تنافسني على الصحراء ) بشكل واضح .. فيها ثيمات شعرية متنوعة بين النصوص الطويلة وبعض النصوص القصيرة التي أرى انها أكثر احكاما في البناء . هي تمثل مرحلة لصقل شكل لاحق والتخلص من الفيوضات الصورية وغوايات اللغة التي تدخل التجربة أحيانا في مناطق وعرة تعيق عملية تفاعل القراء مع النصوص . صار الناقد في داخلي أكثر حضورا لمراقبة التجربة في ( حياة ثالثة ) .
* انت كشاعر تعيش عزلة القصيدة مع ذاتك وعزلة الروح مع الجسد لكنك تتفوق بصناعة الأمل داخل قصيدتك وتجعله عند الفقراء والمحرومين وعند الأشجار لكنك تبعده عن ذاتك الحزينة ، كيف تفسر لنا ذلك ؟
- القصيدة عندي بناء ذو فكرة يرتفع بها الخيال ليضخ شعاع الصور التي أسعى مستعينا بخبرتي لضبط تدفقها... الكتابة كيمياء مركبة من عناصر متعددة تمتزج في بداية القصيدة منتظمة بخيط ايقاعي يشبه دليلك الذي تتبعه لاستخلاص عصارة تجارب وأفكار وقراءات ومشاهد حياة وسينما وذكريات طفولة... الحزن عندي نكهة روح وبصمة عبارة غالبا مايتخفى مضمرا في طيات العبارة... لكنه يتغلب على المراقبة ويشتد قويا في الظهور... صدق التجربة والوعي هما اساسان لابعاد القصيدة عن الحزن الرومانسي والمبالغة... القصيدة تمثل جوهر بناء روحي ممتزجا بمقترحات وعي وثقافة تقاوم الميوعة وخذلان الزمن.
* جيل الثمانينيات وأنت أحد شعرائه البارزين ولد مع انطلاق شرارة الحرب العراقية الايرانية وقد زج بجيلكم في الحرب ، كيف كانت آثارها على نصوصكم التي كتبت في تلك الفترة الحرجة خاصة وانها فترة عسكرة المجتمع ككل ؟
الحرب داهمتنا يافعين ، كنت احمل أوراقي الجامعية وأراقب توتر الشاعر المرتبك بأخبار الحرب ، الخوف والأمل - التحدي الغامض واندفاع الشباب - توالت الأيام والاسابيع والشهور في حرب قلبت كل الموازين ووضعت كل مقدرات البلد في مهب الريح... لم نكن نحن الشباب استثناء . كنت كتبت محاولات شعرية اولية ونشرت قسما منها في جريدة الراصد وجريدة المرفأ البصرية . كانت بسيطة وبعيدة عن التوتر . لكن الحرب أخدت وعينا وحساسيتنا الى مناطق معقدة . صرنا نميل لشعر الحرب وروايات الحرب وبدأنا نفقد الكثير من استرخاء الشباب... وانعكس ذلك على علاقاتنا وتعاملنا الاجتماعي . صارت الحرب وكوارثها المتلاحقة تحفر أنفاقا في داخلنا ، وبدأنا مع نمو وعينا نطرح اسئلة صعبة من الناحية الفنية لحماية كتابتنا من الاندراج في الالة الاعلامية والتسطيح وخسارة مواهبنا التي كنا نعول عليها برغم يفاعتنا وطراوة أرواحنا ، وكان الصراع يتركز على مجابهة نموذج خرج على الاشكال المستقرة بما مثل ذلك من تحد لمنظومة ايديولوجيا الحزب الواحد وأخلاق الارث العشائري والعسكرتاريا الجهنمية ، كنا بنموذج فني جديد مع عدد من شعراء السبعينيات منحازين لنموذج كتابة شعرية مرفوضة لأنها غامضة مربكة تتحدى المؤسسة بوسائل جمالية عزلاء... كانت قصيدة النثر ونموذج النص المفتوح والكتابة الحرة . تمثل كلها نوعا من البلبلة التي تتحدى الفعل السياسي المستقوي انذاك بتبرير كل القمع والتكميم بحجة الحفاظ على المعنويات وادامة زخم الحرب . كان الخوف من البطش يدفع لخيارات فنية غلب عليها الغموض والتجريب اللغوي المبالغ فيه وصار مفهوم تفجير اللغة متداولا بشكل فيه اغراق في التغميض . لابد من الاعتراف هنا بان خسارات فنية تم القبول بها للهروب من أسئلة صعبة . كنا بعيدين عن شعر المهرجانات والترويج والخطابات الرنانة . وهذا بحد ذاته كان حجة للسلطة لمحاربة نموذجنا الشعري الذي له امتداد فني عند بعض شعراء الستينيات وجماعة كركوك فاضل العزاوي وسركون بولص وصلاح فائق ومؤيد الراوي وانور الغساني . وهذا ايضا اضاف عبئا اخر لان هؤلاء كانوا رافضين للمنظومة الايديولوجية السائدة . الحرب كانت موتا وخوفا وقلقا وحصار نفسيا ونضجا مبكرا سرق مباهج منا نحن الشباب ، وايضا خسارات بعضها جمالي فني تم اللجوء اليها للهروب من العنف والقمع والتكميم. .
* بعد زمان طويل مضى لم يبق من أبناء جيلكم الثمانيني الذي تجاوز الثلاث مئة شاعر وشاعرة سوى اسماء قليلة جدا استمرت بمشروعها الشعري وظلت مخلصة للشعر وحده ، كيف ترى هذه الظاهرة ؟
- صحيح ، الكثير من الأسماء الشعرية اختفت وبعضها تراجع نشاطها بشكل ملحوظ... الاسباب متعددة ، أولها ان كلا من هؤلاء الشعراء كانت لديه طاقة ومقترحات فنية وأسئلة قدمها بمجموعة من الدواوين الشعرية وادرك لاحقا انه بدأ يكرر تجربته ولم يعد قادرا على تجاوز تجربته وبعضهم لم يكن اصلا مخلصا لمشروعه الشعري وكانت الكتابة بالنسبة له هدفا لبلوغ غايات بعيدة عن الهم الشعري ، المنافي وتحدياتها لها دور أيضا في تجفيف منابع مواهب كثيرة حيث في المنفى تواجه انقلابات وعي وتحديات مصير واشتراطات حياة جديدة لاشأن كبيرا لها بكونك شاعرا أو مثقفا ، العمر والتقدم في السن له أيضا دور في سرقة الحماسة... التغيير السياسي والتحولات اربكت عددا من هؤلاء الموزعين بين المنافي والاوطان... سقوط معسكرات الحروب الباردة أسهمت ايضا ، اسباب كثيرة ، شخصيا أعتقد ان السبب الأهم هو الاخلاص للشعر والتضحية بأمور كثيرة . صعب جدا ان تكون شاعرا مهما وتاجرا لامعا او سياسيا مفوها . الشعر يريد منك المزيد من التضحيات والوفاء لكل مايتصل بهذا العالم ، لايحب المناورات والمخاتلات والتلفيق . الشعر عالم مواز لعالمنا الواقعي . يريد الطاقة والحماسة والانتماء والتضحيات . لتكتب مايبقى مقاوما دسائس الزوال والانمحاء..
* دراستك للأدب الإنكليزي في كلية الآداب ،جامعة بغداد مكنتك من ترجمة الشعر ، لكن بعد هجرتك الى كندا جعلت منك مترجماً متمكناً خاصة للشعر ، ولعل ترجماتك الأخيرة للعديد من الشعراء وكذلك اصدرت كتابا مترجما بعنوان ( ثلاثة شعراء نوبليون) عن دار التكوين في دمشق وترجمات أخرى ورئاستك لمجلة الثقافة الأجنبية في بغداد قبل فترة ، هل ان الإطلاع على الآداب الأخرى يكون له التأثير الواضح في نصوصك الشعرية ؟
- معرفة لغة ثانية واجادتها أمر مهم للكاتب والشاعر لآنها توفر له فرصا اوسع للاطلاع على الآداب والمعارف العالمية من دراسات فكرية وفلسفية وروايات وشعر واداب متنوعة... هذا بالتأكيد يزيد التجربة الشخصية غنى ويتيح حرية أوسع في الوصول الى أعمال غير مترجمة اما لصعوبتها او لأنها تعالج ثيمات تتعارض مع ثقافتنا مما يفرض في ظروف معينة قيودا... شخصيا يرجع شغفي باللغة الانكليزية الى سنوات الدراسة المتوسطة والاعدادية والجامعية لاحقا... كنت احب الحفظ واتعلم القواعد بسرعة... وبعد اتمامي للمرحلة الاعدادية الفرع العلمي حصلت على معدل جيد اهلني للقبول في كلية الهندسة جامعة بغداد... وبعد بضعة اسابيع من الدوام فيها شعرت بنوع من الحاجز النفسي مع نمط الدراسة واتخذت خطوة جريئة وهي الانتقال الى كلية الاداب فرع اللغة الانكليزية... ومن هناك تعمقت علاقتي بالادب الانكليزي على ايدي اساتذة أفذاذ منهم ايمي سكويرة ومؤيد حسن فوزي والبيطار ومنى العلوان واراكسي وكمال نادر واخرون... بدات اترجم ومرت ظروف معينة سرقتني من اللغة والترجمة... وبعد سفري الى الاردن عام 1994 ثم الى كندا 1998 عاودني الشغف للانكليزية ومارست الترجمة وان على نطاق ضيق... وفي كندا زاد اهتمامي دراسة وترجمة وانجزت ترجمة مجموعة شعرية لي وبضعة كتب منها ثلاثة شعراء نوبليون وكتاب الهايكو الامريكي ومجموعة شعرية للشاعر جارلس سيميك وكتاب مشترك للشاعر بيلي كولنز مع صديقي المترجم المحترف سهيل نجم... وخلال السنوات بين 2011و2016عملت مديرا لتحرير مجلة الثقافة الاجنبية لسنتين ثم رئيسا للتحرير وكان لذلك دور ايضا في تعميق شغفي بالترجمة وتقوية علاقتي بالمترجمين....
* ما الذي جعلك تقرر العودة الى الوطن بالرغم من أن أوضاع العراق مازالت لم تستقر بشكل تام ، وكما ترى العراق ولاد للأزمات ، أزمة تلد أخرى ! هل الحنين وحب الوطن دفعك بقوة الى العودة ؟
عودتي للعراق لم تكن مخططا لها... كان عندي مشروع دراسة في بيروت فسافرت الى هناك من كندا وبقيت فترة بين الدراسة والتعرف على الجو الثقافي في هذه المدينة الغنية ثقافيا وشعريا... بعد بضعة شهور قررت القيام بزيارة لبغداد بعد هذا الابتعاد الطويل عن البلد واستهوتني فكرة البقاء ووجدت عملا واستعدت علاقات وبين تشجيع ألاهل والاصدقاء وحبي العريق لبغداد مضت السنوات سريعة وكثرت الاشتباكات والاهتمامات. والتحديات الشخصية وعلى الصعيد العام .. نظريا من الأفضل للانسان أن يعيش في بلده حيث طعم الاشياء مختلف والحوافز يفترض ان تكون اقوى... للكاتب والشاعر على وجه الخصوص حرية النظر للأشياء عن قرب بدون ميكرسكوبات.. هذا أفضل نظريا... لكن واقع الحال مليء بالمتاعب الكثيرة حيث لا اهتمام ولا رعاية من قبل الجهات المسؤولة وحيث غربتك صارت الان اكثر ضراوة وتعقيدا.... مايبقيني هنا هو الكتابة والأهل وبعض الأصدقاء والأهم والأكبر هو حبي للعراق ولبغداد التي اعشقها... أقول هذا في ظل وضع نفسي مفتوح مستقبلا على شتى الإحتمالات..
* منذ أكثر من سنة تقريبا وأنت تكتب قصيدة أو أكثر يوميا وبتراكم النصوص الكثيرة التي كتبتها وكأنك تحتفل بالحياة والأصدقاء ، لم تترك أمراً إلا وكتبت عنه سواء كان سياسيا او ثقافيا أو رياضيا ، ما هو الدافع الخفي وراء هذه الكتابة اليومية ؟
- أنا بشكل عام قليل الكتابة... وقد تمر فترات انقطاع طويلة . منذ أكثر من سنة صرت اكتب يوميا تقريبا ، هو نوع من المراس وتجريب أشكال مختلفة نوعا ما على صعيد الثيمات الشعرية والتكنيك ايضا... وبرأيي ان الاستمرار بالكتابة امر مهم شرط أن تحافظ على مستوى فني مقبول . الظروف التي لانزال نواجه آثارها لها دور كذلك.. انت تكتب لتقاوم حالة ضنك نفسي بوسائل جمالية هذا بحد ذاته عمل شعري حتى لو كان عدد قرائك قليلا... اغتنام المزاج المتفاعل مع الحماسة للكتابة ينفع الكاتب والشاعر ويحقق حضورا مهما اختلفنا على قيمة هذا الحضور. احتفائي بالأصدقاء نوع من الوفاء . هناك شعراء وكتاب عراقيون غابوا وطواهم النسيان بفعل خراب ثقافي شامل ، هؤلاء لهم نكهة مميزة في مسيرتنا الأدبية يستحقون الاحتفاء..
* بعد رحلة طويلة مع الشعر والمنفى كيف ترى المشهد الثقافي العراقي الجديد في ظل هذه الظروف الغامضة والتي أهمها عدم الاستقرار ؟
- الفوضى والخمول وتراجع الهم الثقافي ناهيك عن الأدبي والشعري.. المنجزات المميزة قليلة والحرية جلبت ركاما أسهم في أفساد الذوق.. لابد من الأحتكام الى أساسات في النظر لهذه الفوضى.. صار صعبا جدا على الشاعر والكاتب أن ينتزع اعترافا بالقيمة ولا توجد فعاليات ثقافية نوعية... المهرجانات لاتزال تقترن بأمور ليست ذات قيمة ويغلب عليها الطابع الاجتماعي ..
* هل فكرت بخوض تجربة كتابة الرواية بعد ان ذهب اغلب الشعراء لكتابتها ؟
- نعم لدي مشروع مؤجل لكتابة الرواية... انتظر وقتا للتفرغ... شخصيا أميل للرواية التي تجمع بين الفكر والشعر وتختزل التفاصيل ..
* ما هي مشاريع الشاعر محمد تركي النصار الجديدة على صعيد الشعر والترجمة ؟
- لدي ثلاثة دواوين شعرية وكتابان للترجمة وثالث مشترك مع الصديق الشاعر والمترجم المعروف سهيل نجم ...
أوسلو / بغداد 2021
Comments