top of page
Search
Writer's pictureasmourajaat2016

الشّعر وجدان صادق. الشّعر أخلاق.كلمات في رثاء شاعر كتبها الأستاذ عبيد العياشي



فجعت في مثل هذا اليوم من عام 2015، كما فجعت الأسرة الأدبيّة في تونس، بوفاة الشّاعر الكبير أحمد اللغماني.. فاعتصرني الألم لفقدان هذا المعلم الجليل الذي تخرجت على يديه أجيال من الأدباء التونسيين الكبار في مجالي الشعر والقصة.

الشّعر وجدان صادق.

الشّعر أخلاق.

أحمد اللغماني لم يكن بالنّسبة لي مجرّد مدرسة ومثابة هامّة من مثابات الشّعر الحقيقيّ في بلادنا وإنّما كان الشّعر ذاته في أبهى تجليّاته الفنّية والأخلاقيّة لما تميّز به من صدق وثراء وجدانيّ وقوّة تعبير. سي أحمد هو معلّمي الأوّل، مثلي الأعلى وسرّي الذّاتي.. الذي اعتزّ به أيّما اعتزاز.

هذا المبدع الحزين، ظلمه القدر مرتين: عندما غيّب عنه مبكّرا رفيقة دربه، وعندما ظلمه النّقاد ولم ينصفوا صداقته للزّعيم الرّاحل الجبيب بورقيبة ولم يرتقوا إلى فهم العلاقة الخاصّة التي تربط بين الرّجلين فسجنوها في دائرة المديح والعلاقة التقليديّة بين البلاط والشّعر. ما جعله يؤثر الانسحاب بهدوء وترفّع. وهو على حقّ في ذلك بالنّظر إلى تشبّعه بثقافة جنوبيّة عصامية تقوم على عزّة النّفس واحترام الذّات أولا وأخيرا.

بدأت علاقتي بالشّعر في أواخر الستّينات من القرن الماضي. وعندما عرضتُ أولى محاولاتي على استاذ العربية في معهد حفّوز، سخر منّي ومنها قائلا إنّني " أزن " شعري أو أقيسه بأعواد الثقاب". خلّف ذلك جرحا غائرا فيّ ولكنّه لم يمنعني من ركوب المغامرة مع برنامج " هواة الأدب " الذي يشرف عليه الشّاعر أحمد اللغماني .. كان عليّ أن أتجاوز خيبة أملي الأولى وأن أنجح هذه المرّة ـ ولو باستعمال الحيلة. لذلك درست شخصيّة سي أحمد من خلال ما أتيح لي من شعره: لقد سحرني بتلك القصائد التي رثى بها زوجته لانّه أضفى عليها مسحة إنسانيّة شفيفة تتجاوز مفهوم البكاء التقليديّ على فقيد عزيز إلى ركوب سحابات الشّجن الغامض التي تسكن عادة كل فنّان مبدع. ولذلك كتبت قصيدة على مقاسه أرسلتها بالبريد وأنا وجل متردّد. إنّها " سلمى والحصان" التي انبهر بها سي أحمد وطلب من المذيع " عادل يوسف " أن يعيد قراءتها ومنحها الجائزة الماليّة الأولى ومقدارها 15 دينارا بالكمال والتّمام. بعد ذلك عزّ عليّ أن أراسل البرنامج خشية أن يشار إليّ بالطّمع المادي فعمدت الى استعمال اسم مستعار.. ومرّة أخرى يمنحني سي أحمد جائزة مالية والأهمّ من ذلك قوله على الهواء مباشرة إنّه يعرف صاحب القصيدة الحقيقيّ ويقدّر الدّواعي الأخلاقيّة من تخفّيه وراء اسم مستعار. وفي المرّة الثّالثة وعندما ذهبت لاستلام جائزة أخرى من محطّة الأذاعة أبلغني المحاسب أنّ مدير الإذاعة الأستاذ أحمد اللغماني يرغب في مقابلتي. لم أتوقّع ذلك كانت المفاجأة كبيرة أنا الرّيفيّ الحييّ القادم إلى العاصمة من تخوم القيروان بقميص وبنطلون واسعين استعرتهما من ابن عمّي الذي يكبرني بسنوات.. أقابل شاعر الخضراء الأوّل، صديق المجاهد الأكبر؟ لا لا.. مستحيل. لقد تضافر عليّ الفقر والخجل الذي كان يعقد لساني في مثل هذه الحالات لذلك تركت الجائزة وانسحبت من دار الإذاعة بصمت في غفلة من أنظار المحاسب.

بعدها دعيت لحضور ملتقى "هواة الأدب " الذي يشرف عليه المرحوم الزّعيم الحبيب بورقيبة شخصيّا في قصره بسقانص تكريما منه ورعاية للجيل الجديد من أدباء تونس الشّباب.

بعد هذه التجربة التي قادتني إلى عتباب هذا اشّاعر الكبير وما رسّخته في نفسي من تقدير لشخصه على أخذه بيد المبتدئين وخدمته لمسيرة الشعر في بلادنا.. أعترف أنّني واحد من التونسيّين الذين طبعهم أحمد اللغماني الشّاعر والإنسان بكثير من التأثيرات الخاصّة جدا. هي اليوم ما يحدد نظرتي ومفهومي للشّعر.

سي أحمد كان دائما صديقي البعيد.. وكنت وسأبقى إلى الأبد صديقه المجهول.

وداعا سي أحمد.

20 avril, 03:48 ·

50 views0 comments

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page