top of page
Search
Writer's pictureasmourajaat2016

الحفر في الملامح السّيميائيّة / الثّقافيّة للنّصّ / الأحفورة بعنوان " حفريّات في جسد عربي "

الحفر في الملامح السّيميائيّة / الثّقافيّة للنّصّ / الأحفورة بعنوان " حفريّات في جسد عربي " للشّاعر المختار اللّغماني

الشّاعر و النّاقد عضو اتحاد الكتّاب التّونسيّين الأستاذ بوراوي بعرون


تصدير: " إنّ رحلة البحث عن الزّمن الشّعريّ ليست رحلة أفقيّة، تسير على خطّ ممتدّ يقود إلى نقطة وصول معروفة، تحمل في نهايتها اليقين بالوصول إلى الهدف و الرّضا به. ولكنّ مرافقتنا للقصيدة تظهر لنا أنّ الرّحلة " دائريّة "، وليست أفقيّة. إنّها أشبه شيء بالشّعر، لأنّ الشّعر ذاته فنّ " دائريّ "، بخلاف النّثر الذي هو فنّ " خطّيّ " يتقدّم على خطّ ممتدّ أو منعرج ليجيب عن " وماذا بعد؟ " في أبسط صوره " أحمد درويش، فصول، النّقد الحاضر .. النّقد الغائب، العدد 106 خريف 2021 صص 161-162.



تقديــــــــم

المختار اللّغماني يرحل مبكّرا في سنّ رحيل الشّابي، ترك ديوانا شعريّا بعنوان " أقسمت على انتصار الشّمس " يتضمّن هذا الدّيوان قصيدة بعنوان " حفريّات في جسد عربي "، قصيدة مطوّلة كأنّها ديوان صاغها في شكل مقاطع / لوحات، إثنا عشر مقطعا، اللّوحات مرقّمة وغير معنونة، العنوان الجامع هو " حفريّات في جسد عربي "، هذا العنوان فيه مخاتلة إذ كيف يمكن الحديث عن حفريّات في جسد، الحفريّات جمع حفريّة تتمّ عادة في الصّخور والآثار للبحث عن أحافير مدفونة هناك، والجسد ليس صخرا أو أثرا هو حسب " ميرلوبونتي " هويّة الشّخص، ما يميّزه عن غيره. الحفر في النّصّ إذن هو التّنقيب في ذات الإنسان و هويّته وميولاته، و الشّاعر في هذا النّصّ يوظّف المجاز اللّغوي ليتعمّق في جسده / ذاته شعريّا أي باللّغة وفيها، حيث يستخدم في أغلب الأسطر ضمير المتكلّم " أنا " أو ما يحيل عليه، فكيف يحفر الشّاعر في جسده؟ وعمّ يبحث تحديدا؟ هل يبحث عن أحفورة ما هي هي ذاته، الملامح الخاصّة به؟ لفكّ هذه الشّفرة ولاستكشاف العلامات التي تتضمّنها الحفريّات / النّصّ من خلال الغوص في أغوار القصيد ومحاورة أعماقه واستجلاء ما هو ثاو هناك، ارتأينا اعتماد التّمشّي السّيميائي / الثّقافي بما يعني رصد العلامات في أبعادها السّيميائيّة وفي علائقها بالأبعاد الثّقافيّة المختلفة. لتحقيق ذلك اخترنا التّمشّي المنهجي التّالي: أوّلا: النّظر في الملامح السّيميائيّة / الثّقافيّة لمفتتح القصيد، ثانيا: رصد الجذور السّيميائيّة / الثّقافيّة لملامح الانتساب، ثالثا: استكشاف الملامح السّيميائيّة / الثّقافيّة للرّوافد و الآفاق، رابعا: النّظر في الملامح السّيميائيّة / الثّقافيّة لآثار الانكسار، وخامسا: رصد الملامح السّيميائيّة / الثّقافيّة لمحطّ رحال الحفريّات.

في الملامح السّيميائيّة / الثّقافيّة لمفتتح القصيد

" لا تُهدِر حلمي باسم اللّه / وباسم الدّين / وباسم القانون / و لا تذبح قلمي " في أربعة أسطر قصيرة وفي أسلوب إنشائيّ فيه طلب بالحقّ في الحلم، والحقّ في الكتابة. يبدّأ الشّاعر القصيد بالإشارة إلى القمع المتربّص بالحرّيّة، الحرّيّة في أن يحلم الشّاعر وفي أن يكتب أي يعبّر، حيث أنّ المخَاطب أي الحاكم هنا يتربّص بالأحلام ويذبح الأقلام. " ولا تذبح قلمي " في استخدام عبارتي الهدر و الذّبح، و الاثنتان تحيلان على سفك الدّماء وإراقتها، احتجاج صارخ عن اعتداء الحكّام على الأجساد و الأقلام. في هذا الأسلوب من الكتابة رمزيّة لافتة. منذ البدء يختار الشّاعر التّلميح و الإيحاء ولا ينخرط في الخطاب المباشر. في انزياح تركيبيّ لافت في السّطرين الرّابع و الخامس " كلماتك حمرا " قال .. / فما لون دمي ؟ا " حيث قدّم الشّاعر المفعول به وأخّر الفعل للضّرورة العروضيّة من ناحية و لجعل الكلمات الحمراء في مقام الصّدارة من التّركيب من ناحية ثانية. يريد الشّاعر في مطلع القصيد أن يتموقع في علاقة بالكتابة / الكلمات، حمراء أي ذات ملامح محدّدة، بالإيحاء الرّمزيّ يحدّد الشّاعر ملامح كلماته ولم يلجأ إلى المباشرة في علاقة بمثل هذا التّموقع على غرار ما جاء في " بطاقة هويّة " لمحمود درويش : أنا من قرية عزلاء و منسيّة شوارعها يلا أسماء ... وجميع سكّانها في الحقل و المحجر / يحبّون الشّيوعيّة " أو ما جاء في " وتريّات ليليّة " لمظفّر النّوّاب: " ... شورى التّجّار ترى عثملن خليفتها وتراك زعيم السّوقيّة لو جئت اليوم لحاربك الدّاعون إليك وسمّوك شيوعيّا " وعندما يشهد الشّاعر أي يقسم فإنّه يشهد بحمام العالم، والحمام يرمز للحرّيّة كما يرمز للسّلام الذي يرمز له الزّيتون كذلك، وهو الذي يشهد به الشّاعر مشيرا إلى أنّه مطعون وهو يريد بذلك أن يلفت النّظر إلى السّلام المطعون. ويشهد الشّاعر بالبحر المسجون وفي ذلك تأكيد على اتّساع رقعة الاستبداد و القمع حتّى أنّها طالت البحر رمز الاتّساع / الكبر و الحرّيّة. وإذ يشهد الشّاعر بالدّنيا يستطرد في السّطر العاشر: " وأنا أعرف ليس على الدّنيا أحلى أو أغلى من هذي الدّنيا " وفي ذلك إشارة واضحة إلى تعلّقه بالدّنيا / الحياة و اهتمامه بها. يشهد الشّاعر في الأسطر السّبعة الموالية أنّه عربيّ. عربيّ في تفاصيل التّفاصيل ( الصّوت، العشق، الضّحك والبكاء، الرّغبات الممنوعة والأهواء، الشّعور، الكتابة ) ثمّ يستطرد في خاتمة المقطع: " لكن العالم أرحب / لكن العالم أرحب " وفي ذلك إشارة إلى أنّ الشّاعر إنسان ينتمي إلى العالم الكبير.



في الجذور السّيميائيّة / الثّقافيّة لملامح الانتساب

يتّخذ الشّاعر أبا ذرّ جدّا ( المقطع الثّاني ) والحلاّج أبا ( المقطع الثّالث ) و أبا نوّاس نديما أي صديقا ( المقطع الرّابع )، وهكذا يختار الشّاعر رموزه التّراثيّة / الثّقافيّة حسب ميولاته المميّزة له. فأبو ذرّ رمز للثّورة على الظّلم والاستبداد كان يردّد بين النّاس: " أعجب لامرئ لا يجد قوت عياله ولا يخرج على النّاس بسيفه " وكان يذكّر دائما بسورة الهمزة التي تتهدّد أولئك الذين يجمعون الأموال ويكدّسونها، ينتسب الشّاعر إلى أبي ذرّ ويتواصل معه، في مشهديّة تخييليّة فيها توحّد وحلول لافتين: " عربيّ وأبو ذرّ جدّي / حين يطول اللّيل ويدهمني حزني / وأنا طفل معلول / يبسم لي ويقول: / " يا ابني / وسّد قلق اللّيل إلى حضني "ا / أتدثّر بين عباءته / أتدفّأ عند سماحته / أتوسّده / يتوسّدني / ويهدهدني " للجدّ مكانة هامّة فهو المؤسّس، وهو المرجع، وهو الأثر، ولقد ظهرت عبادة الأصنام انتروبولوجيّا في علاقة بتقديس الأجداد المؤسّسين واتّخاذهم آلهة. ومازلنا نلحظ آثار ذلك الآن عند زيارة أضرحة الأجداد والتّبرّك بهم. يجد الشّاعر في أبي ذرّ ملاذه الأمثل في حالاته الوجوديّة التي تتملّكه عندما يطول اللّيل خاصّة. يلوذ به من الحزن، ومن المرض، ومن القلق، ومن البرد، ومن الوَحشة. ألسنا إزاء مريد يلوذ بشيخه ومعلّمه الذي يطلب منه قائلا: " علّمني الفرحة يا جدّي امنح اسمك من عندي "ا / فيعلّمني ويعلّمني ويعلّمني / ويصير لقانا في " الرّبذة " / أجمل من كلّ كراسي العفن اا" يعترف الشّاعر بل يؤكّد أنّ أبا ذرّ يعلّمه ويعلّمه ويعلّمه، أليس في ذلك تناصّ آخر مع النّوّاب في " وتريّاته " حين يقول: " علّمنا ذاك حسين الأهوازيّ عشيّة يوم في القرن الرّابع للهجرة ... "؟ ويتوق الشّاعر لملاقاة جدّه فيصير لقاؤهما في الرّبذة / المنفى، أجمل من كلّ كراسي العفن. والرّبذة هي المكان الذي نُفي إليه أبو ذرّ بأمر من الخليفة عثمان بن عفّان والذي سبق له أن أمر بجلده حتّى أصابه الفتق. لم يختر الشّاعر خليفة أو أميرا أو قائد جيش جدّا له بل خيّر رمز الثّورة أبا ذرّ الغفاريّ وفي ذلك انتساب واضح للسّلف الغاضب والثّائر والمتمرّد على الحاكم المستبدّ. وينتسب الشّاعر إلى الحلاّج ويتّخذه أبا: " عربيّ والحلاّج أبي " يتأثّر الشّاعر بالحلاّج و بمحنته، ويتّخذه رمزا للتّحدّي وللإصرار على الموقف رغم الظّلم المتربّص به. تمسّك الحلاّج برأيه في علاقته بربّه وأقرّ بالحلول والتّوحّد جاء ذلك في مغازله مثل: " يا نسيم الرّوح قولي للرّشا / لم يزدني الورد إلاّ عطشا / لي حبيب حبّه وسط الحشا / لو يشا يمشي على وجهي مشا / روحه روحي و روحي روحه / إن يشا شئت / و إن شئت يشا " و مثل: " أنا من أهوى / ومن أهوى أنا / نحن روحان حللنا بدنا / فإذا أبصرتني أبصرته / و إذا أبصرته أبصرتنا " وقال: " اللّه في الجبّة " يقصد نفسه أي يرى نفسه هو هو اللّه. بسبب ذلك تمّ تكفيره وقتله حرقا. " كان الجلاّدون يقودونه موثوقا نحو النّار / كم كان جميلا في جبّنه / كم كان عظيما في هيبته " ( المقطع الثّالث / الأسطر 3-5 ) في توظيف للحوار الدّراميّ وتعدّد الأصوات يشكّل الشّاعر لوحة تخييلية بديعة، فيها إجلال للحلّاج وإكبار له: " معك اللّه سيأمرها كوني بردا وسلاما " ( المقطع الثّالث / السّطر 20 ) يرى الشّاعر الحلاّج في مقام النبي ابراهيم خليل اللّه، وخليل في الميثولوجيا الكنعانيّة تعني خلّ إيل أي جليس الإلاه إيل، " تعرف يا ولدي أنّ الرّبّ الآن سيحرق في الجبّة .. / أو فانظر .. انظر فوق الغصن هناك إلى الرّكن / الأيسر في السّاحة / ذاك العصفور المقرور ... / فذاك هو الرّبّ وإنّي / أسمع في الرّوح نواحه ا ا " ( المقطع الثّالث ... ). من الجدّ أبي ذرّ والأب الحلاّج إلى النّديم أبي نوّاس، " عربيّ وأبو نوّاس الملعون المغبون نديمي / في أيّام الغربة ندخل كلّ مساء بارا شعبيّا / نشرب نشرب نشرب حتّي يصبح رأس الدّيك حمارا / وحشيّا " ( المقطع الرّابع / الأسطر 1-4 ) يتّخذ الشّاعر أبا نوّاس الغير مرغوب فيه خليلا وجليسا، يشربان معا ويتسكّعان معا، ومعا يقولان الشّعر، يستحضر الشّاعر موقف نديمه من الوقوف على الأطلال إذ يقول أبو نوّاس: " عاج الشّقيّ على رسم يسائله / وعجت أسأل عن خمّارة البلد "، أبو نوّاس الشّاعر المحدث يخرج عن النّمط القديم ويحتفي بالخمرة، " دع عنك لومي فإنّ اللّوم إغراء / وداوني بالتي كانت هي الدّاء / صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها / لو مسّها حجر مسّته سرّاء " ويقول في ما جاء في الحفريّات: " ما أكذب هذا التّاريخ / يبقى منه الوجه الزّائف والوجه الآخر للتّفسيخ " ( المقطع الرّابع / السّطر الرّابع عشر ) وفي محاورة بديعة مع نديمه يتّخذ الشّاعر من أبي نوّاس المعادل الموضوعي للحكيم بيدبا في كليلة ودمنة ومن الخليفة العبّاسي هارون الرّشيد المعادل الموضوعي للحاكم العربي في سبعينيّات القرن الماضي يقول الشّاعر في حفريّاته: " قلت له يوما: " لكن على عهد خليفتكم هارون فما وجه العالم/ ولقد كان الخلف الصّالح والسّيف العادل / والحاكم ونهار يسير من القصر إلى السّوق على / فرس أبجر كان الجمهور يصيح ليحيا هارون " ( المقطع الرّابع / الأسطر 16-20 ) في توريّة لافتة يظهر على ظهر النّصّ هارون بينما المقصود هو " بورقيبة " الذي يستقبله الجمهور ب" يحبا بورقيبة " ويردّ أبو نوّاس داخل النّصّ: " ما كان يصيح سوى تجّار السّوق / والمحترف مغازلة البوق/ وخليفتنا لم يفتح شبرا من أرض اللّه ولكن / الفاتح جيش الفقراء " ( المقطع الرّابع الأسطر 22-25 ) في إشارة تلميحيّة إلى أنّ المجاهد الأكبر هو الشّعب وليس " بورقيبة ".

في الملامح السّيميائيّة / الثّقافيّة للرّوافد و الآفاق

" عربيّ فاجأني يوما غيفارا " ( المقطع الخامس / السّطر الأوّل ) يتّخذ الشّاعر غيفارا رمزا للثّورة في العالم الأرحب حيث يرى الشّمس يغرّد، يراه عصفورا شمسيّ المولد، " غيفارا عصفور كسّر بيضته ومدّ جناحيه نحو الشّمس، " ( المقطع الخامس / السّطر السّادس ) والشّمس هي الثّورة في الدّيوان " أقسمت على انتصار الشّمس " الذي يضمّ هذه الحفريّات، ويكرّر الشّاعر " غيفارا عصفور " في مطلع سبعة أسطر وفي ذلك تأكيد على الصّورة المشكّلة ( تشبيه بليغ )، يشبّه الشّاعر غيفارا بالعصفور لأنّه محبّ للطيران والانتقال من مكان إلى آخر باتّجاه الشّمس، " غيفارا علّمني ذات مساء: / " كن عربيّا فيما تشعر / كن عربيّا فيما تكتب / لكن لا تنس بأنّ العالم أرحب / لا تنس بأنّ العالم أرحب ااا " ( المقطع الخامس / الأسطر 14-18 ) الشّاعر يتّخذ غيفارا معلّما، رمزا للوطنيّة يطلب منه أن يكون عربيّا ورمزا للكونيّة يذكّره بأنّ العالم أرحب. ولتعلّقه الكبير بغيفارا يرى نفسه مثله عصفورا إذ يقول في السّطر الأوّل من المقطع السّابع: " عربيّ روحي عصفور يرحل كلّ مساء فوق المدن العربيّة " يمرّ بمصر فلا يجد النّيل لكنّ " كويفير " مازال هناك، ويمرّ بمكّة ويحطّ على الكعبة جوعانا فلا يجد قمحا، لأنّ شيوخ قريش صاروا مهتمّين بالنّفط، وبمحطّات البثّ بالألوان. في التقاط لتفاصيل ذات علاقة بالأوضاع في مصر ومكّة يشكّل الشّاعر صورا رمزيّة مليئة بالدّلالات. ويختم اللّوحة بتأكيد التّشبيه " عربيّ روحي عصفور حين يجيء اللّيل يحطّ على أرض اليمن " ( المقطع السّابع / السّطر 15 ) في إشارة إلى ثورة " ظفار " المدعومة من اليمن الإشتراكي، الذي يسير على خطى غيفارا و هوشي منه ولوممبا وآخرين من ثوّار العالم. " عربيّ يتلاقى في روحي كلّ الثّوّار فينتسبون لعائلة واحدة / ويجيرون جميع الغرباء / يتوحّد هوشي منه مع اللّه.. / والحلاّج يوحّد لغما والجبّة تحت لباس فدائيّ / يرقص لوممبا في الجبّة أحلى الرّقصات الإفريقيّة .. / ويصلّي غيفارا في الصّحراء صلاة الاستسقاء اا " ( المقطع السّادس كاملا ) في هذه الصّورة الرّمزيّة المركّبة يتوحّد التّراث ( الحلاّج ) بالرّموز القاريّة الجنوبيّة غيفارا ( الارجنتين / أمريكا الجنوبيّة ) لوممبا ( الزّايير / إفريقيا ) وهوشي منه ( فيتنام / حنوب شرق آسيا ) وثلاثتهم رموز كونيّة، ويتوحّدون مع اللّه ذلك العصفور الذي أشار إليه الحلاّج أعلاه، ويتوحّد الشّاعر بهم جميعا وتصير روحه ذاك العصفور. وإذ يعتبر الشّاعر روحه عصفورا فإنّه يوظّف تناصّا مع " ونريّات " مظفّر النّوّاب الذي يقول: " السّجن به قفص ويضمّ بقيّة عصفور تلكم روحي ... "



في الملامح السّيميائيّة / الثّقافيّة لآثار الانكسار

يكتب الشّاعر حفريّاته في زمن الانكسار الكبير، زمن التّوسّع الصّهيوني بعد حرب جوان 1967، زمن " أيلول الأسود بالأردن " وزمن الحرب الأهليّة بلبنان، والتّورّط العربي في ذبح الفلسطينيّين، إنّه انكسار الحلم حسب ما جاء في الحفريّات: " كان نهار فيه الأحلام نمت والشّمس تعاكس كلّ / الأشجار وتسبح وسط الأنهار وكان هناك فَرَسَانِ / أصيلان: دمشق وبيروت / كان ويا ما كان ولكن هذا زمن تصفرّ به الشّمس خجلا / والأحلام تموت " ( المقطع الثّامن / الأسطر 13-17 )، يشير الشّاعر إلى الأحلام التي نمت مع الثّورة الفلسطينيّة، ومع أكتوبر 1973، ولكن الانكسار أجهض تلك الأحلام " أبكيك دمشق بدم كلّ شهيد في لبنان المذبوح / أبكيك دمشق بحبّ الإخلاص لأكتوبر حين وقفت / معاندة رأسك في وجه الرّيح / هذا عصر مسيرات التّقتيل وعصر الحملات الحملة / إثر الحملة / هذا عصر الذّبح الوحشيّ وبالجملة " يحفر الشّاعر عميقا في الجرح العربيّ، دمشق تذبح لبنان، تلّ الزّعتر مذبحة فضيعة، كان درويش قد كتب عنها رائعته " أحمد الزّعتر " وكتب عنها مظفّر النّوّاب إحدى مطوّلاته " تلّ الزّعتر " يقول الشّاعر في حفريّاته: " عربيّ عربيّ أشهد بالصّفعة أحملها كلّ صباح / من نشرات الأخبار / عربيّ عربيّ أشهد بالخجل المرّ يحاصرني من شكّ / في بعض رجولتنا من رؤية سوّاح غرباء ألقاهم / كلّ مساء في عشّ المحبوبة حين أعود إلى الدّار / عربي عربيّ عربيّ / أشهد أشهد أشهد / بالعار ااا " ( المقطع العاشر / الأسطر كاملة ). يتناصّ الشّاعر مرّة أخرى مع مظفّر النّوّاب في وتريّاته اللّيليّة حين يصرخ: " القدس عروس عروبتكم ... أولاد ... كيف تركتم زناة اللّيل ... " و يغرق الشّاعر في المقطع الحادي عشر في الحلم الجميل بمجيء الثّورة وبانتصارها، وإذ يحفر في جسد عربيّ يحلم، يقول في حفريّاته: " يا كلّ نجوم سماوات الكون أضيئي / ما عدت بعيدة / وأضيئي يا كلّ كواكبنا في الأرض .. " ( المقطع الحادي عشر / الأسطر 2-4 ).. يحلم الشّاعر بالثّورة ويبشّر بها، يلمّح إليها دون ذكرها مباشرة في أفق الكتابة الرّمزيّة التي احتفى بها في حفريّاته، هي النّجوم تتلألأ في سماوات الكون تضيء العالم وهي الكواكب تضيء الأرض وهي المعشوقة تأتي دون ميعاد، يقول الشّاعر: " آه يا معشوقة هذا الزّمن المرّ خذي بيدي ما زلت صغيرا " ( المقطع الحادي عشر / السّطر الخامس عشر ) هكذا تصير الثّورة هي هي المعشوقة ويصير الشّاعر عاشقا مرهف الإحساس يحبو صوب معشوقته بوصلته جوعه للأفراح، وحبّه للأطفال، وانتماؤه للإنسان / الإنسانيّة، " زادي جوعي للأفراح وحبّي للأطفال ولقبي إنسان " ( السّطر السّابع عشر ) ويختم الشّاعر هذا المقطع قائلا: " آه يا منقذة النّفط من السّرّاق ومنقذة الصّحراء / آه يا منقذة الفقراء / أشهد أنّك آتية ذات ربيع أو ذات شتاء / أشهد أنّك آتية ذات صباح أو ذات مساء / وسيكنس نورك وجه الأرض الشّرقيّة / وتكونين لنا منّا والجنسيّة عربيّة اا " ( الأسطر 18-23 )، يؤمن الشّاعر بالثّورة وينتظر مجيئها ذات ربيع أو ذات شتاء، ذات صباح أو ذات مساء، ويؤمن بأنّها ستكنس بنورها وجه الأرض الشّرقيّة، فالثّورة نور يكنس الظّلام، هذا الذي يغشّي وجه الأرض الشّرقيّة، هناك حيث الذّبح باسم القوميّة وباسم الوطنيّة، وهناك حيث تجثم الصّهيونيّة وتتوسّع بتواطؤ مفضوح من أنظمة حكم عربيّة.

في الملامح السّيميائيّة / الثّقافيّة لمحطّ رحال الحفريّات

يبدأ المقطع الثّاني عشر/ الأخير بعبارة " عربيّ " مثل كلّ المقاطع باستثناء المقطع الأوّل، وينتهي بعبارة " لكن العالم أرحب مثل المقطع الأوّل والمقطع الخامس مع إضافة لآ تنس إذ الكلام يرد على لسان " غيفارا " ( لاتنس بأنّ العالم أرحب )، التّأكيد على الانتساب العربيّ له دلالاته في زمن شهد الهزائم والانكسارات. وخلّف المرارة والإحباط، يؤكّد الشّاعر ذلك فيقول: " عربيّ من رأسي حتّى القدمين / ... عربيّ أحمل قمحا وحماما وسلالا من أشعار الحبّ / وبحرا في كفّي / ... عربيّ أحمل في جسدي جوع عصور أحمل عطش قرون / ... وأنا أبقى عربيّا في ما أشعر / عربيّا في ما أكتب / وأعانق وجه العالم كلّ صباح يكبر حضني أكثر / فالعالم أرحب / العالم أرحب / العالم أرحب اا " ( المقطع الأخير / ... ) في حفر أنتروبولوجيّ في علاقة الأنا بالآخر، يؤكّد الشّاعر انتماءه العربيّ بحماس كبير، يحفر في التّاريخ، فيذكر آثار سنابك الخيل، ويذكر آثار الجوع في الجسد وآثار العطش فيه، ويعلن بقاءه عربيّا في تفاصيل الشّعور و الكتابة، ولا ينس مثلما طلب منه غيفارا في مجاز الحفريّات أنّ العالم أرحب، حيث البعد الإنساني الذي ينفتح الشّاعر من خلاله على البشريّة جمعاء.

على سبيل الخاتمة

" حفريّات في جسد عربي " نصّ شعريّ مطوّل يمكن اعتباره ديوانا مستقلاّ بذاته. هي حفريّات في أصول الجسد العربيّ الذي هو هو جسد الشّاعر، حفر في التّراث العربيّ البعيد، حفر لتحديد ملامح الانتساب، الجدّ، الأب، و الصّديق. أبو ذرّ و الحلاّج و أبو نوّاس، للانتساب يختار الشّاعر شخصيّات مقصاةً ومهمّشةً ومنبوذةَ، لكنّها كانت ذات حضور لافت سواء تعلّق الأمر بأبي ذرّ بين الصّحابة و الحلاّج بين أقطاب الصّوفيّة أو بأبي نوّاس بين شعراء زمانه. حفر الشّاعر عمقيّا في التّراث العربيّ، ولم يكتف بذلك بل أصرّ على فتح الآفاق نحو رموز عالميّة غير عربيّة مثل غيفارا و هوشي منه و لومومبا. بأسلوب لغويّ يحتفي بالمعجم الواسع الانتشار دون اللّجوء إلى المعجم القديم، وبتراكيب واضحة يتراوح فيها الخبري والإنشائي في احتفاء بالحوار التّخييلي وتعدّد الأصوات وفي إيقاع مناسب للحفريّات وطقوسها ومناخاتها. وبتشكيل فنّيّ لصور رمزيّة بالأساس ترك الشّاعر نصّا جميلا يمكن اعتباره نموذجا للشّعريّة التّونسيّة أواخر السّبعينات من القرن الماضي، كما يمكن اعتباره إيقونة الشّاعر البارزة التي تتمثّل في لوحة تشكيليّة له رسمها بالكلمات ( بورتريه ) كما يمكن اعتبارها منحوتته النّادرة التي نحتها بنفسه، إنّ " حفريّات في جسد عربي " هي الأحفورة الثّمينة التي عثر عليه الشّاعر وتركها لنا، هي مقام خلوده في ملكوت المجاز الشّعريّ في رحم اللّغة، أليست اللّغة هي بيت الكينونة حسب هايدغر؟ إنّ القصيدة " حفريّات في جسد عربي " تستدعي لأهمّيّتها المزيد من القراءة والتّحليل والنّقد للاستفادة منها والإفادة بها.


بوراوي بعرون

عضو اتحاد الكتّاب التّونسيّين

شاعر و ناقد

27 views0 comments

Comentarios

Obtuvo 0 de 5 estrellas.
Aún no hay calificaciones

Agrega una calificación
bottom of page