لقد أمسكوا به مجددًا اليوم، ذلك الوغد الأبله، وأفسدوا هيئته بطريقة مهينة جدًا، فأمسكه اثنان من رجال الأمن ذوا الشعر المصفف كذيل الحصان والأقراط فى آذانهما، بينما ضربه أربعة آخرون. كان ذلك بجوار أحواض السفن بمدينة «بيراما». قام العمال ببعض الاحتجاجات لأن اثنين من الرجال لقيا حتفهما على متن قارب للوقود، ثم هبط هو وبدأ يصيح بشعارات ويكتب عبارات مسيئة على الجدران.
مَن يعرف ماذا قال فى صراخه أو ماذا كتب على الجدران. وما الذى اعتقد أنه يفعله هناك بمطارق الهدم وتلك المنظفات؟ الوغد الأبله.
يمكننى أن أفهم إذا كان ينتمى لبعض المتشددين فى الحزب أم لا، فإنهم يجتمعون معًا ويبحثون عن مصالحهم، فهم يعرفون الحيل. لكن لا، إن أحمقنا الصغير يسير فى طريقه إلى كل مظاهرة ومسيرة تحدث فى المدينة، أما أنا، فلا بد أن أركض بعدها بين المستشفيات ورجال الشرطة لألتقط أى معلومة عنه. لقد ترك وظيفته أيضًا، ولم يطأ قدمه المنزل منذ شهر. ماذا يأكل، أين ينام؟ ماذا يفعل من أجل المال؟ وغد، وغد أحمق. لقد سبَّب لنا جميعًا أزمات قلبية. الوغد الغبى.
قلت له ذات مرة عبر التليفون:
- أيها الأحمق الغبى، إنه الخطأ نفسه فى كل مرة، ألا تتعلم أبدًا؟ مَن تعتقد أن تكون أيها الأبله المدلل؟
فرد عليَّ قائلًا:
- «أيها الجندى الشجاع، أيها الجندى الشجاع، مَن يستطيع إنقاذك من الموت؟»
ذلك الاقتباس من كتاب «الجندى الصفيح» لـ«هانس كريستيان أندرسون». أتتذكره؟
لذا ها أنا هنا أتسابق للوصول إلى «بيراما» فى منتصف الليل لإخراجه على الرغم من أن آخر مرة أخرجته أقسمت فيها على أنها المرة الأخيرة. اتصلت بالقائد، وأخبرته مَن أنا. فقال:
- تعالَ وخذه، وأخبره إذا ما استمر فيما يفعله، فسينال ما يستحقه.
أخبرته أنه تعرض للضرب المبرح ونُقل إلى المستشفى. فقال:
- إن مَن فعل ذلك ليس أحدًا منا يا سيدى، إن هؤلاء الرجال دائمًا ما يضربون بعضهم بعضًا، فالأناركيون هؤلاء يتعذر علينا تقويمهم.
ماذا يمكنك أن تقول لأحمق مثل هذا؟ أغلقت فمى، وشكرته، ثم انتهينا من الحديث.
مرورًا بـ»كوكينيا» (المعروفة الآن بـ»نيقية») و»كيراتسيني» و»أمفيالي»، قدت سيارتى بأبواب ونوافذ مغلقة. فقد وُلدت وترعرعت فى هذا الجزء من المدينة، لكن عندما غادرت، لم أنظر خلفى أبدًا. وحتى الآن عندما أمر بها، أعبر بأسرع ما أستطيع وعيناى منصبتان على الطريق. وُلدت ونشأت هنا، لكننى لا أريد أن أتذكر أشياء من الماضى، فهى جروح قديمة، وإذا قمت بخدشها، فإنها تبدأ فى النزيف وتصاب بالتهاب ورائحة كريهة.
والآن أمر بشارع «بيتروس راليز» ومدينة «لاوديكيا» وجزيرة «سالاميس»، فوضعت قدمى على محرك البنزين، وتوالت الذكريات على رأسى من كل ركن تغمز لى وكأنها «سيرانة»، تلك الأسطورة اليونانية التى أغوت «الأوديسة»، تشير إليَّ كى أوقف السيارة. فأتذكر قبلة، سيجارة فى المطر، صديقًا عانقته فى حالة سكر فى وقت متأخر من الليل.
والدى. ربما يكون قد عمل طوال حياته فى «بيراما» على متن هذه القوارب الرائعة، ولكنه شاركنى ذكرى أو اثنتين هنا. فاعتدنا سماعه ونحن صغار وهو يقول إن الذكريات مثل الظفر المغروس باللحم، يمكنك تقليمه لكن لا يمكنك انتزاعه.
إلا إذا كنت تريد البقاء بقيد الحياة. والدى، الذى تُوفى فى الثانية والخمسين من عمره نتيجة الأبخرة الناتجة عن مخزن السفينة. والدى، ذكرى أخرى بمثابة ظفر مغروس باللحم حتى أصبح لونه أسود قاتمًا.
عندما مررت بـ»كوكينيا» و»كيراتسيني» و»أمفيالي»، وضعت قدمى على البنزين وقدت بسرعة لأنه سبق وأن راودنى حُلم سيئ تسبب فى قلقى واضطرابى. حلمت أن كلانا فى هذا المكان ويفصل بيننا لوحٌ زجاجى كبير، وكان أبى يقف وراء ذلك اللوح ضاغطًا كفيه على الزجاج محاولًا أن يحدثنى ولكننى لم أستطع سماع ما يقوله. استطعت أن أراه يصرخ فقط، كما رأيت بصمات يديه على الزجاج وحاولت أن أجد بعض الثغرات فى مكان ما حيث يمكننى العبور منها، ولكننى لم أجد شيئًا.
ثم أخرج بخاخ الطلاء وبدأ الكتابة على الزجاج، لكننى لم أتمكن من قراءة الحروف وصرخت أننى لا أستطيع قراءة ما يكتبه، لكنه لم يسمعنى أيضًا، لذا استمر فى تغطية الزجاج بأحرف سوداء لم أتمكن من قراءتها.
وبعد ذلك، نظرنا إلى بعضنا بعضًا من خلال الزجاج وتوقف عن الكتابة، وتوقف عن الكلام وحدق بى فقط ويداه بجواره وعيناه ممتلئتان بحزن لا يمكننى وصفه. ثم خلعت قميصى ولففته حول يدى وبدأت بضرب الزجاج محاولًا كسره.
ولكن الأمر كان أشبه بضرب حائط خرسانى. ثم رأيت قميصى يتحول للون الأحمر وبدأت فى الصراخ. وهكذا استيقظت وأنا أصرخ وأقبض على مفرش السرير بقبضة يديَّ وكدت أسقط على الأرض.
لا أحد يعرف ماذا قال فى أثناء صراخه أو ماذا كتب على الزجاج.
هذا «الطفل» بمثابة الأزمة القلبية. سواء أكان يقظًا أو نائمًا.
مرورًا بـ»كوكينيا» (المعروفة الآن بـ»نيقية») و»كيراتسيني» و»أمفيالي»، وضعت قدمى على محرك البنزين بقوة، ووجهت عينيَّ صوب الطريق. وعلى مقربة من «سالاميس»، كانت لا بد وأن تمطر، فالبرق لم يكُف عن الوميض فى السماء.
وتوالت على رأسى الأفكار بأنهم قد أفسدوا هيئته بقسوة هذه المرة، فالبنسبة لمواصلة اعتقاده فى «هانز كريستيان أندرسون» و»جندى الصفيح»، فأنا على يقين بأنهما تسببا له فى كسور شديدة وربما قد هشموا رأسه أيضًا.
بدأ جسدى يرتعش ولن تصدق اهتزاز قدمى على محرك البنزين. أخذت السيارة تقفز إلى الأمام فى وثبات خفيفة وكأنها انتابها الفواق. ففكرت بأن أوقف السيارة لدقيقة لأهدأ وألتقط أنفاسى، ولكننى أعلم أننى تأخرت بالفعل وأخشى ما قد يحدث إذا تأخرت أكثر.
عند إشارة المرور، رأيت بزاوية عينيَّ كلبًا أعرج يقفز من على الرصيف. تذكرت اليوم الذى دفنَّا فيه والدنا، وكيف عندما وصلنا إلى المنزل أجلسنى أنا وأمى على الأريكة وأحاطنا بذراعيه وقال:
- إذا كانت الكلاب تتكيف لتعيش بثلاثة أرجل فيجب علينا أن نتكيف لنعيش معًا نحن الثلاثة فقط.
طفل يبلغ من العمر أحد عشر أو اثنى عشر عامًا، فتى صغير، من أين له أن يتحدث بهذه الطريقة؟
ولو كانت قبلات أمى فى هذه الليلة دموعًا، لأغرقت الكرة الأرضية كلها، ولكنه كان على حق. ففى النهاية، تعلمنا أن نعيش مثل كلب بثلاثة أرجل ومن وقتها، اعتادت أمى أن تقول لي:
- احرص، واعتنِ بنفسك أيها المسكين. واعتنِ بذلك الصبى، فيمكن للكلب أن يعيش بثلاثة أرجل، ولكن ليس بساقين. اعتنِ بنفسك.
إنه ينتظرنى خارج المحطة. يمكننى رؤيته عن بُعد، ولكن عندما اقتربت منه، لم أتمكن من التعرُّف عليه. كان رأسه مثل حذاء جندى قديم، ممتلئًا بالخدوش والكدمات والتكتلات. جبهته عليها ضمادة، وشفتاه متورمتان، وكم قميصه ممزق بطول ذراعه. صعد إلى السيارة وجلس بهدوء، دون أن ينطق بكلمة أو ينظر إليَّ.
وبينما كنت أحدق فى شفتيه المتورمتين، تذكَّرت. فكل ما أفعله هذه الأيام هو التذكُّر. أتذكر منذ سنوات عندما أخذته إلى طبيبة الأسنان وخرج بعد موعده وكانت شفتاه متورمتين، تمامًا مثل الآن وقلت له:
- ماذا حدث؟ هل ظللت تُقبِّلها طوال ذلك الوقت؟
لم يستطع التحدث حينها، لكنه ابتسم، فشعرت بالحزن والمرارة لرؤيته يبتسم بتلك الشفاه المتورمة. واليوم شعرت بالشعور ذاته لرؤيته ممتلئًا بالكدمات وملفوفًا بالضمادات وملابسه ممزقة. قلت لنفسي: «لو كانت لديَّ الشجاعة، لدمرت كل شيء، المحطة، وأحواض السفن فى «بيراما»، و»نيقية» و»أمفيالي» أيضًا، كنت سأمحوهم من على الخريطة تمامًا».
أعطيته سيجارة، فقد أخبرنى أنهم أخذوا سجائره وهم يفتشون عن المخدرات. جلسنا فى السيارة ندخن والنوافذ نصف مفتوحة، ثم أخذ المطر يتساقط ونحن نشاهده ينهمر على الزجاج الأمامى للسيارة. ثم قلت له:
- إنها المرة الأخيرة. انتهت اللعبة. أتسمعني؟ المرة الأخيرة.
- حسنًا. سمعت.. حسنًا.
بدا صوته عميقًا ومكتومًا، وكأن هنالك شيئًا محشورًا فى فمه. ثم فتح النافذة وألقى بعقب سيجارته ثم نظر لسماء «سالاميس» ليشاهد البرق الذى يومض بشدة. يبدو أنه لم يحلق منذ فترة وكانت رائحة العرق تنبعث منه وشعره كالباروكة المجعدة.
حدثت نفسى قائلًا: «انظر لذلك. إنه يمثل الرجل الثالثة للكلب. باستثناء أن العائلات ليس لها أرجل، فهى ليست كلابًا. لا أعلم ما هويتهم، ربما ثعابين؟ لكنهم ليسوا كلابًا.
نظر إلى أكمامه الممزقة، وحاول إصلاحها بشكل أو بآخر، ولكنه فشل فاستسلم. ثم قال لي:
- دعنا نغادر من هنا. أريد أن أريك شيئًا.
فشغَّلت السيارة وبدأت فى القيادة. لم تتوقف مسَّاحات الزجاج الأمامى، لكنها لم تتمكن من مواجهة هذا السيل المتدفق من الأمطار. انتقلنا لدرب آخر واتخذت الجانب الأيمن وكنا نسير فوق برك من المياه السوداء، فأخذت ألعن الساعة واليوم. ثم تذكرت كلمات أمي:
«اعتنِ بنفسك، واعتنِ بالصبى، فلا يوجد كلب يعيش بساقين فقط».
وفجأة، أدركت أنه ليس لديَّ أى فكرة عن وجهتنا المقبلة، فلا يوجد مكان فى هذا العالم نذهب إليه، ثم باغتتنى تلك الرعشات مرة أخرى وأنا لا حيلة لى.
أخبرنى أن أوقف السيارة. ثم أخذ يرشدنى لمكان ما:
- هنا. ابتعد قليلًا. هنا.
توقفت وقدماى ترتعشان على الفرامل. ففتح النافذة وأشار إلى شيء ما:
- انظر إلى ذلك. فعلته بنفسى. ما رأيك؟
وعلى جدار مرتفع، وجدت لوحة لجندى من الطراز القديم يرتدى بنطالًا أزرق ومعطفًا أحمر. يفقد إحدى ساقيه. ولديه حزام أصفر وقبعة سوداء كبيرة ويحمل بندقية سوداء على كتفه.
ثم ترجَّل من السيارة وذهب ناحية الجدار ونظر للجندى وأشار إليه. ابتلت ملابسه وأصبحت الضمادات مهترئة وأوشكت مغادرة جبهته.
قلت له:
- حسنًا يا «بيكاسو». إنها رائعة. اركب السيارة سنغادر الآن.
فقال:
- إنه الجندى الصفيح. أتذكر كيف كانوا يروونها لنا عندما كنا صغارًا؟
كانت تلك هى القصة الخيالية الوحيدة التى يعرفها، وربَّانا عليها.
- أتتذكر؟ أتتذكر كيف كان صوته حزينًا؟ أيها الجندى الشجاع، مَن يستطيع أن يخلصك من الموت؟ هل تتذكر كيف كان صوته ينكسر فى الجزء الذى يقف فيه حول راقصة الباليه على ساق واحدة؟ وظن الجندى أنها فقدت إحدى ساقيها مثله، ووقع فى حبها.
أحب هذا الجندى راقصة الباليه كثيرًا يا له من أمر فظيع أن تريد شيئًا بشدة ولا تكون قادرًا على الحصول عليه! أتتذكر؟ هل تتذكر الجزء الذى وجد فيه الجندى الصفيح راقصة الباليه مرة أخرى وشعر وكأنه يبكى دموعًا من الصفيح، ولكنه منع نفسه من البكاء لأنه جندى والجنود لا يبكون؟ وبهذه الطريقة بقى حتى النهاية، صلبًا قويًا صامتًا يتطلع إلى الأمام مباشرة بمسدسه على كتفه. حتى النهاية. حتى أذابته النار، أذابت كل شيء ما عدا قلبه الصغير المصنوع من الصفيح. وحتى ذلك الحين، بقى صامدًا وقويًا وبندقيته على كتفه. أتتذكر؟ أتتذكر؟
أصبحت ملابسه مبتلة جدًا. فكأنما كل سُم من مسام جسده بمثابة عين تدمع بغزارة. واشتد المطر أكثر فأكثر.
إنها تمطر بقسوة وكأنها عقاب. ولم يكف الوميض فى السماء. يبدو وكأن هناك حربًا فى الأعلى: ضوءًا يحارب الظلام. حرب، فكأن الضوء يغزو العالم وشخصًا آخر يقاتل لإيقافه، لإغلاق جميع الشقوق التى يمكنه أن يتخللها، لإغراق العالم فى الظلام.
قدمى مُثبتة على المحرك. صرخت قائلًا:
- عُد إلى السيارة، سأرحل الآن! عُد يا رجل!
حدق فى وجهى وعلى شفتيه ابتسامة متورمة ثم وضع ذراعيه بجانبه ورفع ساقه اليسرى وقفز ليتوازن ثم وقف متماسكًا وذراعاه لا تزالان مثبتتين بجانبيه، لا تزالان تحدقان بعيدًا فى الظلام.
- خلال ألف عام..هكذا سمعته يقول.
- فى غضون ألف عام، إذا كان العالم لا يزال موجودًا، ربما تصبح الأشياء التى تحدث الآن قصصًا خيالية. وسيخبر الآباء أطفالهم بقصص عن أشخاص غريبين عاشوا وماتوا مقابل حفنة من النقود وسيستمع الأطفال بأفواه مفتوحة وستبدو كل هذه الأشياء سحرية وغير واقعية.
بعد ألف عام. مَن يعرف؟ ربما سيكون العمال والفقراء اليوم هم جنود الصفيح فى الألفية القادمة، أو مخلوقات التنين والسحرة. إذا كان العالم لا يزال موجودًا. وإذا كان الناس لا يزالون يحكون القصص الخيالية. مَن يعرف؟
صرخت فيه مجددًا وأنا أضرب بوق السيارة بعنف ليسمعنى، وكانت قدمى ترتعش وكأنها ليست قدمى، بل قدم غريب آخر:
- اصعد للسيارة. عُد الآن، عُد!
لكنه يقف هناك ثابتًا لا يزال على ساق واحدة أمام الجندى ذى الساق الواحدة المرسوم على الحائط، ينظر إلى الظلام بعينين واسعتين مفتوحتين تحدقان فى الظلام مع هطول المطر، المطر الرمادى الغزير مثل الصفيح، كان سقوط قطرات المطر عليه مثل الرصاص المتساقط من الحرب التى تدور فى السماء، تلك الحرب بين الظلام والضوء، ويقف هناك ساكنًا لا يزال يحدق فى الظلام وعيناه مفتوحتان.
ذلك هو أخى، الجندى الصفيح.لا يتحرك، لا يتحدث، غير مسلح.
سحرى وغير واقعى، مخلوق لأحداث القصص الخيالية فى الألفية القادمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة قصص «شيئ ما سيحدث»..
* نشرت في أخبار الأدب المصرية 30 يناير 2022
Comments