طرح المثقفون الفرنسيون بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية سؤالاً جوهرياً : كيف نتعامل مع الذين تعاونوا مع النازية؟ . ظهرت مدونات كثيرة تحاول الإجابة عن هذا السؤال، ولعل رواية سيمون دو بوفار " المثقفون" التي أرخّت لمرحلة ما بعد التحرير، كان عليها الإجابة عن أسئلة أكثر أهمية حول مفهوم الأخلاق باعتبارها فلسفة وفن العيش. فإن كانت الأخلاق في هذه الحالة تتخذ بعداً سياسياً، فهي بالضرورة تهمل اللحظة التي تتعلق بالأفراد ومصائرهم، وهي التي دارت حولها كل ديباجات الأدب والفكر والفلسفة في ذلك الوقت.
أبرز صنّاع الثقافة وفي مقدمتهم سارتر وكامو ودو بوفار نفسها كانوا دعاة أخلاق، ولكنهم متورطون في السياسية، إذن كيف خرجوا من هذه الورطة؟
يقول أحد أبطال رواية " المثقفون" : من الناحية السياسية ومن وجهة نظر مجردة، كل من تعامل مع الألمان نذل ويجب البصاق في وجهه، ما من مشكلة، ولكن الآن، إذا رأيت متعاوناً عن كثب تشعر أن الأمر مختلف.
من بين صفوف المثقفين الفرنسيين،أو العاملين معهم في الصحافة، كما تخبرنا الرواية، انبثقت فرقة اغتيالات، كانت مهمتها تصفية الوشاة الذين لم تطلهم العدالة بعد هزيمة الجيش النازي، وبخاصة أولئك الذين اشتركوا مع الألمان في التعذيب والقتل. في وقت كان سارتر وسيمون دو بوفار وكامو والكثير من أدباء اليسار يواجهون مشكلة من نوع جديد، وتتعلق بموقفهم من جرائم ستالين وحليفة فرنسا الجديدة، أميركا الداعمة للنظم الدكتاتورية في أميركا اللاتينية وسواها.
كانت مهمة عسيرة أن ينزل الأديب والمفكر أو الفيلسوف نهر السياسية ويخشى البلل، فالفكر لا يصلح دائما قفازاً للملاكمة، كما هو حال السياسية، ولكن الالتزام في الثقافة، الذي جعل منه سارتر ناظماً لمسيرة كل كاتب، غدا سمة عصر ثقافي بأكمله.
لم يمثل التزام سارتر في أدبياته وفي عمق مضامينه، الثبات تحت شعار سياسي، بل كان بحثاً في مفاهيم مثل الحرية والمسؤولية، حرية المناضل والجلاد، حرية الحاكم والمحكوم، حرية الإنسان في عزلته، وقدرته على مجابهة مصيره. وعندما عُرضت مسرحية " الذباب" لسارتر خلال فترة الاحتلال النازي، لم يقم لها النازيون كبير وزن، مع أنها تدين النازية وتدين كل أوغاد عصرها، لأن مضمونها الفلسفي لا يبدو قريب المنال.
كل المسرحيات والروايات الفكرية التي قدمها سارتر وكامو لاحقاً كانت تنطوي على سؤال القدر والمصير، وبينها " الباب المغلق" و"كاليغولا".
الإنسان العبثي صاحب صخرة سيزيف، عند كامو شكّل الوجه الآخر لمدرسة الالتزام عند سارتر، وإن على نحو بدا وكأنه على الضفة الأخرى منها. فعلى رغم اختلاف كامو سياسياً مع سارتر حول قضايا كثيرة وبينها الموقف من الاتحاد السوفيتي والجزائر والشيوعية ونقابات العمال، غير أن المشترك بينهما كان يمضي باتجاه معرفة الإنسان، الذات القصية التي تكمن خلف مظهرها وأخلاقها نوازع شتى، تتضمن الخير والشر، الجمال والقبح ، المعرفة والجهل، وغيرها الكثير الذي يتجاوز الثنائيات المتضادة، فالإنسان كائن معقد، ولا يزعم الفكر او الفلسفة او الأدب او الفن القدرة على تقديم صورة متكاملة عنه ، لعل الحيرة في فهم العقل البشري ونوازعه المتشابكة أفضت إلى الاسئلة الأكثر عمقا في انشغالات التفكير.
ولا نستطيع أن ننسب كتاب كامو "المقصلة" حول رفضه فكرة القصاص من المجرم بإعدامه، سوى دعوة للتسامح والغفران وحرمة الجسد البشري من الانتهاك. عارض كامو الإعدام حتى للقتلة، في وقت كانت رواية "الغريب" الذي يقتل البطل فيها جزائرياً خوفاً منه، أو بسبب شعوره بعبث الحياة وغربتها، تؤكد فلسفة اللاجدوى، وسوء التفاهم، أو التقاطع بين البشر، فنحن غرباء مع أنفسنا ومع الآخرين، هذا ما نحتاج أن نفهمه كما أراد أن يقول كامو في مسيرته الفكرية والأدبية القصيرة.
عندما نستذكر " المثقفون" رواية دو بوفار، تبرز أمامنا حقائق ثقافية راهنة في حياتنا المليئة بالعنف، فالثقافة العربية التي تنشغل بأمور السياسية، لا تملك القدرة على أن تقرأ العنف على نحو يخرجه من أطره السياسية، ويخرجها هي من أطرها المدرسية العتيقة. كيف للأديب أن يرسم بورترية للفتى الذاهب إلى الانتحار أو نحر الأعداء المجهولين، أو هذا الفقير " النكرة" الذي يحتاج الاعتراف به وهو يحمل السلاح عبر انخراطه بمليشيا القتل، هل هو قديس أم شيطان؟ هو سؤال من الخطل الإجابة عنه بخيارين دون سواهما. إنه سؤال فكري لم يحن وقت التمعن فيه بعيداً عن نتائج ما تقدمه لنا تقارير الشرطة وسدنة الأخلاق. إنه سؤال يتعلق اليوم بمفهوم الله والخلق وإعادته، سؤال الإيمان والإنكار، المسافة بين العقل والقلب، السماء والأرض، وفي صحارينا التي خلقت أصنامها وأكلتها، يبدو هذا السؤال نافلاً.
الأدباء العراقيون اليوم يواجهون قضية لم يًكتب عنها إلا القليل، بل هي تكاد في المجتمع الثقافي من المسكوت عنه، سوى كتب قليلة تبدو أقرب إلى تصفيات حساب فات أوانها. فالموقف الذي ينبغي أن يتخذه المثقف ولم يفعل، هو من الذين دبجوا النصوص مديحاً للحرب وتصعيداً للعنف، وتمسحاً بأذيال صدام، أو من أولئك الذين كانوا وشاة أودوا بحياة ومصائر رفاقهم في الدرب الثقافي. وقت هذا السؤال يبدو متأخرا، ونحن نرى مشعلي الحرائق الطائفية الذين يتسترون بلبوس ثقافية شتى على الضفتين الشيعية والسنية، وهم يجدون في أخوة العنف والعنف المضادة من يجعل منهم قديسين لا مدانين. ولعل وسائل الإتصال الحديثة وفي مقدمتها الفيس بوك تمنح فرصة لمحو التواريخ ووضع تواريخ مزيفة لأصحابها، وهذه علة بلد عانى من القحط الثقافي بسبب العنف الذي تمثل بحروب وحصار وهجرات واغتيالات .
سنجد المثقف العراقي بعد كل هذا الوقت، يحاول الاقتراب من جواب المثقفين الفرنسيين حول من تعاون مع سلطة قمعية مثل سلطة صدام : نحن لم نعد ننظر إليهم كما كنا في السابق، فهم سواء انتظموا في السلطة الثقافية الجديدة ومراكز إعلامها ، أم بقوا على مبعدة من النشاط الثقافي، أو تحولوا إلى حاملي لواء الوطنية العراقية ، فبمقدور المثقف اليوم أن يلتقيهم وينسى أو يتناسى تواريخهم، حتى وإن كان يدرك أن ليس في خاطرهم الاعتذار، فالاعتذار والاعتراف بالخطيئة ثقافة مجتمعية في الأساس، والعرب لايملكونها، وليس بمقدورهم إدراك أبعادها في ملامسة العمق الإنساني للفكر والفن.
ظهرت ادبيات عراقية تعاود الحديث عن الثقافة التي صنعت الدكتاتور والديكتاتورية، وتورد أسماء ونصوص المثقفين المشاركين في أعراس الحرب وتمجيد الطاغية وسلطة الاستبداد، وبعض تلك الكتب يتوخى الدرس الأكاديمي في مراجعته، وحتى النوايا الطيبة، ولكن هل النص الملوث وحده دليل على الخطيئة، أو أن تلك الكتابات التي تدين الآخرين تنجو هي نفسها من احتمالات سوء الفهم الأخلاقي؟
الكثير من تلك المدونات لا تستطيع أن تقارب تلك اللحظة الحساسة التي كتب فيها الأديب نصاً يمجد العنف أو الحرب، رعباً او انخطافاً أو إيماناً أو لمجرد كسب عيش.
لو ابتعدنا قليلا عن المشهد نجد أنفسنا في محكمة الأخلاق، وهي محكمة تستوعب النسق الذي تتشكل في ظله الأقوال، ولكن الواقع يقول لنا الكثير. فإن غدونا اليوم عالقين في لحظة العنف تلك، وغير قادرين على أن ننتج أدبيات تحاكي تراجيدياتها الكبرى، فان صمتنا عنها هو محض عيّ فكري، ينبغي أن نعترف به، أو نحاول ما حاوله المثقفون الفرنسيون وهو معرفة مصائر أبطالهم الأشرار والأخيار حين يتبادلون الأدوار على منصة مسرح أو تحت مقصلة إعدام.
يقول استراغون لفلادمير في مسرحية " انتظار غودو" : من أين جاءت هذه الجثث. فيجيبه صاحبه : هذا الحطام. لابد أننا فكرنا قليلاً، يقول فلاديمير، ثم يستأنف : وأسفر عن ذلك ركام الجثث.
Comments