top of page
Search
Writer's pictureasmourajaat2016

الباحث الأستاذ محمد الصادق عبد اللطيف زخرفة عن بعض أعمال الباحث التّاريخية والحضارية والتراثية


الباحث الأستاذ محمد الصادق عبد اللطيف

زخرفة عن بعض أعمال الباحث التّاريخية والحضارية والتراثية

المكان: اتحاد الكتاب التونسيين

18 جانفي 2019

الأستاذ محمد الصادق عبد اللطيف هو من مواليد 1936 من مدينة قليبية بولاية نابل درس في الجامعة الزيتونيّة وحاصل على مستوى شهادة العالمية في الأدب مع دراسة تخصّص بدار المعلّمين العليا اختصاص علم النّفس التّربوي ونشر إنتاجه في دول عربيّة مثل المغرب الجزائر ليبيا مصر تونس الأردن الكويت العراق الشارقة البحرين لندن ..

حامل وسام الاستحقاق التّربوي ووسام الشّغل ووسام الكوفة الذّهبي من بغداد في الخطّ العربي كما أنّه مساهم بتراجم في معجم البابطين للشعراء العرب الأموات...

للأستاذ رحلة أدبيّة حافلة وزاخرة بدأها بالمقالات والمحاضرات وبعض الدّراسات الأدبيّة المختلفة منها كذلك كتابة الخاطرة والقصيد العمودي والنثري و له عدة دراسات ومقالات منشورة في عدة مجلات فكرية وأدبية في الستينات والسبعينات طرح فيها قضايا اجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة وسياسيّة مختلفة وكان ذلك تزامنا مع مشواره المهني التربوي... إلا أنّ تعلّقه بالمعرفة و شغفه بالتّنقيب في التّراث والبحث في تاريخ جذوره وأصوله الدّينية والعربيّة والجغرافيّة جعله يواصل رحلته بعزم وثبات ليمرّ بمحطّات إبداعيّة متنوّعة بدايتها

إطلالة على تاريخ العهد الحسيني 1998

قليبية تروي قصّة التّاريخ 1999

واحة الفكر- ألوان ثقافيّة في الحضارة والتّاريخ والتّراث 2001

من تجليّات الخطّ العربيّ في تونس 2003

قليبية مدينة الجمال والآثار 2006

علي البلهوان زعيم الشّباب والمثقّف المثال (وزارة الصّحة 2013)

صفحات من تاريخ إفريقية 2016

عمدة الكتّاب وعدّة ذوي الألباب في صناعة الحبر والورق والكاغذ 2017

وآخر محطّة بلغها منذ سنتين تقريبا هي رحلة المصحف الشّريف إلى إفريقية 2017

إلى جانب مخطوطات عديدة بصدد الإنجاز...

هذه المحطّات العديدة وهذه الرّحلة المنمّقة المزخرفة ذات الوزن المعرفيّ الثّقيل كمّا وكيفا هي رحلة رغم صعوباتها و مشّاقها مترابطة ومتسلسلة فكلّ محطّة تفضي إلى أخرى ومع ذلك لم تنته ولم تكتمل فهناك محطّات أخرى في انتظار بلوغها وتلوّح للباحث ...

الأستاذ محمد الصّادق عبد اللطيف باحث في الحضارة وتاريخ التّراث وعلم الخطّ العربي هو مثال الرّجل المجدّ النّشيط، ثقوب، يعمل في صمت بكلّ ما لديه من جهود فهو يسعى كالمل الدّؤوب في مواسم جمع الحبوب... ورغم إنتاجاته الغزيرة في هذين العقدين الأخيرين هو مثال في التّواضع والتّسامح والتّعاون إلى أبعد حدّ...

وهو بدراساته وبحوثه المتواصلة هذه يفتح الأبواب ويشرّع النّوافذ ويكشف عن أسرار الدخول لعدّة بوادر وظواهر بحث فيها بتحريكه للأشياء وتسليط الأضواء عليها، فهو يتتبّع النّهر من منبعه إلى مصبه أو العكس يسير جنبه من المصبّ إلى المنبع في حركة دائريّة مستمرّة وما على بقيّة المفكّرين والباحثين ممّن يهمّهم الموضوع أن يتسلّموا منه المفاتيح ويواصلوا البحث بالغوص في المنبع أو بالارتماء في المصبّ فالطّريق قد صارت ممهّدة وإشارات المرور مرسومة والمراجع مذكورة...

الأديب محمد الصّادق عبد اللطيف لم يكتف بالبحث في مجال الأدب والشّعر أو بعض القضايا الثّقافيّة والاجتماعيّة في جهته بل وسّع مجالات اهتماماته إلى البحث في التّاريخ والآثار والعادات والتّقاليد والتّعريف ببعض الوجوه الأدبيّة والثقافيّة وحتّى السّياسيّة والدّينية من كامل افريقية كما عرّف بمخزون مدينته قليبية الثقافي والحضاري والتراثي ...

غير أنّ المجال الذي أولاه الحيز الأوفر من الاهتمام هو الخطّ العربيّ ورحلته عبر التّاريخ من المشرق إلى المغرب فتناول هذا الموضوع من عدّة جوانب بدقّة وإحكام خصوصا وأنّه عضو بجمعيّات الخطّاطين في بغداد والأردن وحامل وسام الاستحقاق التّربوي ووسام الشّغل ووسام الكوفة الذّهبي من بغداد في الخطّ العربي فقد تناول هذا الموضوع في انجازات خصّها له كما أشار له في فقرات وصفحات من عدة أعمال ألّفها ويتجلّى ذلك بوضوح في منجزه "صفحات من تاريخ افريقية" وكتاب "تجليّات الخطّ العربي في تونس" وكتاب "واحة الفكر" وكتاب "عمدة الكتّاب وعدّة ذوي الألباب" في صناعة الحبر والورق و الكاغذ ..

في هذه المؤلّفات تناول الأستاذ موضوع تطوّر أشكال الكتابة للخطّ العربي منذ نشأته ومع ظهور القرآن ثم في تونس إلى موفى القرن الخامس هجري وذلك باعتماد دراسة لأثر القرآن الكريم ورحلة المصحف الشريف إلى افريقية وتاريخ الحبر والورق والكاغذ في تطوير الخط العربي وتجويده وخصوصا ظهور الخطّ القيرواني وانفتاحه على بقيّة الحضارات المشرقيّة والمغربيّة من حيث أطواره التّاريخيّة وجماليّة الخطّ الكوفي القيرواني والتّعرّض إلى ذكر أنواع الخطوط التي كتبت بها المصاحف كما تطرّق إلى ذكر أسماء أصحاب المصاحف الأولى في المشرق وفي العهد القيرواني منها مصحف فضل ومصحف أم هلال والحاضنة في القرن الخامس هجري... وأشار أيضا إلى دور المرأة القيروانية ومساهمتها في تطوير الخط العربي الكوفي بتحسين المصاحف وتجويدها من خلال التّفنّن في كتابتها وزخرفتها وباختيار الحبر والألوان والورق والدّواة المناسبة..

اعتمد الأستاذ في بحوثه ودراساته لتطوّر الكتابات الخطيّة عدّة مراجع رسميّة بالعودة إلى الكتب و التّاريخ وتتبّع رحلة بداية ظهور الخطّ سواء تلك الكتابات المحفورة في الكهوف والمغاور أو النّقوش على الحجارة والأواني والآثار أو المصاحف المخطوطة الأولى والأبيات الشّعريّة المخطوطة على بعض القبور وفي بعض الزّوايا أو المعالم...

فمن خلالها يتابع الباحث مسيرة الخطّ العربي الذي يروي قصة الحياة الثّقافيّة والاجتماعية الرّاهنة في تلك العصور من خلال تنوعه واختلافه وملاحظة تطوره والطّرق التي اعتمدت في كتابته... فالخط إذن هو أوّل مساهم في الحفاظ على الأمانة المعرفيّة والأدبيّة والدّينية وبدراسته ينتبه الباحثون إلى مدى ازدهار تلك الحضارات والحقبات التاريخيّة أو ركودها...

فآثر الكتابة المتواجد على الآثار المرمريّة أو جدران المساجد و القباب دليل على أّهمية الخطّ والكتابة وازدهارها وإعطائها المنزلة الرّفيعة كيف لا وهو لغة الكتاب المقدّس ثمّ إنّ الكلمة تعتبر كائنا حيّا فالبحوث أثبتت أنها في تطوّر مستمرّ مع تطوّر الإنسان والحياة بالتّحسين والتّجديد والتّغيير وغياب البعض كما يعود ذلك أيضا إلى تلاحق وتلاقح الحضارات وانصهارها في بعضها البعض واختلاط الأجناس والتّبادل التّجاري وغيره...

بالتّالي العلاقة بين الخطّ والكلام وكتابة الشّعر و القرآن علاقة جدليّة متلازمة فلا يمكن دراسة علم الخط العربي وظهوره دون دراسة زمن كتابة المعلقات والمصاحف الشريفة وكذلك الشّأن في العلاقة بين الشّعر والقرآن فهذا الأخير مصدر وملهم يتغذى منه الشعراء ...

ورغم اختلاف الباحثين في مسألة ظهور الكتابة والخط العربي قبل أو بعد القرآن ومدى صحة الشعر الجاهلي وتدوينه فبعضها يقول أنّ الشّعراء كانوا يتناقلون قصائدهم وأشعارهم حفظا يلقونها في سوق عكاظ وهذا عرضة للنسيان والتحريف إذ لم تكن لديهم وسائل كتابة والجهل كان متفشّيا بينهم واللّغات كانت عديدة ومختلفة بحسب الجهات وهذا يؤدي إلى قراءات مختلفة للقصيد ومنهم من يقول أنّها كانت تكتب بالذّهب وتعلّق على جدران الكعبة وهذا أيضا معرّض للتّأويل إذ الخطّ وقتئذ خال من النقاط والحركات فهو أيضا عرضة للتّحريف فكلّ طائفة تقرؤها بطريقتها...

لكن بمجيء القرآن الكريم الذي من اهتماماته الأوّليّة نشر المعرفة والعلم والتعلّم إذ هو يدعو إلى النّهضة وقع الاهتمام بالخطّ والتّعلّم منذ عصر الرّسول محمد صلى الله عليه وسلم.. وخشية على القرآن من ضياعه واندثاره أو تحريفه وتدليسه لغايات قبليّة وطائفية و اختلاف اللّغات والمقصود به اللّهجات وقتذاك وقع الإجماع على تجميعه بداية من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وتواصل مع سيدنا عمر ابن الخطاب ثم سيّدنا عثمان ابن عفّان الذي دوّنه في ستّة مصاحف بخطّ عربيّ واعتمد في ذلك المصاحف الأولى التي جمعها من السيدة حفصة زوجة الرسول سيدنا محمد وابنة سيدنا عمر ابن الخطاب وحفظة القرآن الأمناء ويقال أنّه أحرق بقيّة كلّ النّسخ حتى لا يعتمد المسلمون غيرها ووقع إرسال واحدة إلى الأزهر وواحدة إلى اليمن واثنان منها إلى الكوفة والعراق... وإثر موجة من التّناقضات في القراءات للقرآن الكريم حسب الجهات والأمصار والقبائل واللّغات لأنّه كتب في بدايته دون نقاط ودون ضوابط وحركات وقع التّطرّق إلى ضرورة وضع نقاط وحركات وضوابط يقع الاتفاق عليها كي تكون القراءة للقرآن موحّدة وواحدة للجميع...

استمرت رحلة الخطّ العربي وكتابة المصاحف وتدوينها والتّفنّن في زخرفتها وعرضها في المشرق وعند العرب وأيضا في تونس منذ القرن الخامس هجري إلى ما بعد الاستقلال..

هل ساهمت كتابة الشعر في دراسة تاريخ تطوّر الخطّ العربيّ ؟ وما علاقة القرآن وتدوينه بالشّعر الجاهلي ..؟

إنّ الآثار والّنقوش والقلاع والأبراج والّلوحات الفسيفسائيّة والزّخارف والصّور على المرمر والرّخام والحلي والتّحف والأواني التي تمّ العثور عليها عند الحفريّات والتّنقيب على الآثار كلّها شهود عيان ودلائل لتعاقب الحضارات وتطوّرها وازدهارها عبر الزّمن والتّاريخ، وما تلك الرّسوم الإبداعيّة التي ابتكرها الإنسان البدائي في عصوره وخطّها أصحابها وقتذاك إلاّ كتابة خطيّة بأّسلوب خاصّ وهي لون من ألوان الخطّ والكتابة وضعت للتّعبير عن بعض الحالات الوجدانيّة والأحاسيس وبغاية ترك الأثر وتصوير الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة ومنها حتّى وصفا لبعض الطّقوس الدّينيّة والسّياسيّة آنذاك...

وفي دراسة للأستاذ في كتاب "تاريخ افريقية" عبر العصور بصفة عامّة وكتاب "تاريخ مدينة قليبية" بصفة خاصّة لاحظ أنّه زاخر وحافل بظهور الحضارات وتعاقبها والآثار والتّراث المتبقّي في عدّة ربوع وبقاع جغرافيّة ساعدت على سبر أغوار التّاريخ وبعض أسراره، على سبيل المثال المقبرة التي تمّ العثور عليها بعد الاستقلال شمال القلعة أي البرج لمدينة قليبية قرب شاطئ المنصورة تعود إلى آلاف السّنين فهي محفورة في الصّخور منقورة تماما كتلك البيوت الجبليّة في مطماطة و هي عبارة عن قبور فرديّة وأخرى جماعيّة مبنية في شكل غرف مستطيلة لها درج يهبط إليها ومخلفات الرّماد والسّواد المتواجد في الزّوايا وعلى الجدران تقول الدراسات أنّ الميت كانت جثته تحرق حتى لا تتعفّن في تلك الحضارة وذلك لاعتقادهم أنّ الإنسان كائنا مقدّسا وساميا ويقع الاحتفاظ برماده في تلك الغرف وفي بعض الحالات ببعض أدواته و يقوم أهله بزيارة ضريحه لممارسة بعض طقوسهم الرّوحانية والدّعاء وغيره كما أثبتت عدّة معالم أثريّة أخرى أنّ قليبية عبر التاريخ مرّت بعدّة حضارات إذ كانت تعتبر معبرا ومركزا بحكم موقعها الاستراتيجيّ المطلّ على البحر والذي تتوسّط افريقيّة والبحر المتوسّط وهي أقرب نقطة إلى صقليّة ومالطة واليونانّ.. والبرج أو القلعة يستخدم مركز حراسة فهو بمثابة الدّرع أو التّرس يحمي المدينة ومن هناك جاء اسمها أسبيس ثمّ اكلوبيا وكلوبيا إلى قليبية عند العرب ومن وظائف البرج مراقبة العدوّ الوافد من جهة البحر وإرسال الإنذار للإمبراطورية في تلك العصور... ومن الحضارات التي توافدت على قليبية قلنا لسحرها وجمال وأهميّة موقعها حسب دراسات علم الآثار هم: الفينيقيون، القرطاجنيّون، الرّومان، البيزنطيون، الفرس، العرب فالأتراك والعثمان وصولا إلى الاستعمار وعهد الاستقلال..

وعند تفحّص بعض الآثار ومخلّفاتها وهندستها المعماريّة لاحظ الباحثون أنّها تصوّر قوانين وقيما إنسانيّة وصوفيّة فيها ما يدل على احترام الطّبيعة و رفعة الذّوق و الأناقة والتّفتح والتّسامح ويظهر ذلك في بعض لوحات الفسيفساء أو الأحواض المرمرية المزخرفة التي يقال أنّه جعلت ليعمّد فيها ألأطفال عند ولادتهم ومن خلال رسوم لحيوانات كالغزلان والطّير كالحمام والفراشات والأشجار كالزيتون والكروم والتين وهذا إشارة إلى الجود والكرم التي كانت من خصالهم...

نفس هذه القيم نجدها في الشّعر الجاهلي الذي تغنّى بالجمال و المحبّة والدّعوة إلى التآخي والسّلم والعدالة والمساواة وتغزّلوا بالمرأة والوطن ووصف الرّحلة والغربة والعذاب والسعادة والموت والحياة... وتثبيتا لأهميّة هذه القيم التي انبنت عليها الإنسانيّة جاء القرآن الكريم ليرسّخها ودعا لها بشدّة وصرامة، بالتّالي يمكن القول أنّ الشّعر والقرآن يتّحدان في جماليّة نظم الكلام وأسلوب طرحه لترغيب الناس له عند سماعه ويشتركان في المضمون وطرح القضايا ومعالجتها واحترام الإنسان وتكريمه وأيضا في طلب المعرفة وأهميّة التّعلّم فأوّل سورة نزلت هي سورة العلق "اقرأ باسم ربّك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربّك الأكرم الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم..." وقد أكّد القرآن على أهميّة العلم والمعرفة وأهميّة القلم والكتابة وجاء ذلك في عدة آيات كريمة والاختلاف الوحيد بينه وبين الشعر هو أنّ القرآن مقدس له مرتبة عليا وسامية ويبقى في ناصية كل المعارف وكل اللّغات والعلوم مهما تنوّعت الكتابات الشّعريّة وتفوّقت

وجاء في كتاب رحلة المصحف الشريف للأستاذ عبد اللطيف صفحة 40، أنّ 82 سورة مكيّة من بين 90 أسلوبها شديد الأثر حادّ قويّ يختم بالسّجعات الرّنانة المدويّة، و20 سورة مدنيّة من بين 24 يغلب عليها الاسترسال والهدوء وطول النّفس و 12 سورة محلّ اختلاف بين العلماء...

فالقرآن إذن له قدرة قويّة على التأثير في النّفوس عند سماعه ويروى عن الجنّ حكاية، أنّ بعضهم أعجبوا بالقرآن أيّما إعجاب عندما سمعوه فحفظوه وكذلك حدث مع الوليد بن مغيرة وهو على كفره في جاهليته يقال أنّه أعجب بالقرآن لمّا سمعه حتى لم يكد يكتم إحساسه بحلاوته وكماله فقال مخاطبا أبا جهل أثناء مناقشة دارت بينهما شتّان القرآن: "

ماذا أقول فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشّعر منّي ولا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجنّ والله ما يشبه الذي يقول - يعني القران - من هذا ولا خلاص لنا في هذه الدنيا إلاّ بالرّجوع والتّمسّك بكتاب الله وبسنّة رسوله "

نعود إلى دراسة الخطّ العربي، من خلال بحوث الأستاذ محمد الصادق عبد اللطيف يقول في كتاب "واحة الفكر" إنّ الرّسول محمد (ص) حرص منذ اللحظة الأولى على حفظ القرآن واستظهاره كما حرص في الوقت نفسه على تدوينه فور نزوله تحت إشرافه ورقابته وأن يحفظه لأتباعه وبذلك أصبح القرآن منذ لحظات الوحي الأولى لنزوله صورتين بارزتين الصورة الصّوتية والصّورة الخطّية المكتوبة أمّا الصّورة المكتوبة فتتمثّل في أنّ النّبي (ص) اتّخذ كتّابا يدوّنون الآيات فور نزولها وكانوا يلازمونه لتأدية هذا الدّور ومن ثمّ انطلقت العناية بالخطّ عند المسلمين بدايتها كتابة القرآن بكلّ الأشكال والألوان الخطيّة بعناية فائقة، وخرج الحرف العربي إلى اآافاق مع مصحف الخليفة عثمان ابن عفان وبهذا نلمس أنّ المصحف الشّريف هو الكتاب الأول الذي حرّك المسلمين وشوّقهم وبعث فيهم الهمّة لحبّ القلم وتأليف كتب القرآن، (أقسم بالقلم وما يسطّرون) فهذا القسم تنويها لشأنه وتعظيما لما يسطّره للنّاس من هداية وحقّ وإيمان وبهذا القلم تسابق المسلمون لمسكه وتعلّموا الخطّ وكتبوا المصحف الجامع حتى لا يختلف فيه من بعد...( واحة الفكر ص 70 ...)

وفي خلال القرن الثّاني هجري بدأ أوّل لقاء بين الأفارقة (سكان تونس) والإسلام بدخول القرآن الكريم محفوظا في الصّدور أو مكتوبا في أجزاء في أوّل غزوة لإفريقية وكانت بدخول الصّحابة مع القائد عبد الله بن سعد بن أبي سرج سنة 27 هجري و 647 م وكان كلّ واحد يملك مصحفا خاصّا به وهم من أصحاب الرّسول جاؤوا متطوّعين في الجيش الإسلامي رضي الله عنهم...وانطلقت كتابة المصاحف في تونس ومن أمّهاتها في تلك الفترة وما بعدها بالقيروان المصحف العقباني (مصحف عقبة ابن نافع ) وهو مصحف كبير محلّى بالذّهب والياقوت كتبه له أحد التّابعين له بالقيروان الأولى (حديج بن معاوية بن سلمى الأنصاري) ثمّ توالى دخول افريقية لتفقيه أهلها وتحفيظ القرآن (التابعون العشرة) أو (الفقهاء العشرة) الذين أرسلهم الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز في القرن 9 هجري وشاع في افريقية والمغرب العربي الإسلام وتعلّم القرآن والكتابة لما يتضمّن هذا الدّين من دعوة إلى العدالة والسلام والمحبة...

وبتقدّم علم الخطّ والكتابة وتطوّر وسائله من حبر وورق الذي يعود سببه كما ذكرنا إلى التّنافس في نشر لغة القرآن وتحفيظه أصبح الخطّ العربي يحظى بمكانة سامية وأصبح الخطّاطون يعتمدون حتّى الشّعر في كتابته في بعض المعالم المقدّسة أو الزّوايا والكتاتيب ووسيلة لتحفيظ القرآن واستعماله والتّرغيب...

نلاحظ إذن أنّ الشعر ساهم في دراسة تطوّر علم الكتابة أي الخطّ عبر العصور وقد تمّ العثور على عدّة لوحات من الشعر مكتوبة على شواهد بعض القبور تعود إلى عهد الأتراك ففي كتاب واحة الفكر ص 151 في تربة يوسف داي وجدت هذه الأبيات مكتوبة فوق شاهدة أحد القبور:

هذا ضريح مفرد جامع جمع المحاسن مثله لا يوجد

فيه ثوى بحر المكارم يوسف أنشأ محاسنه السّنية أحمد

كل العقول لقد قضت بكماله كالبدر حفّ بها لتيه الفرقد

فأبسط أكفّك بالدّعاء لربّه إن قمت في الأسحار يا متهجّد

يا حسنه من شهد وافى على وفق المراد فأرّخوه مسّهد

وعلى نفس القبر من الجانب الأيمن كتب ص 152 :

يا ربّ عبدك يوسف وافاك في وفد توحيد نريد قراكا

فاجعل ضيافته النعيم وهب له من بعد إدخال الجنان رضاك

إنّ الكريم إذا أتته ضيوفه أبدا لهم وجه الرّضا ضحاكا

....

...

هذه اللوحة الخطية الشعرية المخطوطة على تلك المعالم التراثية مع بعض الزّخارف النّباتيّة في العجز والصّدر على شكل سعفة مورّقة أو زهرة مفتّحة الأكمام أضافها الخطّاطون للنّقيشة التي تضيف جمالا عليها تساعد في دراسة تطور الخط العربي وازدهاره..

وتنحصر مقوّمات الشاهد القبري فيما يلي حسب ما جاء في كتاب واحة الفكر ص 150 :

1 تقديم الميت بشعر للرّثاء يُنزّل الرّجل في موقعه التّاريخي والسّياسي والعلمي ثم يختم بتاريخ الوفاة

2 أو هي كتابة نثريّة خطيّة تختم بالدّعاء للميت بالقبول والرّضا

3 أو هي تفتح بالبسملة والتّعريج على منزلة الميت والدّعاء له بالرّحمة ثم تاريخ وفاته

4 أو التّصدير بآية من القرآن الكريم

كما وجد فوق نافذة مبنى قبر بتربة حمودة باشا أو محمد المرادي نصّ شعريّ بخطّ الثّلث فيه نفس الخامات للشواهد التي سبقته وهذا دليل على الاستقرار السياسي والرّخاء الاقتصادي في أوائل 1655 إذ تميّز بالزّخارف وروعة الأنموذج المعماري و جاء في كتاب واحة الفكر ص 153 ما يلي:

وفيّة من بديع الحسن منظرها يسبي العقول فلا يلقى لها مثل

أوصى بتأسيسها الباشا الأمير محمد بن مراد، إذ دنا الأجل

فلم يقم بعده بالعهد منتدب حتى تصدّى لذلك الماجد البطل

....

وأختم في هذه النّقطة فأقول إنّ كتابة الشّعر وتدوينه في العصور الجاهليّة بكلّ الأنواع على صلة وثيقة بتطوّر الخطّ العربي وبالقرآن الكريم فالمخطوطات التّراثية القليلة التي تمّ العثور عليها في أماكن جغرافية متفرّقة من المشرق إلى المغرب و في أزمنة متفرقة ساهمت في دراسة تاريخ الخط وأصوله وأنواعه وتطوره أو استقراره، فالخط هو مرآة مجتمعه وشاهد على الحالة الاقتصادية والثقافية والدينية وحتى السياسية لتلك الفترة التي سجل فيها فأمّة لا تاريخ لها أمّة ميّتة لا وجود ولا استقرار لها ..

وفي دراسة للأستاذ عبر التاريخ لتراث مدينة قليبية ذكر أنّ الشّعر استعمل لتحفيظ الأطفال القرآن فالقرآن يرتّل ويجوّد ويحرّم إنشاده في الشّريعة بينما الشّعر ينشد ويغنّى والغناء أقرب إلى المرح على عكس القرآن هو الجدّ والانضباط والخشوع فكان المؤدّبون في الكتاتيب والزّوايا يدرّبون الأطفال على حفظ وكتابة القرآن والتنافس بينهم بتلقينهم أبيات شعر يقع التّغني بها وإنشادها في شوارع القرية أو المدينة لنيل المكافأة لمن حفظ القرآن من سورة الفاتحة إلى سورة البقرة وهذا القصيد جاء فيه أسماء كل السّور القرآنية مرتّبة فحين يغنّيها الطّفل يتذكّر السّورة إذا كان قد نسيها (كتاب واحة الفكر ص 192)

وهلّلوا وكبّروا تكبيرا صلّوا على محمّد كثيرا

الحمد لله الذي علّمنا كتابه وبالنّبي فضّلنا

نحمده حمدا مدى الوفاء على عدد الرّمل والحصاء

وبعدما أتيت بالوسيلة لله، بما للقرآن والفضيلة

توسّلنا باسم الله أوّلا وبالقرآن وعلى من نزلا

جئت به إلى ذوي الألباب مفتاحه فاتحة الكتاب

نرجو ثواب الله والغفران بسورة البكر وبالعمران

وسورة النساء والعقود أقفنا يا ربّ على الحدود

....

.....

بحقّ فصّلت وفضل شورى اجعل ذنوبي كلّها مغفورة

(واحة الفكر ص 192)

إنّ هذه الأنشودة أو الأرجوزة لها قيمة ثقافية جماهيرية وكذلك معنوية لدى الكبار والصغار الذين يحفظونها ويردّدونها بأيمان عميق وتفاعل أمثل والطفل ينال المقام الأسمى ويكافأ باعتباره حافظا لكلام الله وللأرجوزة مغزى أخلاقي وتراثي فهي تعطي صورة للثقافة والمجتمع، لكن مع تغيّر القيم والتّربية والمفاهيم أوصدت الكتاتيب أبوابها باعتبارها نقطة تخلّف عند البعض وهذا ما عظّم نسياننا لتراثنا وتلك الطّامة الكبرى التي نخشاها ولذلك يدعو الأستاذ إلى التشبث بالتّراث والحفاظ عليه حتى تستمرّ جذوة الإيمان في الأجيال فلا يسقط المشعل على الدّوام فمهما تكون القوة الماليّة أو العسكريّة أو السّياسية إذا لم تصحبها قوّة روحيّة قوّة الإيمان والصّفاء والحفاظ على الذّات لن تنال احترام الآخرين....

هكذا كانت رحلة الباحث محمد الصادق عبد اللطيف وهو يبحث وينّقب في التراث والتاريخ والحضارة عن نقاط الالتقاء والتشارك بين الثقافات والشعوب وأبحاثه مازالت مستمرّة وفي انتظار من يسلّط عليها النّور ويبحر فيها بأكثر تضلّع وخبرة ومعرفة والبحوث مازالت متواصلة في شأن الكتابة والخطّ العربي والشعر الجاهلي، ومازالت الدّراسات مفتوحة والأبحاث متناقضة في شأن متى ظهر الخطّ العربي والكتابة قبل أو بعد تلك المعلّقات أو مع ظهور القرآن، وما مدى صحّة انتسابها للعصر الجاهلي... ؟؟؟

انتهى

سونيا عبد اللطيف

18 جانفي 2019

مقالات محمد الصادق عبد اللطيف

_ القطيع الضائع ندوة القراء الفكر فبراير 1960

_ اطلالة على تاريخ قليبية في العهد الحسيني الباشا علي يعزل شاوش القبجية من حراسة قليبية في القرن 12 ه و 18 م الاتحاف مارس 1989

_ إطلالة على تاريخ قليبية في العهد الحسيني الباشا علي يعزل شاوش القبجية من حراسة قليبية الأتحاف يناير 1990

_ اطلالة على تاريخ قليبية على العهد الحسيني صورة من المجتمع القليبي خلال حكم المشير احمد باشا الأتحاف سبتمبر 1990

_ اسألكم ماذا فعل العرب بتراثنا المخطوط الأتحاف ابريل 1994

_ المخطوطات التونسية بالمغرب من خلال المجلات المغربية واعمال الباحثين الاتحاف سبتمبر 1994

_ صورة عن الحياة الادبية بقليبية على العهد الحسيني الاتحاف ديسمبر 1994

_ المؤتمر الافخرستي 1بتونس حملة صليبية عليها الأتحاف يونيو 1995

_ أول عربي كتب في التربية الامام محمد بن سحنون التنوخي الأتحاف يناير 1996

_ ملامح من الادب النقدي عند طه حسين الأتحاف سبتمبر 1996

_ المربي القيرواني أبو الحسن القابسي قرن 4 ه الأتحاف نوفمبر 1996

_ آراء ابن خلدون في موضوع التعليم الاتحاف مايو 1997

_ أبو القاسم الشابي في ذكراه 1909 1934 الأتحاف فبراير 1998

_ قليبية في الشعر الحديث اللأتحاف يوليو 1998

_ توضيح حول نسب الإشراف بسليانة الأتحاف ديسمبر 1998

_ خصائص الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث الأتحاف نوفمبر 2000

_ كركوان مدينة قرطاجنية خرّبها الرّومان الأتحاف مارس 2001

_ الذوادي يصدر كتابا في القاهرة عن الدكتور حفاجي الأتحاف مايو 2001

_ مدن الوطن القبلي من خلال مراسلات الرحالة جان اندري بابسونال الاتحاف مايو 2003

_ الكتابة الخطية على أختام ملوك الدولة الحسينية الأتحاف ياناير 2004

_ الأغزاز تاريخا وجهادا وحضورا الأتحاف ديسمبر 2004

_ المعالم والمقامات الإسلامية بقليبية الأتحاف مارس 2006

_ في التاريخ الثقافي التونسي مع اأاتحاف بكبر حلمنا الثقافي والفكري 1985 2009 الاتحاف ديسمبر 2009

_ الدكتور طه حسين ومنهجه العقلي في فهم الشعر الجاهلي الأتحاف نوفمبر 2013

_ من وجه الاستعمار الفرنسي البشع 1 الأتحاف ابريل 2014

_ من وجه الاستعمار البشع 2 الاتحاف مايو 2014

_ من وجه الاستعمار الفرنسي 3 الاتحاف يونيو 2014

_ الشاذلي القليبي يحدد سمولية الثقافة ومغامرة الشعر الوجودية الاتحاف اكتوبر 2014

_ ندوة الأدب العربي بين الماضي والحاضر الاتحاف نوفمبر2014

_ نحو تدوين تاريخ الخط العربي بتونس الحياة الثقافية ابريل 2012

218 views0 comments

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page