top of page
Search
Writer's pictureasmourajaat2016

الاغتيال {من تأليف منير الجابري} من تونس



شيء من الفضول دفع رولا الى تعقب أثار ابنها. الذي ركب سيارته وغادر المنزل، أسرعت خلفه بدراجتها الناريّة. حط الرحال في مقهى متاخم للبحر. و ما ان وصل حتى أسرع الى أحد أركانه ، حيث كانت فتاة تنتظره استقبلته بابتسامة .

و جلست رولا منزوية قرب مكانهما، كي تسترق السمع ثم أجالت نظرها في الفتاة فهي في عمر الزهور.وضعت نظارتها ثم أعادت الكرة، فاكتشفت أنها من نفس الحي الذي تسكنه.اعجبت بها فهي رشيقة القوام، جميلة الطلعة. لباسها متناسق الألوان، زادها جمالا. كأنها ملاك في صورة انسان. سوداء العينين، صغيرة الأنف، بارزة النهدين. لم يصلها صدي صوتهما لأن صوت الموسيقى طغى على المكان. فهى تنخفض حينا و ترتفع أحيانا.كأنها في تماه مع حركة المدّ و الجزر. تبعث برسائل الحب و السلام الى القوارب الشراعية التي تغازل الموج. و تتنافس مع طيور النورس.

شعرت رولا بحلمها يتحوّل الى حقيقة تمنت أن يتزوج ابنها من احدى فتيات الحي. حتى تبقى علاقته ببلده قوية. كان الطقس حارا رغم ميلان الشمس نحو المغيب . انه يوم الرابع من شهر أوت. حولت وجهة دراجتها نحو الطريق السريعة، حتى تصل الى بيتها في وقت قصير. مما جعلها تبحر و تغوص في بحور الماضي . حتى تقف على أطلاله.فذاكرتها لا تزال تحتفظ بكل تفاصيل حياتها خاصة الزوجية.

فهي قد مرّت بجانب المقبرة التي دفن فيها زوجها أمضت معه.أجمل أيام حياتها. كان رجلا شهما يتميز بالنباهة و قوة الارادة دأب على مساعدة الناس في السراء و الضراء، كان طويل القامة، عريضة المنكبين أبيض البشرة. لا تغيب عن محياه الابتسامة. رغم أنها لم تنجب أطفالا في بداية زواجها إلا أنه كان دائما يواسيها و يطمئنها و يتوسل الى الله، و بعد ست سنوات رزقت بفتى، أسمته ايلي فهو الوحيد الذي انجبته. زرع الفرحة التي طال انتظارها.

مضت الأيام و الأعوام مسرعة. درس و تحصل على شهادة الباك. ثم أرسلته الى أوربا حتى يكمل دراسته الجامعية هناك . و بعد التخرج اشتغل مع شركة ألمانية. و استقر هناك و لما أراد الزواج لبى نداء أمه. لذلك خفق قلبها سرورا لما رأته مع بنت الجيران.

فجأة مرّ أمامها حيوان خفظت السرعة و نظرت الى المرآة و النسيم يداعب شعرها و قد غزاه الشيب و ظهرت بعض التجاعيد على جبينها، إلا أن جسدها لازال في كامل نظارته و ذلك بفضل التمارين الرياضية التي تعودت بها بشكل يومي.

ثم تدحرجت بها خيوط الماضي الى أّول لقاء مع الطفل الذي تبنته فهو قد كبر و ترعرع بين احضانها و أصبح شابا و سيما. خلال هاته اللحظات يجهز نفسه لافتتاح معرفا خاصا به. فهو فنان تشكيلي و موعده هذا المساء بقاعة فيروز المشرفة على الميناء. و قد دعى شخصيات فنية هامة للحضور حتى تشاركه فرحته بهذا الحدث المهم في حياته.

عادت بها الذاكرة الى تلك الليلة التي دعتها فيها صديقتها لتشاركها حفل عيد ميلادها كانت تسكن في قرية نائية، مسالكها وعرة. و هي صديقة الصبي و الشباب، ذهبت للتدريس في مدرسة تلك القرية.

كان الطقس ممطرا و باردا فهو من مواليد شهر جانفي .حرصت رولا أن لا تتأخر كثيرا لان الطريق غير آمن خاصة في الليل. و في حدود الساعة التاسعة ليلا. غادرت منزل صديقتها كي تعود الى منزلها لان زوجها ينتظرها و أوصاها بعدم التأخر. كانت السيارة تسير ببطء و هي منتبهة جدّا و من حين لآخر تشتم روائح كريهة تنبعث من جانب الطريق.

تطلعت من خلال أضواء السيارة فاكتشفت وجود مصب للنفايات العشوائية، اجتمعت به الكلاب تتصارع على بقايا الزبالة. أوشكت الطريق الوعرة على النهاية أدارت رولا بصرها فاندهشت و استغربت وجود طفل صغير على أطراف مصب النفايات. يبحث عن بقايا طعام.

أوقفت سيارتها و بقيت تنظر اليه في صمت مطبق محاورة نفسها.

ــ كيف يوجد في هذا المكان طفلا صغيرا و المطر ينزل ؟

تأملت كثيرا فكرت في النزول اليه ارتعش جسمها من شدّة الخوف، ترددت كثيرا أخيرا تركت باب السيارة مفتوحا و أسرعت اليه. الا أن حذاءها علق بالوحل رغم ذلك أسرعت الخطى نحوه ربتت على كتفه نظر اليها خاطبته لكنه لم يفهم ما قالت . أعادت الكرة لكنه لم يعرها أي اهتمام أخذته بين ذراعيها و أسرعت به الى السيارة. كان حافي القدمين ثيابه رثة فقدت لونها جراء ما علق بها من أوساخ شعره كثيف و ملبد كان جسمه ضعيف يرتعش من شدة البرد جلس على الكرسي و نظر الى رولا بينما هي منهمكة بمقود السيارة و تنظر الى الطريق و في نظرته تتجلى معاني الحزن و الألم.

سألته رولا عن عائلته لكنه لم يجبها لأنه لا يسمع فهو أصمّ وصلت الى منزلها و أسرعت به الى قاعة الاستحمام و ألقت بلباسه في سلة المهملات . تركته في حوض الماء الدافئ حتى يشعر بالحرارة و ينتعش جسده ثم ذهبت تبحث عن زوجها فوجدته جالسا في صدر قاعة الجلوس يتابع أخبار الحرب و الكوارث و بجانبه كأس الشاي.

أمسكت يده ثم قالت :

ــ توأم روحي لقد قمت بعمل دون اذنك .

ابتسم وردّ عليها :

ــ لا أعتقد أنك قمت بعمل سيء؟

ــ ليس سيء و لكنه غير عادي .

خفق قلبه و ظهرت الدهشة على محياه لأنه أول مرة يسمع منها هذا الكلام

ــ قضيت الوقت و أنا في حيرة عليك ثم تأتين لتقول هذا الكلام؟ .

ــ لقد أتيت بطفل من مصب القمامة، أردت إنقاذه من الموت.

نهض من مكانه عند سماع لهذا الخبر

و قال : ــ في بعض الاحيان نيّة العمل الانساني تسبب كوارث ربما يشكل لنا خطرا لابد من اعلام السلطة بوجوده لدينا.

ثم قبل الأمر على مضض. خرج الطفل بلباس فضفاض فأسرعت به الى المطبخ حتى يسد رمقه، فهو يتذور جوعا. و كلما سألته لا يتفاعل مع كلامها. إلا عبر الاشارة ممّا شكل لدى رولا و زوجها صعوبة في التعرف على الطفل و فهم أسباب وجوده في ذلك المكان و في اليوم التالي استنجدت بصديقة مختصة في الاشارة قدمت تحمل في يدها بعض الهدايا الى الطفل.

جلست وجها لوجه معه . بادرته بالتحية ثم بدأت تلقى عليه الاسئلة بلغة الاشارة. وجدت صعوبة في فهم اشارته فهو نشأ في بيئة ريفية و لم يلتحق بجمعية أو مدرسة ، كانت رولا تنظر اليهما و هي متلهفة لمعرفة حكايته.أتمت الحوار معه .تركته مع التلفاز. و مسكت رولا و تقدمت بها الى حديقة المنزل . نزلت الدموع من عينيها ثم قالت : ــ يا رولا لقد نجى من الموت جراء الحرب الساخنة التي تدور رحاها في بلده , سقطت قذيفة على منزلهم حين كان يرعى بالأغنام، قتلت كامل أفراد عائلته لجأ الى أحد أقاربه كي يستند عليه و غادر البلاد مشيا، لكنه توفي نتيجة ارهاق والتعب فهو طاعن في السن. واصل طريقه و حده الى أن عثر على مصب النفايات و هو لا يعلم أنه انتقل من بلده الى بلدنا استأنس في ذلك المكان لأنه يجد فيه بعض الأكل. و يلجأ و يختبئ في مغارة حتى ينجو من الكلاب السائبة . و قد مرّ عليه أكثر من شهرين و هو يعيش على هاته الحالة.

ردت عليها رولا:

ــ ما أبشع الحرب حين كشرت عن وجهها القبيح، فهي حرب متوحشة فتحت الباب على مصراعيه أمام الاخوة والجيران و حثت على الصراع و الاقتتال بينهم. فدمرت قرى و مدنا و شردت أهلها. مضت سنوات و الجرح ينزف و جبروت الحرب ينهش البلاد و العباد فأصبحت بلا أمل في الغد المشرق. الجميع غادر المكان طمعا في النجاة لكن هيهات فقد اصطدموا بواقع أفضع بعضهم ركب السفن و دفع كل ما يملك ثمن الرحلة لكنه لم يصل الى برّ الأمان لان السفن تحطمت في عرض البحر لأنها لم تعد صالحة للإبحار , و هناك من لجأ الى الحدود فانتهى به المطاف تحت خيمة لا تحميه من حر الشمس و قسوة الصقيع أضافه الى تفشي الأمراض .

وهبت رولا كل وقتها بمساعدة زوجها .

حملته الى المدرسة دامجة حتى يتعلم الاشارة على أسس صحية، كلما مكث وحده يرسم بعض المشاهد التي احتك بها في ذلك اليوم لأنها بقيت راسخة لديه. يميل الى الألوان و اللعب بها .

أمام اصراره على الرسم جلبت له مختصا في الفن التشكيلي حتى تنمي فيه هاته الموهبة على أسس صحيحة. كبر الطفل و أصبح يافعا. نمت موهبته و ذاع صيته بين أترابه و في كامل أرجاء المدينة . و أطلقوا عليه اسم (صاحب اللمسة السحرية) بمجرد جرة قلم يصبح أي شكل أو منظر طبيعي أمامك و يضفى عليه مجموعة من الألوان تعطيه سحــرا و جمالا. مما جلب اليه انتباه الناس. و أصبح محل متابعة من الجميع. من حين لأخر توكل اليه الأعمال الفنية التي تخلد ذكرى فنية أو حدث وطني. ليس له حواجز أمام خياله الواسع. و ظلت رولا تتابعه باهتمام فهي تستنهض عزائمه و توثق اعماله حتى لا تتعرض الى السطو. نظرا لما اثبته من كفاءة عالية، الى أن وصل الى تحقيق حلمه ألا و هو معرضا خاصا به.

و صلت رولا الى المنزل وضعت دراجتها أمام الباب و دخلت مسرعة الى المطبخ حتى تجهز العشاء لابنائها، فهي تعيش شعورا خاصا، إنه يوم التتويج، فرحتها لا توصف بأبنائها و هي تحاور نفسها .

ــ لابد أن يكون العشاء في مستوى الحدث.

بينما هي منشغلة في تحضير الأكل طرق سمعها صوت الهاتف، غضت عنه الطرف لكنه واصل رناته. حملت الهاتف وردت ، سمعت صوتا متقطعا تنطق نبراته بالآسى قال : ــ افتحي التلفاز ،

ألقت بالهاتف و أسرعت و فتحته، يالهول مارأت لم تصدق، غيرت القناة نفس الصورة و نفس الخبر . دخان كثيف ينبعث ، انفجار تلو الانفجار. يهز المكان، عادت الى المطبخ ثم رجعت الى التلفاز، تبحث عن الهاتف حتى تسأل عن أبنائها، لم يجبها أحد منهما. سقطت على الآرض ثم قامت ، خرجت و هي تكاد تفقد السيطرة على قدميها، أنه انفجار بيروت خلف دمارا في البلاد و في القلوب.

6 views0 comments

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page