وعد
جلست حذو نافذتها الصّغيرة المطلّة على الشّارع.. كانت تحتسي قهوتها ومنها رائحة الزّهر فائحة. انسابت في لحظات الانتشاء بصوت "فيروز" على إيقاع أغنيتها "كيفك إنت". كانت تنظر إلى مشهد المطر الجميل. هكذا هي الشّوارع التّونسية تزينها نزول الأمطار على شوارعها الفارغة الّتي تفوح منها رائحة الأرض الخارجة من أعماقها. رنّ الهاتف، فرفعت السّمّاعة، وإذ بصوت أدرك سمعها " نلتقي بعد عشر دقائق بحديقة الحيّ ". ظلّت برهة تفكّر في طريقة الخروج. إنّها السّاعة السّابعة بعد الزّوال. السّماء سوداء حزينة يغطّي جمالها تراكم الغيوم التي أرسلت قطرات الحياة إلى سطح الأرض. ارتدت معطفها وأخبرت أمّها أنّ صديقتها تنتظرها وعليها الخروج حالّا. ودون أن تترك لها مجالا للرّدّ، خرجت تُسابق دقّات قلبها. وعندما وصلت إلى مكان اللّقاء، جلست في مكانها المعتاد تنتظر وزخّات المطر تنسدل على شعرها الحريريّ. وقف أمامها جسد ذو قامة طويلة وقد ارتدى معطفا أسود وحمل بيده رسالة. سلّمها إياها دون أيّ توضيح ثمّ غادر. فتحتها متردّدة. قرأتها والدّموع تمتزج بقطرات المطر. عادت من حيث أتت بخطى ثقيلة وقد تعثّرت خطاها في الحصى. دخلت المنزل متّجهة نحو غرفتها. أدارت قفل الباب، ثمّ ارتمت على سريرها ارتماء جسد متداع ولم تعبأ بالبلل الّذي أثقل ملابسها. نامت نوما عميقا رافقه حلم الدّموع المنهمرة وهي تقول: " يصارع الموت. يصارع الأمواج في أعماق البحر المتوسّط. القارب الصّغير يحارب قوّة الرّياح ونزول الأمطار والأمواج العاتية. المتوسّط يسلبني روحي ويتركني قطعة جسد متروكة "... مرّت اللّيالي وهي تهيم بأحلامها وتنتظر ذاك الخبر اللّعين. إنّها السّاعة الرّابعة صباحا من اللّيلة الثّالثة. استفاقت على رنين الهاتف مرّة أخر. إنّه رقم من خارج حدود تونس. رفعت السّمّاعة بلهفة. لكنّ الصّوت كان يصلها متقطّعا " آ..سف لتر..كك فجأة... آسف لرحيلي في تلك اللّيلة القاسية قساوة طبيعتها. وصلت إلى حيث أردت الآن "... لم يترك لها المجال للرّدّ عليه بل واصل كلامه قائلا: " لو أنّني فاتحتك في الموضوع قبل الذّهاب لرفضت. لذا هاجرت تاركا تلك الرّسالة الّتي أخبرتك فيها " أنني سأصارع الموت بتاريخ حبّنا السّابع. فإمّا الوصول وإمّا أن أصير لقمة بين مخالب المتوسّط. قد أعود... قد أعود... ومن يدري؟ فقط لا تملّي الانتظار "... ظلّت تنتظر إعادة الاتصال كلّ يوم بل في كلّ أونة. ولكنّها تخيّلت أن مهما تمرّ الأيّام والأشهر والسّنون، فلا شيء ينزع عنها شوقها ولا قوّة قادرة على توريطها في دوّامة اليأس. وإن عبّر لها غيره عن ارتياحه للقرب منها، فإنّها رفضت بشدّة واعتذرت لكلّ من تقدّم إليها دون أيّ مبرّر. هاهي السّنة الرّابعة تكاد تكتمل وهي على نفس الحال مترقّبة في أمل.. ذاك الأمل الّذي علّقته على وعد قائم لاستعادة بريق فقدته... إلاّ أنّ طارئا أيقظ غفوتها وأعادها إلى حيث هي ألقت بجسدها. إنّه صوت أمّها وقد نادتها مستعجلة: " علينا الذّهاب إلى منزل خالتك. لقد عاد ابنها صحبة زوجته الأوروبية "... هدّها الخبر وما بقي لديها من نضارة وإن كانت صبيّة الرّبيع الثّالث والعشرين. استجمعت قواها ثمّ ارتدت أجمل ملابسها وتحسّبت لأثر الصّدمة على وجهها فلجأت إلى المساحيق لعلّها تغطّي العيب فيه. وما إن أكملت ذلك، حتّى غادرت مسقط رأسها متلهّفة رؤيتهم. هاهي أمام الباب صحبة أمّها. لقد رفعت يدها في بطء لنقر طرقات خفيفة والوجه تعلوه ابتسامة مزيّفة. دخلتا المنزل متّجهتين نحو الصّالون. الجميع هناك في جلسة عائليّة. وما إن اختارت الهائمة مكان جلوسها، حتّى ألقت بنظرها مباشرة نحو الزّوجة. إنّها عجوز في عقدها السّادس بانت على وجهها التّجاعيد. تريّثت ثمّ هنّأت. كادت دموعها تنفجر من عينيها وهي تستمرّ في إلقاء عبارات التّهنئة. اعتدلت في جلستها واستوت ثمّ انتبهت إلى أمّها وهي تقترح عليهم تنظيم حفل زفاف حسب العادات والتّقاليد التّونسية. إنّهم موافقون دون تردّد. ولذلك شرعوا في مناقشة ترتيبات الحفل ولوازمه.وأمّا هو فقد راح يسرق النّظر نحوها بين الحين والآخر. تنتبه إليه، فتخال نفسها منسابة في ترديد أغنيتهم المعتادة "Unutamuyorm" الأغنية التّركية " لم أستطع نسيانك "... لم يفهمها سواه، وبداخله حسرة الّلوم وعذاب الضّمير. لأنّه وحده من أدرك حقيقة أنّه كان السّبب في فقدان عزّ شبابها طيلة أربع سنوات...
شيماء الطرابلسي
Comments