وُلد المفكّر جلال المخ في تونس العاصمة وتحصّل على الأستاذيّة في الّلغة والآداب العربيّة من كلّية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس وعلى شهادة الكفاءة في البحث وشهادة في الدراسات المسيحية من بيروت وشهادة في اللّغة الإيطالية وشهادة في تاريخ الفنون. بدأ الكتابة منذ سن العشرين وما فتئ منذ ما يزيد عن ربع قرن يُمطر السّاحة الأدبيّة والفكريّة بوابل من الدّراسات والمؤلّفات والإبداعات. فهو يتميّز بتنوّع إنتاجاته الفكريّة والأدبيّة وبقدرته على الكتابة النّقديّة وسيولة قلمه باللّغتين العربيّة والفرنسيّة.وقد اقتحم عالم النّشر منذ سنة 1990. له في الدّراسات: "طغاة العالم" و"أحمد فؤاد نجم من الثورة إلى الخيبة" و"جبران بين المصلوب والمجنون" و " الإله والدّولة" و"ثورة القصائد على العقائد" و" الشّابي وتاج الشّوك" و"الفردوس الغابر" و"مزامير كاردينال" و"قصائد بين بحر وجبل" و" هدير الثّورة". وله في الشّعر شؤون وشجون فقد أصدر باللّغة العربيّة كتاب: «كان ما كاد يكون" و" لئلاّ يأخذ أحد إكليلك" و" عودة النّصّ الضّال" و" خذ القصيد بقوّة «و" إنجيل الأرض"* وآخر إصداراته في الشعر هو كتاب " حريق في صومعة النّاسك" وأصدر باللّغة الفرنسّية ستّ مجموعات شعريّة وهي: «Cortège d’impressions» و «Autoportrait » و« Le suicide de la femme en rouge » و « Vox populi » و « Ton image »و
.. « La complainte du sachem »
وقد تميّزت أشعاره سواء التي كُتبت باللّغة العربيّة أو الفرنسيّة برسم صور وصياغات شعريّة يتناغم فيها المعنى باللّغة التي يحرص الشّاعر على اختيارها ليحقّق بهما جماليّة فنّية وموسيقيّة تتكاتف كلّها لترسم لنا لوحات مفعمة بالصُور الأسطوريّة والأنطولوجيّة وبالمعاني الفلسفيّة التي تستوعب عمق الأنا وثراءه لتعبّر في الأخير عن كليّة الإنسان.
ولا يخفى أن للأديب جلال المخ في القصّة القصيرة باعا أيضا وقد حرص الكاتب سواء في مجموعته الأولى "السّفاح" أو المجموعة الثانية "رقصة التمثال" على أن يختار أسلوبا متميّزا وهو أسلوب الحكاية لا بالمعنى التقليدي الّذي يقترب من معنى "الخرافة" بل بالمعنى الميثولوجي القريب من معنى "الأسطورة، فنظرا لتشبّع الكاتب بالمرجعيّة الفلسفيّة الميثولوجيّة ونظرا أيضا لمدى قربه من هواجس الإنسان الكونيّة وقضاياه القصوى والعليا تمكّن من توظيف كلّ ذلك ليرسم لنا مجموعة من القصص "بفتح القاف" أو الحكايات التي تثير كل واحدة منها إشكالا يتعلّق بقضايا الوجود و العدم و الحياة والموت وقضايا حينيّة من إفرازات العصر وإشكالات خاصّة بمعاناة الفنان عموما كعلاقة الناصّ بنصه والرّسّام بلوحته والنحّات بتمثاله إلخ...محافظا في كلّ ذلك على خصوصيات القصّة ومستلزماتها مع وسمها ببصمة الكاتب المتميّزة وبنهجه الفكري. ولا يفوتنا أيضا ونحن نشير إلى مسيرة الكاتب الفكريّة والثقافيّة أن له أيضا كتابات أخرى متنوعة، فله مقدّمات لكتب فكريّة وأدبية كثيرة وترجمات لكتب أدبيّة وشعريّة وعلميّة وأنشطة ثقافيّة متعدّدة فهو إلى جانب توليه رئاسة اتحاد الكتّاب التونسيين فرع بن عروس يرأس أيضا نادي إضافات بالمركّب الثقافي علي بن عيّاد بحمّام الأنف. ويُعد كتاب "رقصة التّمثال" آخر إصداراته في القصّة القصيرة الّذي صدر عام 2016، ويمسح في مجموعه المائة والعشرين صفحة من الحجم المتوسط في طبعة أنيقة ناصعة البياض تُسهّل على الذّهن التّناغم معها وقراءتها دون عناء، وتحتوي هذه المجموعة القصصيّة على ستّ قَصص وهي على التّوالي:
1"مغامرة النّصّ" و2"النحّات" و3"تاج بعل كورنازيس" و4"المعبد" و5"مقتل شهرزاد" و6"يحيى ابن الموت".
وقد حرص الكاتب في هذه المجموعة على أن يعطي لقَصصه وحكاياته روحا جديدة من الإبداع الأدبي المثير لإشكالات فكريّة فلسفيّة متمرّدة وثوريّة بحقّ تُحرج الفكر والإنسان والمجتمع مع حرصه أيضا على المحافظة على التناغم والتماسك وجماليّة الصورة وسلاسة المقصد وبلوغ الغايات والأهداف التي من أجلها وضع هذا الأثر. إنّ نصوص جلال المخ النثريّة في القصّة وغيرها من أجناس الكتابة ليست كالنّصوص العادية والمعهودة التي عادة ما تتّصف بالوضوح والتسلسل النسقي وتواتر الأحداث مع الأحوال والشّخوص، تلك النّصوص التي عادة ما تخلّف في داخلنا أثرا طيّبا وصورة جميلة ونهاية ممتعة ومريحة. !! إن الكاتب تجاوز بأشواط هذا النوع من الكتابة الكلاسيكيّة التي تغلب عليها مشاعر الانفعال والتأثّر فنستكين للنص ونندمج معه اندماجا سلميّا! إن ما يميّز نصوص جلال المخ حسب رأينا أنها نصوص مزعجة عنيفة متمرّدة مفاجئة مرتدّة ثوريّة فهي تُثير في ذهن القارئ ضروبا من الحيرة الفلسفيّة والقلق الوجودي كما تفتح له أيضا طرقا ودواليب من الحضارات والمعارف القديمة والحديثة والمعاصرة وتدعوه إلى معانقة حقول الأسطورة وبحار الميثولوجيا محوّلة الماضي البعيد إلى حاظر يندمج في صلب الإنسانيّة وكأنهما ولدا معا في هذه القصّة أو تلك الحكاية. لنصوص جلال المخ سلطة ذاتيّة تنفرد بها وتميّزها، فالقارئ يلاحظ بوضوح سلطة اللّغة المستعملة بوعي قبلي وسلطة الفكرة التي بسرعة تتحوّل إلى إشكال يورّط به الإنسانيّة جمعاء فتقع في شباكه ولا تجد لها بدّا إلاّ في الوعي به والتفكير في خفايا قضاياه ثمّ سلطة بنية النصّ بما تعكسه من تماسك منهجي متين بحيث يضطر القارئ وهو يتتبّع مراحل القصّة إلى الإحساس بأنه مطالب ضرورة بالإمساك بخيطها الرّابط حتّى يتمتّع ببلورة ناصعة للمحور وانسجامه. تلك هي أهم خصائص قصص المجموعة الثانية لجلال المخ "رقصة التمثال" ولنا أن نشير أيضا أن الكاتب بما لديه من قدرة على المحافظة على التناسق الفكري البنيوي الّذي يؤّكد في نفس الوقت الكتابة الواعية المنهجيّة أنه جعل لهذه الحكايات الست قاسما مشتركا يظهر بوضوح في مواقع مختلفة ومتنوّعة ورقصات متميّزة وهو التّمثال الّذي بصم كل حكاية ببصمته رغم اختلاف شكله وموقعه وأبعاده. فكان الخيط الرّابط بين المجموعة وعلامتها.
فتحي جوعو 9ماي 2017
Comments