top of page
Search
Writer's pictureasmourajaat2016

الأدب الشعبي في تونس



منقول عن بوابة تونس المفتوحة:

منذ عهد ليس ببعيد وقبل حصول البلاد على الاستقلال بدأ الاهتمام في تونس بالفنون الشعبية التي من أقسامها الأدب الشعبي بما يحتويه من أصول وفروع. وقد كان اهتمام الدّارسين الأجانب أسبق إلى هذا الجانب المشرق من حياة الشعوب، فأشاروا في كتبهم إلى الفنون الشعبية، ودرسوا الأساطير والأغاني والعادات والتقاليد والملابس والآلات وغيرها من مستلزمات الحياة اليومية وحلّلوها، وفتحوا الباب لمن جاء من بعدهم، ليكتبوا الدراسات الشعبية التي كانت من قبل هامشية لا يذكرها الأدباء والمؤرخون إلا نادرا.

وقد رأينا من الكتاب التونسيين في القرن العشرين من تصدّى للدراسات الشعبية وألّف فيها، كالصادق الرزقي في كتابه "الأغاني التونسية" ومحمد الحشايشي في رحلاته، وعثمان الكعاك في كتابه عن "العادات والتقاليد" والطاهر الخميري في كتابه "الأمثال الشعبية بتونس"، وكان أكثر هؤلاء جميعا اهتماما بهذا الفنّ، الأديب محمد المرزوقي الذي صرف حياته إلى جمع التراث الشعبي، وتدوينه، ودراسته وترك لنا رصيدا يمكن لنا أن نعتبره نواة للمكتبة الشعبية بتونس، سواء في الشعر أو في الأساطير أو في العادات والتقاليد، كما لا ننسى هنا الفرق المسرحية التي تحاول إحياء هذا التراث في مسرحياتها بإدخال الرقصات والأغاني والأمثال الشعبية في حواراتها، وكذلك الفنّانين التشكيليين الذين يستقون من التراث الشعبي التونسي في لوحاتهم.

لا يخفى أنّ هذا المصطلح عربي مؤلّف من كلمتين عربيتين خالصتين ولكنّه بالرغم من ذلك لم يتلفّظ به العرب قديما وإنما وضع في العصر الحديث. ولا جدال في أنّ المسمّى أو المفهوم مستعار من دلالة الكلمة الغربية "فولكلور" فالغربيّون، إذن، هم الذين تنبهوا لهذا المفهوم، وأطلقوا عليه اسما، ثمّ استعرنا نحن منهم المفهوم وسمّيناه باسم عربيّ.

فما هو مفهوم الأدب الشعبي؟ إنّ الصورة الدقيقة للأدب الشعبي، هي التي تضمّ ما يعبّر عن مشاعر الشعب وأحاسيسه، ولكن مشكلة المضمون والشكل التي عانى منها كثيرا الأدب الرسمي (الأدب الفصيح) تدخلت في هذا المفهوم فعقدته وقسمت النقاد والمؤرخين شيعا إذ نظر بعضهم إلى شكل الأدب الشعبي فعرفه بأنه "الأدب المجهول المؤلف، العامي اللغة، المتوارث جيلا بعد جيل باللغة الشفوية"، ونظرت فئة أخرى إلى المضمون فعرفته بأنه "الأدب المعبّر عن مشاعر الشعب، في لغة عامية أو فصحى". واقتربت جماعة ثالثة من التعريف الأول، لكنّها أخذت عليه أنّه يطرح من مشمولات الأدب الشعبي الأدب العامي الحديث، الذي نعرف قائله ولم تتوارثه الأجيال بعد وسجّلته المطبعة أو الإذاعة أو المسرح أو غيرها من وسائل النشر الحديث، ورأت أنّ الأدب الشعبي هو الأدب العاميّ، قديما كان أو حديثا، مسجّلا أو مرويّا شفاها، مجهول القائل أو معروفه.

تصنيف الأدب الشّعبي

لم يتّفق العلماء على تصنيف موحّد للأدب الشعبي، ولا تكاد تجمعهم وجهة نظر واحدة في هذا المجال وقد لاحظ بعضهم أن كل باحث يتأثر في ذلك بتراث علم "الفلكلور" في بلاده، كما يتأثر بشواغله الشخصيّة في مجال تخصصه.

ومن أشكال التصنيف التي تصادفنا في هذا المجال ما يلي: السير والأساطير، الخرافات، الأغاني الشعبية، الأقوال السائرة والكنايات والأحاجي، الأمثال الشعبية، الشعر الشعبي.

السير والأساطير

تبحث الشعوب دائما عن البطل فإذا ما افتقر تاريخها الحديث إليه توغلت في عمق تاريخها القديم كي تجده فليس هناك ما يثير عقول الناس ويغذي أخيلتهم أكثر من سير الأبطال.

وتخضع سيرة البطل لوصف شكلي عام، تتبعه السير جميعها. فهي تبدأ بسرد تفاصيل حياة البطل بالحديث عن أجداده الذين يضربون ببطولاتهم في أعماق التاريخ، حتى تصل إلى بطل السيرة، ولا يولد البطل ولادة عادية، بل لا بدّ أن تصاحب ولادته معجزات هي بمثابة الارهاص ببطولته.

ويطلق على هذا النوع من القصص الشعبي الذي يتتبع حياة البطل منذ ولادته حتى وفاته اسم "السيرة" إذ أن السيرة معناها في الاصطلاح تاريخ حياة، أو بعبارة أخرى حياة إنسان منذ أن ولد إلى أن مات، وإنسان عظيم تستحق حياته التسجيل عن سائر الناس. وما في الأدب الشعبي التونسي من سير ليس في الواقع إلاّ السير المتداولة في العالم العربي وليس منها ما يتحدّث عن تونس إلاّ "السيرة الهلالية" التي تجري أحداثها في شمال إفريقية أواسط القرن الخامس الهجري. أما ما هو متداول بين الناس فهو ملاحم عربية (بكل احتراز لاستعمال هذه الكلمة).وذلك مثل "سيرة عنتر" التي تصور جوانب مجهولة من حياة البدو، و"الزير سالم" التي تذكر بعض وقائع أيام العرب و"سيف ابن ذي يزن" التي تتحدث عن حروب العرب مع الحبشة وعن الاعتقادات السحرية القديمة و"الأميرة ذات الهمة" التي تذكر وقائعها الحروب مع الروم. وفي تونس العاصمة كانت المقاهي تعج برواة "الفداوي" الذين يسردون هذه السير بجوار "باب سويقة" ولهم استشهادات عدّة عن مرور بني هلال ببلادنا وما وقع بين "العلام" أمير تونس وأبي زيد الهلالي... والتونسيون يركزون سيرة بني هلال على "الجازية الهلالية" وزواجها من الشّريف بن هاشم، هذا بخلاف ما نقرأه في السير الشرقية لهذه التغريبة التي تجعل منها سير أبطال تتركز حولهم الأحداث إلى حدّ أن يكاد كل جزء منها سيرة للبطل من أمثال "أبي زيد الهلالي" و"العلام" و"ذياب بن غانم" و"الخفاجي عامر" و"الزناتي خليفة".

ولا توجد في الوقت الحاضر إلا حكايات حول "الجازية الهلالية" وقصة يونس وعزيزة، وبطولات أبي زيد الهلالي. ونظم بعض الشعراء الشعبيين أشعارا استوحوها من السيرة الهلالية كما فعل ذلك أحمد ملاك وأحمد الربيعي. ولحسن الحظ جمع عبد الرحمان قيقة أصيل قرية تكرونة قصة تكاد تكون كاملة من السّيرة الهلالية التي كانت منتشرة بالجنوب التونسي. وقد حقّقها وجمعها ابنه الطاهر قيقة ونشرتها الدار التونسية للنشر (ط.3, 1987).

أما الأسطورة فهي قصة تعتمد على الخارق أكثر من العادي وترتكز على التشويق وحشر العجائب والغرائب التي تخرج بالانسان من الواقع إلى اللاّواقع وموضوعها يتفرّع إلى فروع متعدّدة منها:

1 - الأسطورة الاجتماعية التي تقصّ حوادث أخذت من صميم المجتمع وهي تتناول عادة علاقة الفرد بالفرد، كعلاقة المرأة بالرجل أو علاقة الفرد بالحاكم أو بالمجتمع، مثل أسطورة "الكنّة والحماة".

2 - الأسطورة السياسية وهي تقص في الغالب أحداثا توضّح سياسة الحاكم في رعيته ملوّحة بالاستنكار للتعدّي والظلم منوهة بالعدالة، مثل "الباي سليم وقائد دريد".

3 - الأسطورة الخارقة وهي التي تتحدّث عن الجن والغيلان وخوارق الطبيعة، مثل أسطورة "الطائر الأخضر" التي تجعل من هذا الطائر عالما بالمغيّبات ومطلعا على الماضي والحاضر والمستقبل.

4 - الأسطورة الأدبية، وهي التي تعتمد على الطّرائف الأدبية والأمثال والأشعار والملح، ومن أمثلتها أسطورة "ولد قايد النجع" التي تحتوى على جزء من أسطورة "شن وطبقة". وليست الأساطير الشعبية مقصورة على النوع القصصي بل هناك أساطير تمثيلية ذات حوار مسرحي شعبي لا يعتمد على حوار مكتوب محفوظ، بل يترك الحوار إلى ذكاء القائم بالدور. من هذا النوع أسطورة "رحمونة" التي اشتهرت في العاصمة التونسية منذ عهد بعيد.

الأغاني الشّعبية

مهما اختلفت الآراء حول الأغنية الشعبية وقيمتها وما يمكن أن تقدّمه من مكاسب ثقافية وتربوية وترفيهية للأجيال المتأخرة عن الجيل الذي ترعرعت فيه تلك الأغاني وازدهرت، فإن مادتها العضوية النقية الساذجة في مظاهرها، العميقة في حقائقها، ستظل مصدرا حيويا مهما بالنّسبة إلى الدراسات "الاثنولوجية" المتعلقة بكل شعب أو مجموعة من المجموعات البشرية في جميع أنحاء العالم وموردا خصبا تستلهم منه الأعمال الفنية والأدبية، لأن الأغنية الشعبية تعكس صورة صادقة نقية لنفسية الشعب الذي تنتمي إليه.

يرى بعضهم أنّ من صفات الأغنية الشعبية الدوام والبقاء، لا عن طريق التدوين، ولكن عن طريق الذاكرة الشعبية الجماعية، والأغاني الشعبية تصاحب دورة الانسان من المهد إلى اللحد.

1 - فهناك أغاني الولادة، وهي تجسّد أهمّ الأحداث في حياة أيّة عائلة، وتظهر هذه الأغاني حرصا على حياة الأم والدعوة لها بالستر وسهولة الولادة، ومن هذه الأغاني الأغنية المشهورة "يا قَابْلَةٌ يا مَقْبُولَهْ"

2 - أغاني "التربيج وهي التي تغنّيها الأم لهدهدة ابنها أو ابنتها في المهد حتى ينام، وهي كثيرة في كلماتها وإيقاعها ومضامينها، وغالبا ما تتضمن مدحا لجمال الطفل أو الطفلة مثال ذلك في التّربيج بالطفل:

"سعدي بيه سعدي بيه إن شاء اللّه يكبر ونربّيه وتغنّي الغنّايه عليه ونفرح كيف الخير يجيه"

3- أغاني الختان، وهي تغنى بمناسبة الختان ومن أشهرها "طهّر يا مطهّر"

4 - أغاني اللعب، وهي كثيرة، لا تحصى أمثلتها.

5 - أغاني العمل وهي نوعان: نوع نشأ من العمل نفسه مثل ظروف متح الماء، ونوع استعير من مجالات أخرى لتكتمل به شخصية العمل.

6 - أغاني الأعراس وهي متنوّعة منها أغاني الخطبة وأغاني افتتاح العرس، وهي تبدأ دائما بالصلاة على النبي وأغاني حفلات الليل وأغاني الحنّاء وأغاني "الجَلْوَة" وهي التي تردد عند جلوس العروس على التخت ومنها:

علاش تبكي يا لوخيّة تسخّفني دمعتك بن عمّك شقيقك وأمّك جارتك

7 - أغاني تعليلة العروس ومن أشهرها "لا إله إلا اللّه والفرح واتانا".

8 - أغاني النّحيب على الميت، وهي تردد في المآتم قديما.

الأقوال السائرة والكنايات والأحاجي

الأقوال السائرة هي تعابير شعبية تندرج في الحديث العادي بين الأفراد والجماعات تقال في مناسبات خاصة وتتناقلها الأجيال عن بعضها.وهي تصدر عفويا وتأتي على البديهة وتوحي بها في بعض الأحيان المفاجأة، مثال ذلك قولهم لمن يدخل دون علم على الجماعة وهم في غفلة من أمرهم: "صبّ الزيت" أو قولهم للذي يأتي قبل ابتداء الطعام "حصانك جرّاي" أو قولهم لمن يدعي شيئا لا يستطيع أن يقوم به "هاك مكحلة وخوذ حوري" أو قولهم للحاكم الجديد "ينصر من صبح" أو قولهم لمن يريدون أن يصرفوه "وريني عرض أكتافك". وأكثر هذه التعابير رواجا والتصاقا بالأدب الشعبي الألفاظ التي يتغنّى بها الباعة للفت الأنظار إلى سلعهم.وغالبا ما تكون هذه التعابير مسجوعة ليسهل التغني بها، ومن أمثلة ذلك قول بائع المشمش "شاشي وليه ياسر ما جاشي"، وقول بائع الفقوس "ساري على القمره" وقول بائع اللمسي، وهو نوع من التمر تنتجه قابس والمطوية، "لمسيّه، يا لمسيّه. بلادك قابس والمطويّة"... أما الكناية في الأدب الشعبي فهي الاكتفاء بالاشارة إلى الحقيقة بوساطة بعض الصّور، وهي من أساليب بلغاء الناس، يؤتى بها للتستّر عادة، أو لاخفاء اسم الشيء خوفا من أمر يجرّه، كالعدول عن الألفاظ المتطير بها، من ذلك قولهم عن الميت "جاور مولاه" أو قولهم عن المنتهي من الشيء "لحس صباعو"، ويقال عن الذين تفرقوا عن بعضهم بعضا "اللّي شرّق شرّق واللّي غرّب غرّب" وعن الأعمى "بالبصير" وعن الملح "بالرّبح" وعن الابرة "بالحاذقة"... والمتلمس لهذا النوع يجده كثيرا في كلام الناس.

أمّا الألغاز فهي الكلمات المسجوعة، أو المنظومة، التي تلقى في المجالس الخاصة أو العامة في قالب أسئلة يختبر بها الناس بعضهم بعضا، والقاعدة في ذلك أن يورد اللغز في شبه سؤال منظوم أو مسجوع، عن شيء تذكر صفاته البعيدة أو القريبة، ومن تلك الصفات يستطيع المسؤول بإعمال شيء من الفكر الاهتداء إليه.

وتسمّى هذه الألغاز في العاصمة التونسية "التشنشين" وفي بعض الجهات الأخرى تسمى "الخبو" وإذا ألقيت في العرس تسمى "الرباط".ومن الألغاز المتداولة قول أحدهم ملغزا في الرسالة "الجواب":

على طفل شهلول بهلول في راس خدّه أماره بعثوه لبرّ السلاطين وجابوه لبرّ النصاره

الأمثال الشّعبية

المثل هو القول السائر المصطلح عليه بين عامة الناس وخاصّتهم لتعريف الشيء بما سبقه من حوادث متشابهة، أو مما قاله أصحاب التجربة والعقلاء من الناس، وقد عرّف المثل بتعاريف كثيرة، فمنهم من قال في المثل: أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام، إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه وجودة الكناية،فهو نهاية البلاغة. والمثل صورة معبّرة عن عقليّة الشعوب وعاداتها، ومرآة تعكس أحوال الأمة في كثير من نواحي حياتها الاجتماعية والتاريخية والفكرية. والأمثال تدخل في جميع شؤون الحياة الشعبية وتحضر في كل وقت ويستنجد بها الانسان العادي في كل أحواله. فمن ذلك قولهم في دفع الشرّ بالابتعاد عنه "الباب اللّي يجيك منه الريح سدّه واستريح" وقولهم في الحث على العمل والمثابرة في الجهد: "اخدم بناصري وحاسب البطّال" وقولهم عن الشيء الذي لا يستتر عن عيون الناس: "عين الشمس ما تتغطّاش بالغربال". وقالوا عن الدار الخالية من الرجال والتي ليس فيها من يقوم على أهلها: "الدار اللي ما فيها شارب، الخير منها هارب" وقالوا عن الطّماع الذي لا يقف طمعه عند حدّ: "أعطوه كراع مد ايده للذراع".

وقد أكثر الشعراء من نظم الأمثال وأفردوا لذلك بابا سمّوه "محل شاهد" وهو نوع من القصائد القصيرة، التي تكون في أغلب الأحيان على وزن "القسيم العرضاوي" ويبني الشاعر قصيدته على مثل سائر أو مقولة شعبية يجعلها خاتمة القول، ويكون ذلك هو "محل الشاهد" لما أورده في البداية. من ذلك قول علي العثماني من شعراء السواسي بالوسط التونسي، مضمّنا المثل "إذا نكراتك بلاد ارحل منها ولو تكون أحجارها ياقوت".

يا صاغي الأنظام ومثايلها افهم لفظ ال جايبه بثبوت انْهَ نفسك على العدم اقتلها واكتم سرّك للسكوت صموت إذا تسمع خايبة خمّلها وسط ضميرك اقفل الحانوت خيار الحاجة تجي على مفصلها خيار اللّفظ يجري عليه شروط إذا نكراتك بلاد ارحل منها ولو تكون أحجارها ياقوت

الشعر الشّعبي

لم يتوصل الباحثون في ميدان الشعر الشعبي إلى تعريف يحيط به بالضبط. وجلّ ما استطاعوا أن يعرفوه به قولهم: "هو الشعر الذي لغته العاميّة وموضوعاته شواغل النّاس اليومية مع ارتباطه بالغناء، وهو ثمرة الارتجال، وينتسب عمليا إلى نوع من الأصل المشترك، تغنيه أجيال الشعراء والمغنين، ولكن بإمكان أي واحد استلهامه.وهو ينتقل أساسا عن طريق الرواية الشفوية، وتبقى الذاكرة الشعبية أهم ما يحفظ لنا التراث الشعري".

والشاعر الشعبي ليس له وظيفة رسمية، فهو بدوي مغمور، فلاح أو جبلي، لا يميّزه عن الاخرين أي تعلّم أو تربية أدبيّة أو موسيقية. إنه راعي غنم أو إبل، أو حرّاث أو صانع صغير، أو عامل بسيط عندما تدفع به المجاعة إلى المدينة، اكتسب حب الشعر من طبيعة بلاده، فانعكست في أعماقه، ثم لفظها دون أن يكون قد أعدّ نفسه لذلك مبدئيا.

والشعر الشعبي التونسي له أوزانه الخاصة، وهي تختلف عن الأوزان الخليلية، وذلك راجع إلى اللّهجة العاميّة، فالتفاعيل القديمة بنيت على لغة تشتمل على أسباب وأوتاد وفواصل، أي "حركة وسكون - أو حركتان وسكون، أو ثلاث حركات وسكون". أما اللهجة التونسية الدارجة فلا تشتمل إلاّ على الأسباب والأوتاد، أي "حركة وسكون - أو حركتان وسكون"، ولذلك لا نستطيع أن نضبط أوزانه إلاّ بالايقاع.

وأهمّ أوزان الشعر الشعبي المعروفة أربعة:القسيم والموقف والمسدّس والملزومة.

1 - فالقسيم قصيد ذو أبيات تتّحد قوافي أشطارها الأخيرة، وليس له طالع ولا رجوع، ومثاله يختلف بحسب أنواعه المتعدّدة، من ذلك القسيم المغراوي مثل قولهم:

"يا عذابْ دليلي من قلّة الصّواب الزّمان تبدّل ما عاد يتعرف"

2 - الموقف عبارة عن قسيم مربع، أي أن أبياته تتركب من أربعة أشطار تتّحد فيها قوافي الأشطار الثلاثة الأولى، وتكون للأشطار الأخيرة قافية مخالفة، مثاله:

"موقف نجيبه بتحكار مرتوب ما صار كي نخش للبيت والدّار يترجم بنغمة ذكيّه"

3 - المسدس وهو ما تركب من طالع ذي ثلاثة أشطار وأدوار تتركب من ستة أغصان في الغالب، مثل قول أحمد البرغوثي:

"يا بنت زينك غلب من ايقايس وغثيث مايس مظلّم يماثل ظلام الغلايس يا بنت زينك غلب من ايوصّف لباسك منصّف ومضحك إذا بان للشّمس تكشف تحلف كما عقد جوهر مرصّف والقد مايس مركب مسافر سرح به رايس

4 - الملزومة وهي منظومة لها طالع ذو غصنين أو ثلاثة أو أربعة ولها أدوار تتركب من أغصان ثلاثة فما فوق، تتحدّ قافيتها وتختم بعرض ترجع قافيته إلى قافية الطالع، ومنها البورجيلة والمزيود والسوقه والتباعي إلخ... وقد اشتهر من الشعراء التونسيين فحول مارسوا الشعر الشعبي وبرعوا فيه. ومن هؤلاء أحمد بن موسى وأحمد ملاّك ومنصور العلاّقي وسعد الأزرق وقد عاش هؤلاء أوائل القرن الثامن عشر، كما اشتهر من بينهم العربي النجار المتوفى سنة 1916 وأحمد البرغوثي المتوفى سنة 1931 ومحمد الصغير الساسي المتوفى سنة 1975, وغيرهم كثير.

أغراض الشعر الشّعبي

يمكن لنا أن نقسمها إلى أربعة أقسام، وهي المتداولة عند الشعراء والأكثر استعمالا عندهم.

1 - أغراض ذاتية: ويدخل في هذا الباب وصف سمات المرأة (وجهها وشعرها وأنفها وفمها وقامتها)، مثال ذلك قول منصور العلاقي يصف حبيبته:

غثيثها طاح يكمال في الطول يطوال شوشان أسود ويكحال في وسط سوق الدّلاله جبينها برق شيّال في رعد زلزال الحاجب كما خط عدّال يا عارفين العدالة عيونها كما حرب قتّال والنيف مازال خدودها ورد في خمال في جنان واعر قداله الشفّة من اللك تذبال والرّيق يا خال أنياب تبرور شعّال جا من بلاد الجهاله الرّقبة كما رقبة غزال نهود فصّال الصّدر ما ابهاه يعتال بزّول قايم خلاله القد نحزيه ينهال يعدال يميال كما سرواله بين الأجبال والرّيح داله بداله

كما يدخل في هذا الغرض وصف لواعج الحب والجراح والفراق واللقاء والمواعيد، مثل قول العربي النّجار متوجّعا:

الحب صعيب مزّق جاشي والدّاعي سامور لهيب يشعل من تحت ضلاعي الحب صعيب مزّق جاشي واعضاي سامور لهيب يشعل في وسط كناني كيفاش يطيب نومي وننال هناي الجرح عطيب نافذ غارق دخلاني في القلب نشيب نبل العين الكوّايه ما لقيت طبيب ماهر طبّه داواني

ويمكن أن ندرج في هذا الباب شعر الأعراس وما فيه من وصف للمحفل والنّجمة والهودج والجحفة والدّلال والقصعة، والحنّاء والبرجاس وشعر الرباط والحفالات وشعر المنام.

2) - أغراض وصفيّة: ويدخل فيها وصف البرق والمطر والربيع والنجعة ووصف الضحضاح والمفازة والوحوش ونباتات الصحراء والكوت (الحصان) والجمل والنجوم والنجوع ووصف البحر والسفن. وتكاد قصيدتا البرق والضحضاح "السراب" تشبهان المعلقة الجاهلية لتقارب البيئة والأخذ من مصادر واحدة والاتفاق في الموضوعات والانتقال من موضوع إلى موضوع في قصيدة واحدة. ومن أمثلة "البرق" قول محمد الفرحان من شعراء الحشيشينة (ولاية صفاقس).

خفّق خفق بان خفّاق في المزن يزراق حتّى الرّعد فيه نقناق ظهر وغرّب وشرّق تنسّم عطى ريح لطلاق على شط الأبحار رشّق عمّال يقرب ويغماق با ملاك يساق حدّر على واد ملاّق شور الصّحارى مشوّق

ولا تختلف قصيدة "الضّحضاح" عن قصيدة "البرق" إلا في وصفها للصحراء وسرابها ومخاوفها وعطشها وحيواناتها الوحشية ووصف الفرس الذي يقطعها أو الجمل الذي يسخّر لاجتيازها. ومن أمثلة ذلك قول أحمد البرغوثي: ضحضاح ما أشناه يزراق يوساع يغراق غيمه على روس الاشفاق دخان غطّى ارواقه مهاميد وخنق وطباق شهيله رقراق بالعمر ما شاف دفاق هو وسحابه تلاقى يا موحشة فج وهّاق مقطوع الأرفاق يصعب على كل وهّاق يخليه مشين رقاقه

ويتبع هذا الغرض وصف "الكوت" وهو الحصان وقد ذهب الشعراء الشعبيون في وصف الحصان كل مذهب. وبعدما كان جزءا من قصائدهم أصبح عندهم غرضا رئيسا يأتون فيه على أوصاف الحصان والفارس. وقد وصفوا "الكوت" بالهيق - وهو النعام - ولونه بحجر الواد وعينيه بالصّل، من ذلك قول أحمد ملاّك في وصف فرسه:

على كوت مدوب ومثيل مسلّس عند الرّجاجيل مجرود أزرق كما النيل عابر عيونه شعايل من صغرته في التقاديل راتع فضيح المقاسيل في القمح يعلف بلا كيل شارب حليب الشّوايل الدير ذهب النشاغيل على الأرض يخلّف جراويل والا خفيف الفناجيل رشم رشم خرص النبايل

3) - أغراض تأمّليّة: وهي أغراض أكثر التصاقا بالنفس لأنها أقرب إلى الصدق من غيرها وتوحي بها صروف الدّهر ومعاشرة الشاعر للناس وطول تقلّبه في الحياة وما صادفه فيها من خيبات أفضت به إلى الشكوى المريرة. ويدخل في هذا الباب، "شكوى الزمان" و"شعر العكس" و"ظلم الاصدقاء" وشعر "الشيب" و"الكبر" و"المراثي". من ذلك قول عبد الرحمان الكافي يشكو دهره وأهل زمانه:

الفكر حاير والعقل سرح دمع العيون نشح في الجاش مكوي وما نقولش أح لفكر حاير والعقل ذهب دمع العيون نضب سامور ناري في الكنين لهب على حالنا والوقت كيف صعب الفقر فينا لح باب الشقا في وجوهنا تفتح

وفي باب الشكوى من الأصدقاء يكثر تذمّر الشعراء من الغدر والخيانة وتقلب أحوال الناس الذين عرفوهم في سالف أيامهم. يقول محمد العياري من "مكثر":

لا خير في الصّاحب اللّي عملت بيه انختلت ركب سابقي كيف راني نزلت لا خير في الصّاحب اللّي بغاني هو كواني ركب سابقي يا غرايب زماني في فم عفريت بيده رماني بعد اللّي وحلت لوما سترني الاله اتكلت

وفي الشكوى من الشيب والكبر يقول ساسي بن سليمان:

أنا شبت قلّ النّظر من سهادي وبديت هادي القبر واللّحد عنّي ينادي أنا شبت قلّ النّظر من أعياني وبديت فاني القبر واللّحد طلبوا مكاني أوفات صحتي أفيت ثقلوا أوذاني وطاحوا أسناني يا ربّ صمّمت فيك اعتقادي

ويأتي بعد ذلك شعر النصائح أو ما يسمّى عندهم "بالثّوامر". وهو نتيجة للشكوى المرّة.ولذلك نجد فيه تحذيرا من حسن الظنّ بالناس وبالزمان، وأن لا يخدع الانسان بما يراه حتى يجرّب ويأخذ النصائح من غيره. ويندرج في هذا الباب "أليفات الأدب" وهي قصائد تشبه قصائد الحكمة في الشعر العربي الفصيح مثل "لاميّة ابن الوردي" و"لاميّة العجم". ومن أشهر "الأليفات "أليف" أحمد ملاك الذي نقتطف منه ما يلي من حرف "التّاء":

التّاء ترك السّويات همّة ابنادم سكاته والضّحك من غير عجبات قلّة أدب في حياته واللّي ما يقراش لعقوبات لا يسلموا عاقباته الكبر للعبد لأهل العقول الثباته من خالط جمع الأزفات عامل على ليث ريقه

الشعر السياسي

كان الشعراء الشعبيون ومايزالون رافضين للحكم الأجنبي والسيطرة مهما يكن نوعها سواء أجاءت من الداخل كظلم "البايات" أم من الخارج كظلم المستعمرين. وقد أطنب كلّ الشعراء في وصف هذا أو ذاك، كما وقفوا إلى جانب الثائرين من التونسيين الأحرار، ووصفوا وقائعهم في الشمال والجنوب وأبرزوا الابطال منهم وخصّوهم بالقصائد الطويلة، كما فعلوا في وصف معارك محمد الدغباجي، والبشير بن سديرة ومصباح الجربوع وغيرهم من الذين أقضّوا مضاجع الاستعمار في عهد الكفاح التحريري، كما سجلوا كل ما مرّ على هذه البلاد من أحداث كشعرهم في دخول الحماية إلى تونس وفي حوادث الجلاز سنة 1911 وفي انتفاضة سنة 1915 وفي مساندة الأحزاب وفي حوادث 9 أفريل 1938 وفي انتفاضة 1952 وفي الفرحة بالاستقلال وما جاء بعده من إنجازات وما حصلت عليه تونس من مكاسب. يقول الحبيب بن عبد اللطيف يصف تونس الأمس:

يا عمهوج أخبارك لي زمان اليوم نرعى في مشوارك لاح عليك الضيم وسلّمت في صغارك لي زمان اليوم نترجى يا عبله باش عرسك نتعب له ياللي جيت ساكنه تونس من قبله وقت لى يضرب عرسكم يتكلّم طبله نحفل فيه نبارك ونحطك عل منبرك نشبح ظفارك وقد كان هذ الشعر في عمومه صادقا في وصفه، حارا في عاطفته لأن الشعراء عاشوا الوقائع التي تحدثوا عنها واكتووا بنارها كما نعموا بلذّاتها.

4 - المتفرّقات

يدخل تحت هذا العنوان أنواع من الاغراض الأخرى التي لم ينصرف إليها الشعراء انصرافا تاما وإنما كانت من جملة ما طرقوا من الفنون عرضا.

ومن هذه الأغراض شعر الهجاء "الأحرش" وهو شعر وإن كان يعبّر عن وجه من وجوه الحياة إلا أنه يبقى سلبيا في نظرنا لأنه يتطرّق إلى أشياء من الثلب لا يحبّذها الذوق ولا يجيزها العرف. وقد ندّد الشعراء في هذا الباب بالمستعمر. ويتولد عن هذا الغرض غرض آخر وهو "الفخر" بما يحسّ به الشاعر من امتلاك لناصية الكلمة وبعد في المعرفة بمواطن الابداع وذلك كقول أحمد البرغوثي:

أنا حمد جياب الأشعار

قيّاس حكّار هرشام في بني الأسوار

كسّار عبد ان تعامه

نسقيه من كاس الأمرار نكويه بالنّار نرميه في موج الأبحار

ما عاد تسمع كلامه

ويدخل في باب المتفرقات "المكفّر" وهو نوع من الشعر الديني يقوله الشاعر ليكفّر عن خطاياه وفيه يذكر اللّه ويتحدث عن عظيم صفاته ويطلب منه الرحمة والقبول والغفران، كما يندرج فيه أيضا مدح النبيّ محمد وذكر غزواته وما أدخل عليها الشعب من خوارق مثل قصة الحمل والغمامة والغزالة. ويدخل أيضا في "المكفر" نظم قصص الأنبياء كعيسى وموسى ويوسف ويونس عليهم السلام. ولعلّ أصدق أشعارهم في هذا النوع ما جاء في مدح الأولياء فهي مدائح لا حدّ لها في العاطفة والوجد الصوفي. ومن أجمل ما نختار في هذا الباب قول ابن تواتي السوفي في مدح الشيخ عبد القادر الجيلاني دفين بغداد والمتوفى سنة 561هـ/1165م.

منك السّـراح عبد القادر عجّل ارّاح الأرواح ضايقة خلـوقـي مـكمــوده لالـــي رواح غـير محــل الجـوده

ومن الأغراض التي طرقها الشعراء أيضا غرض الشعر الفكاهي وو قليل ونادر وذلك لصعوبة تناوله وعدم تيسّره لكلّ شاعر لأنه متصل بالطبع والحسّ الذاتي بالنكتة وإبرازها في قالب يدعو إلى الضحك وهو كالتصوير الكاريكاتوري، موهبة من العسير أن تتوفّر لكل إنسان. ولذلك عندما نبحث عنه لا نجده إلا بصعوبة، وهو في أغلب الأحيان متّصل يالنقد كما نقرأ في قول عمر الكافي يصف حبيبته:

ناولفي شبّه خيال تأخذ مثال خلـقتها كي "الكرنفال"

ونجد أيضا من أغراضهم التي طرقوها شعر الرثاء وهو نادر أيضا ولكنّه رغم ندرته ضارب في الحسّ العاطفي مثير للشجن والحزن لأنّه صادق والدّافع إليه هو الوفاء. ومن أمثلته قول "حدّي الزّرقي":

بلا بيك لا نورت لاسماحت من البال طاحت شكيـت روح الطّـرب في جنـاحـك

وقالوا الشعر أيضا في "الحواريات" والألغاز ووصف الوشم ونظم الأساطير الشعبية كنظمهم لقصة "الجازية" و"عنتر" و"حسونة الليلي".

ومن فنون الشعر الشعبي الطريفة شعر المناسبات وهو الذي يغنّى في المناسبات الخاصة وقد سجل لنا الصادق الرزقي نماذج من هذا النوع في كتابه "الأغاني التونسية" كما أضاف إليها محمد المرزوقي نماذج أخرى من الأغاني التي تغنّى في الجنوب ومن هذه المنظومات "أغاني الاعراس" و"أغاني النخ" وهو عبارة عن رقصة جماعية تحرّك فيها الفتيات شعورهن يمينا وشمالا على دقات الطبل وكذلك "أغاني الجحفة" و"أغاني عاشوراء" و"أغاني المتح" وهو ورود الماء لسقي الغنم والابل و"أغاني الحداء" و"التربيج" و"أسجاع المآتم" و""أغاني المطر" و"الحصاد". عموما فإن الشعر الشعبي جزء لا يتجزّأ من التراث التونسي وأحد روافده الرئيسيّة.

248 views0 comments

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page