عاشت قفصة من 11 إلى 12 جوان الحالي على وقع الكلمة ومقامات الشعر. قفصة التي كعدد من مناطق الجنوب التونسي تعتبر من أهمّ مواقع الابداع الكلمي بما تتميز به من صدق وشفافية وتعرية لواقع يحتاج من مبدعيه الكثير من الجهد ليس فقط لإيجاد وابتكار الجديد من الصور والأشكال والطرائق حتى لا يبق يراوح في تكرار الانماط القديمة والمتهرئة في فنون القول. وحتى يصل الى تمتين العلاقة مع المتلقي.
وفي هذا الاطار تنزّلت (ندوة الشعر) في دورتها السابعة. الندوة التي يشرف عليها وينظمها اتحاد الكتاب التونسيين فرع قفصة والتي التأمت يومي 11/12 من جوان الجاي. بقفصة إحدى منارات الشعر في جنوبنا المنسيّ والمقصيّ من خارطة دعم الدولة ووقوفها الى صفّ مبدعيها ليس فقط لإشعاعهم الداخلي ولكن والأخص اشعاعهم الذي لا يرفع راية البلاد في محافل الفكر والكلمة بما يتميزون به من تنوع وخصوصية. بل ويفتح للوطن صفحة من الاستثمار في العقل والإبداع الوطني الخالص الذي له مكانته وموقعه شاء من شاء وأبا من أبا من المتثيقين الذين امتلأت بهم اروقة بلاطات الحكام تبّع وأبواق دعاية كأننا لم نفارق زمن الدكتاتوريات وكأنّ ثوريين لا يرضيهم سوى صوت المداحين أما الصادقين فلهم المعاناة والاقصاء.
ونعود الى موضوع الساعة وهو ما دأبت عليه قفصة من فتح بيوتها وساحاتها الى وعلى عالم الكلمة والفكر بحثا عن مواصلة واستمرارية مميزاتها وتميزها لا فقط الابداعي وإنما ايضا الفكري ومن خلاله تربية الناشئة على هذا النهج والدرب الذي يحميهم من كوارث العصر ويجعل منهم عنوان الوطن وسواعده المبدعة البانية لغده الذي نحلم به جميعا.
وتميزت هذه الدورة السابعة بطرح عناصر تمسّ من واقع الكلمة شعرا ونثرا رغم أنّ تخصص الندوة هو الشعر إلا أن الافكار والآراء المطروحة هي تمس الجانبين لما للقلمين من حدود تماس بينهما. فكان عنوان الندوة ومحورها الرئيسي (الذات والآخر في الشعر التونسي) وهو موضوع حساس وجوهري على ايامنا لما له من التصاق بواقع الكلمة والمعنى والصورة والرمز من سلطة وسلطان آخذ في الانتشار والتوسع الى درجة كبيرة بين لا فقط الكهول بل وعلى الاخص الشباب الذي وجد في الشعر مجالا للتعبير وللتصريح والتلميح. وللبوح بمعاناته وأحلامه وأوجاعه وطموحه.
وما نلحظه اذا ما تقصينا خارطة المنشغلين والمشتغلين بمعاول الشعر نجد نسبة مهمة منهم من دواخل البلاد أي الاماكن المقصية والمنسية والمهمشة. وكان على الحكومات التي تدّعي الثورية الاصغاء والانتباه والدعم حتى تكتشف وترى بعين حالمة لكن بخلاصة واقعية حقيقة البلاد وحياة العباد فيها وطموحاتهم وآمالهم وأحلامهم. فالشعر كلمة والكلمة ليست فقط شعور وإحساس بل هي فكر وصورة ومشهد وتعبير. لذا فإنّ الافتتاح كان على وقع مداخلات فكرية قدمها كلّ من الدكتورة والشاعرة ريم العيساوي 'المرأة والعاطفة في الشعر النسائي التونسي 'زبيدة بشير نموذجا'' والدكتورة منجية التومي 'الانا والأخر في الشعر التونسي الحديث' 'الشاعر محمد أحمدي نموذجا' وتقدم لرئاسة المحاضرتين كلّ من الاستاذ عباس سليمان والأستاذ نصر الدين الزاهي بينما تخلل المحاضرتين مراوحة بين الشعر والموسيقى في قراءات للشعراء والشاعرات جمال عمايمية وياسمين خدومة ونصرالدين الزاهي ووفاء بوترعة ومحمد الهادي بوقرّة وعبد الرحمان أفضال ومولدي الشعباني وضحى بوترعة ولمياء العلوي وصالح مبروكي وميلود الحبلوطي وبلقاسم برهومي مع مداخلة من الشعر الغنائي الفكاهي للشاعرة عائشة بلقاسم كما تمّ في افتتاح يوم الافتتاح تكريم خاص للدكتور محمد الصالح البوعمراني قدمه الاستاذ محمد الهادي بوقرّة وأقيم معرض لجديد اصدارات كتاب وأدباء الجهة.
أما اليوم الثاني والأخير فتميز بحوار مفتوح حول علاقة الشعر بالجمهور وبالنقاد. وكان شيقا وبناء ومثمرا متميزا بحماس ودقّة وتشخيص راقي لمميزات هذه العلاقة وكيف يجب ان تكون وأن تكرّس وتستثمر آليتها لمزيد التوسع والانتشار. ومن ثمة انطلقت الكلمة من جديد في مراوحة بين الكلمة والوتر الذي تارة يرافق الكلمة وأخرى يهدينا مساحة طربية راقية. وتناوب على المايكروفون كلّ من الشعراء والشاعرات سونيا عبد اللطيف ومنير الوسلاتي ونورالدين بوبكر وزكية الطنباري ومحمد العايش خليفي وقيس الشرايطي وضو بن صالح وماجدة رجب والمختار المختاري 'الزاراتي' وسالم الشرفي وشكري مسعي وحسن بن عبيدالله وفضّة خليفة وعمر قاسمي ليختتم المقام والمقال الشاعر والأديب محمد أحمدي رئيس فرع اتحاد الكتاب التونسيين بقفصة وهو الساهر على تنظيم الندوة التي يشرف عليها وينظمها اتحاد الكتاب التونسيين فرع قفصة.
وهنا لا يفوتنا الاشادة بحسن التنظيم والبرمجة التي كانت ثرية وغنية ومتنوعة حتى كانت تسارع الزمن لقصره للإيفاء بها وكان الفريق الذي سهر على التنظيم والتسيير في الموعد وفي استعداد ومواكبة ميدانية استوجبت طاقة كبيرة وجهد يشكر فيذكر فهم أول وآخر من كان يقف وراء نجاح هذه الدورة نجاحا متميزا وباهرا يشكرون عليه.
وهنا لا يفوتنا بأن نكرر تعرية الواقع لمن يهمه الامر ليس للشأن الثقافي وحسب وإنما للحياة العامة فبمثل غياب الدولة عن مثل هذه المبادرات وتغييبها لها اعلاميا ودعما ماديا وإحاطة وإسناد. تتضح عناصر الدولة الفاشلة التي لا تعي القيمة الأساسية للفكر والإبداع في اشعاع بلادها والترويج لها اقتصاديا مما يجعلها مواقع استثمار (هذا اذا ما سلمنا بتوجه مشهدنا الحاكم في ميلوه وخطه الرأسمالي) وأنّ مثل هذه المناسبات هي محطة فارقة تعطي صورة مغايرة لمشهد الاعتصام والاحتجاجات وتوقيف مصادر الثروة الوطنية التي يروجها الاعلام الخاص لتؤخذ كمادة تروج لخارج البلاد وبالتالي تحرم البلاد من مصادر استثمار جديدة وتخلي الساحة من القديمة. أيضا تكشف جهل من يدعون انهم ساسة برسم السياسة الثقافية للبلاد والتي من خلالها يمكن له رسم مخطط السياحة الثقافية والى آخره من عناصر الجهل السياسي المدقع الذي يعريه غياب الدولة عن مثل هذه التظاهرات والندوات التي تصل اخبارها عبر وسائل الاتصال الحديثة الى ابعد من الوطن وحدوده ليعمق الفجوة بين المفكر والمبدع والمثقف وحتى المواطن العادي وحكوماته الثورية جدااااا.
في الختام نشكر كل اهل قفصة على الحفاوة التي تعودنا منهم. ونتمنى لهم مزيد الاشعاع والتقدم ونشد على اياديهم ونسندهم ونتابعهم نحو مسيرة انقاذ الوطن.
المختار المختاري 'الزاراتي' 12/06/2021
Comments