بمناسبة صدور كتابه الجديد "الذكريات تأتي للقائي"، قُمْنا بزيارة إدغار موران. تَطرقنا إلى الأحداث واللقاءات التي شَكَّلته، والأفكار والمعارك التي يُصِرُّ عليها. لكننا تحدثنا أيضا عن مستقبل ومشاريع هذا الشاب الأبدي الذي يبلغ من العمر 98 سنة.
جان فرونسوا دورتيه: كتابك هذا – الذكريات تأتي للقائي – يُقَدِّمُ نفسه ككتاب ذِكْرَيات وليس مُذَكِّرات؟ ما الفرق؟
إدغار موران: المُذَكِّرَات تُقدم نفسها عادة مثل سيرة، حيث يتَّبِع الكاتب ترتيبا زمنيا لا يحيد عنه؛ وهي تتطلب أيضا عملا توثيقيا حول تاريخه الخاص من أجل إعادة تركيب مسار حياته، حتى وإن كان مجرد تركيب مُصطنع في جانب منه. كتبت هذا الكتاب بنفس الحرارة التي أتتني بها الذكريات. فهي ليست معروضة وفق ترتيب زمني. هذه الذكريات " أتت للقائي" كما يُعَبِّرُ عن ذلك عنوان الكتاب. لاحقا، أعدت إعطاء نوع من الترتيب من أجل النشر، لكنني أردت الاحتفاظ بهذه الحرارة الأولى وتركيز اهتمامي على الأشخاص، واللقاءات، والأحداث التي تركت الأثر الكبير في حياتي. والتي قامت بتكويني.
ج.ف.د: الترتيب الموضوعاتي يسبق، في الحقيقة، الترتيب الزمني. وهكذا، فمواجهة الموت، كحدث لا يمكن توقعه إلا في الصفحات الأخيرة، حاضرٌ منذ البداية: مع قصة طفل صغير وُضع مبكرا في مواجهة موته الوشيك.
إ.م : فعلا، فقد صادفت الموت في وقت مبكر للغاية، منذ المرحلة الجنينية. كانت أمي تعاني من مرض قلبي، وكان ثمّت خوف من عجز قلبها الضعيف عن تحمل عملية الولادة. عندما وجدت نفسها حاملا، تناولت أدوية من أجل إجهاضي: وبالتالي فقد مررت بجانب الموت في مرة أولى. كانت ولادتي مواجهة ثانية مع الموت، لأني وُلدت مخنوقا بالحبل السري. تَطَلَّبَ الأمر عدة دقائق من أجل إنعاشي. فقط في اللحظة الأخيرة، كما سرد أبي الواقعة لاحقا، حيث تمكن الطبيب من إعادتي إلى الحياة. هذا الحضور للموت لم يترك في ذاكرتي أي أثر واعٍ طبعا؛ في حين أن موت أمي عندما كنت في سن العاشرة، كان فاجعة مُؤَسِّسَةَ: فقدان للمُطلق أرغمني على العيش دون مُطلق. بعد ذلك، واجهت الموت مرة أخرى عندما كان عمري ما بين 20 و25 سنة إبان فترة المقاومة. هذا هو السبب الذي جعل هذه القصة تبدأ بالموت. فقد أصبح لا يفارقني منذ وقت مبكر للغاية. باكرا جدا، فهمت بأن الحياة والموت لا ينفصلان.
ج.ف.د: بالمناسبة، الموت يُشَكَّلُ موضوعا لأحد كتبك "الموت والإنسان" (1951). واحدة من أطروحاته تقول بأن البشر، في كل الحضارات، قد قاموا بتأسيس مُتَخَيَّلٍ حول العالم الأخروي : فَهُم ينفون الموت من خلال أساطير خلود الروح.
إ.م: نعم، وقد سبق للمتخيل أن ساعدني في البقاء على قيد الحياة بعد وفاة أمي. فقد غصت في عالم الرواية والسينما طلبا للنجاة من واقع مرير لا يُحتمل. بعدها، اكتشفت بمناسبة تأليف كتابي "الإنسان والموت"، الدور الأساسي للمتخيل في التاريخ البشري. وهكذا ابتعدت عن النظرة الماركسية التي تجعل من الأفكار مجرد "بنية فوقية" تنهض فوق بنية تحتية مادية. المتخيل ملازم للوجود البشري. بطرق شتى : بداية، المتخيل يضفي سحرا وشاعرية على الحياة، وهو، علاوة على ذلك، مرتبط بشكل حميمي بالحياة من خلال أحلام اليقظة، والتنبؤات، والآمال، والمشاريع، والطوباويات؛ وأخيرا، وهنا تكمن المفارقة، يُعتبر الخيال سبيلا من سبل الولوج إلى المعرفة. الرواية والسينما ينتميان إلى مجال الخيال، إلا أن هناك أنواعا من الخيال تملك قدرة هائلة على جعلنا نكتشف حقائق يتعذر علينا إدراكها من خلال الاحتكاك المباشر بالواقع.
ج.ف.د : على ذكر الروايات، أحد فصول الذكريات مخصص للحديث عن الكتب التي بصمت شبابك و"غيرت حياتك".
إ.م : نعم، قراءة بعض الروايات شَكَّلت مُنَاسَبَةَ من أجل اكتشاف حقائقي الخاصة. من خلال أناتول فرانس (Anatole France) ومنتايان (Montaigne) ، اكتشفت شكوكيتي (scepticisme) الخاصة. الأعمال التي تؤثر فينا هي تلك الأعمال التي تفصح لنا عن أشياء نحتفظ بها في دواخلنا دون امتلاك القدرة بعد على صياغتها. حاجتي إلى الإيمان والبوح بمكنوني، وجدتها عند كل من تولتستوي ودوستيوفسكي. بالمناسبة، أعدت مؤخرا قراءة رواية "السلم والحرب"، تُحفة مُطلقة، والتقيت، مرة أخرى، بنفس المشاعر والأحاسيس التي اجتاحتني خلال قراءاتي الأولى.
ج.ف.د : هذه الذكريات تُمَثِّلُ أيضا ذكريات مسار حافل بالالتزامات السياسية : المقاومة، تليها الشيوعية، حرب الجزائر، ماي 68، اليسار، الإيكولوجيا و"السياسة الحضارية " .
إ.م : لا أحب كثيرا كلمة "التزام" . فهي توحي بالتَّحَزُّب وحتى بالحرب؛ فنحن "نلتزم" داخل حزب كما نلتزم داخل الجيش. ومع ذلك، فلم أُمض بين أسوار الحزب الشيوعي إلا بِضعة سنين. قُمْتُ بسرد وقائع هذا الالتزام في كتابي "نقد ذاتي" . في المقابل، طيلة حياتي، وجدت نفسي منغمسا في أحداث تاريخية أُقحمت داخلها عنوة. أجد نفسي مَحْمُولا في خضم المغامرة البشرية.
ج.ف.د : هذه المعارك قادتك إلى القيام بالعديد من اللقاءات، مع مثقفين وشخصيات. كتاب الذكريات هذا، يُمكن النظر إليه كرِواق يَعرض بورتريهات أشخاص معروفين أو مغمورين : نصادف بداخله أساتذتك القدماء، مقاومين، مثقفين وكُتَّاب تركوا بصمة في حياتك.
إ.م : كانت نيتي الأولى هي تأليف كتاب حول "أصدقائي وأبطالي" . بعض الأبطال، هم كذلك في الأدب أو الفكر، والبعض الآخر هم شخصيات استثنائية. كان هذا حال ميشال كاييو (Michel Caillou)، بيير لوموان(Pierre le Moign)، هذا "البطل ذو الابتسامة اللطيفة"، أو ويبالدو صولانو (Wibaldo Solano)، الذين كانوا رفقاء في المقاومة. في فترة المقاومة أيضا، تعرفت على فرونسوا متيران (François Mitterrand) : كان حينها رئيسا للخلية التي كنت مشاركا ضمنها.
إحداث لجنة المثقفين المعارضين لحرب الجزائر، والتي كُنت من ضمن أعضائها، منحتني فرصة مقابلة أندري بروتون (André Breton)، وهي مقابلة تركت بصمة عميقة في حياتي. في سنوات الثمانينات، اقترحت على فرونسوا متيران إنشاء "بلاط السريالية"، وهو مشروع لم ير النور مع كامل الأسف ( المشروع موجود في ملحق الذكريات).
ج.ف.د : نجد أيضا في هذا الكتاب بورتريه لأشخاص استثنائيين من أمثال جيان بلوم (Jeanne Blum)، زوجة ليون بلوم (Léon Boom).
إ.م : قابلت جيان بلوم في سنوات الخمسينات، وقد أُخِذْتُ بطيبتها. من خلالها، تمكنت من الحصول على شهادات مؤثِّرة وحميمية حول ليون بلوم نفسه. تركت جيان انطباعا عميقا بداخلي من خلال نبلها، صدقها وكرمها. هناك أشخاص يتمتعون بأهمية بالغة لأنهم يمنحون وجها للكرامة الإنسانية. كانت جيان تمتلئ إنسانية. في أحد الأيام، هاتفتني من أجل قول وداعا : أبلغتي بأنها تعتزم المغادرة "نحو سويسرا". لم التقط حينها فحوى الرسالة الخفي. لقد غادرت في اتجاه سويسرا من أجل وضع حد لحياتها؛ كانت تعتقد بأنها عاشت بما فيه الكفاية ولا حاجة إلى إثقال كاهل أقاربها. جيان بلوم تُعد من الأشخاص المجهولين الذين بقوا في الظل، وأردت، من خلال كتابي هذا، تكريمهم.
ج.ف.د : كل هذه اللقاءات ترتبط بأماكن ولحظات فريدة للغاية. نلتقي بادغار موارن الشاب سنة 1946، في برلين، داخل مدينة مُدَمَّرة حيث ستدور أحداث تاريخية جديدة، بعدها في باريس الثقافية إبان سنوات الخمسينات حيث كانت تنضج أفكار جديدة، في كالفورنيا سنوات الستينات، معقل الثقافة المُضَادَة. نسافر أيضا إلى إسبانيا، وإلى ايطاليا، وإلى أمريكا اللاتينية، الخ.
إ.م : الأفكار التي نصوغها حول العالم، تظل أيضا رهينة الأماكن التي عشنا داخلها. وهكذا، فقد خصصت فصولا من أجل الحديث عن أماكن العيش هذه، والتي هي في نفس الوقت، أماكن معارف (connaissances)، أماكن حيث تتشَكَّلُ جماعات، وصداقات، وحيث تتشكل طرق في إدراك العالم والإحساس به بطريقة فريدة. مغامرة الأفكار هي أيضا قصة أماكن ومعاقل الثقافة.
ج.ف.د : تغير الجو الثقافي كثيرا مع مرور العقود: بعد الحرب، صارت الوجودية سيدة الموقف. بعد ذلك الماركسية، التحليل النفسي، البنيوية، قبل أن يُصيب الوهن نظريات الذات. لم يسبق لك قط أن اعتنقت، بشكل تام، أي واحد من هذه المذاهب التي كانت، مع ذلك، قوية في وقتها.
إ.م : نَهَلْتُ من روافد شتى، لكن شيئا ما بداخلي منعني دائما من الانغماس داخلها. بعض نصوص سارتر، خاصة كتابه حول الخيال، أَثرت في كِتَابِي حول السينما والإنسان الخيالي. ومع ذلك، فلم أكن يوما وجوديا. على نفس المنوال، فبالرغم من إعجابي ب "مدارات حزينة" لكلود ليفي ستروس وبعض كتابات رولان بارط، الذي عرفته عن قرب، لم أعتنق البنيوية يوما. البنيوية تقترح صورة مُختزلة جدا للكائن البشري. تأثرت في ريعان شبابي بالهجيلية-الماركسية، لكني أُعجبت أكثر بالتصور الجدلي للمغامرة البشرية، أكثر منه بالماركسية المادية التي تنظر إلى التاريخ كمجرد نتاج قوى اقتصادية وصراع طبقي. ماركسيتي كانت ماركسية منفتحة، وقد قادتني إلى ميتا-ماركسية، وبعدها إلى القيام بعملية تجاوز.
ماركسيون قدماء من أمثال كورنيليوس كاستورياديس(ِCornelius Castoriadis)، كلود لوفور(Claude Lefort)، كوسطاس ألِكسوس(Costas Alexos)، فرونسوا فوريه (François Furet) وآخرين ممن سمحت لي الفرصة بمخالطتهم كثيرا، عاشوا نفس التجربة. مجلة "حُجَج" التي أسسناها سنة 1957 لعبت دورا مفصليا في خروجي من الماركسية (فهرس المجلة موجود في ملحق الكتاب). بعد ذلك حملت لواء التعقيد (la complexité).
ج.ف.د : هذه القدرة على عبور العصور والأنماط الفكرية دون معانقة أي واحد منها، تُعتبر دليلا على الاستقلالية، وهو ما يُمكن النظر إليه أيضا كشكل من أشكال الأنانية، لكي لا أقول النرجسية. كثيرة هي كتبك التي تمزج بين حياتك وحياة الأفكار والأحداث التي تقوم بتحليلها.
إ.م : صحيح، لكن هذا الربط بين حياتي والأفكار، كان بالنسبة لي أمرا لا مفر منه في ظل الأوقات العصيبة التي عشتها. علاوة على ذلك، فنحن دائما ما نُسقط تصوراتنا الخاصة على العالم. يتعلق الأمر بفكرة مركزية تعلمتها مبكرا من جورج لوفيفر(Georges Lefebvre)، مؤرخ الثورة الفرنسية الكبير الذي كان أستاذي في جامعة السوربون. خلال محاضراته، كان يُوَضِّحُ بأن جميع القراءات التي أُقيمت للثورة الفرنسية تِبَاعاً، كانت محكومة بانشغالات عصرها. جان جوريس (Jean Jaurés) اقترح قراءة اشتراكية للثورة متمركزة حول الحركات الشعبية والقوى الاقتصادية. ألبير ماتييز (Albert Mathiez) الذي كان شيوعيا، قام بامتداح روبيسبير وسنوات الرُعب. بعد ذلك، زاد تأكيد هذه الظاهرة. الفوضوي (الأناركي) دانييل غيران (Daniel Guérin) رأى في الثورة الفرنسية ظواهر انتفاضة تلقائية. لاحقا في سنوات السبعينات، فرونسوا فوريه، الذي كان قد غادر الحزب الشيوعي وأدان الستالينية، قَدّم قراءة ما بعد ماركسية للثورة.
كم هو مُضَلِّل الاعتقاد بقدرتنا على التحرر من ذاتيتنا الخاصة من أجل بلوغ الموضوعية التامة في معرفة الإنسان. غالبا ما تكون الموضوعية المُعْلَنَة ليست سوى طريقة من أجل إخفاء أحكامنا المُسبقة. هذا الأمر هو الذي دفعني، على العكس من ذلك، إلى الإفصاح عن جزء من حياتي في يومياتي ( كما هو الحال في "يومية كاليفورنيا" أو "صُلب الموضوع") حيث أتحدث عن قراءاتي، ولقاءاتي، وحيث أكشف عن شكوكي، واضطراباتي، وتساؤلاتي. فيما لو بدا أن ذاتيتي تحتوي على نوع من النرجسية – رغم أن الحديث عن أنفسنا بكل صدق يشمل أيضا الإفصاح عن عيوبنا –، فهي تُمَثِّلُ أيضا ضرورة ابستمولوجية. يجب على المُراقب أن يُراقب نفسه أيضا من أجل إعادة النظر في مُنطلقاته الخاصة، ومؤثراته، وآرائه الجاهزة. يجب على الذات أن تجعل من نفسها موضوعا. هاهنا جانب أساسي لمنهجي المُركب: أُطَالبُ بهذا النصيب من الذاتية.
ولا ننسى أبدا، كما قال مونتايان، بأن "كل إنسان ينطوي بداخله على الوضع البشري". من خلال البوح بجزء حميمي مِنَّا، يُمكننا أيضا التواصل مع العديد من أولئك الذين يحسون ويشعرون بنفس الأشياء. أعتقد بأن أندريه جيد (André Gide) من قالها على طريقته: "كُلَّمَا كُنّا متفردين أكثر، كُلَّمَا كُنَّا كونيين أكثر".
ج.ف.د :كيف نرى المستقبل حين نبلغ من العمر 98 عاما؟
إ.م : أولا، أنا مُهتم بمستقبل البشرية؛ العالم وتطوره القادم يشغلني، رغم أني لن أَشْهَدَ منه الشيء الكثير. غياب مستقبلي الشخصي، أو بالأحرى، أفقي الزمني المحدود جدا لا يمنعني من التفكير في مستقبل البشرية التي أُشَكِّلُ جزءا منها. المستقبل إذا حاضر بقوة بداخلي.
على المستوى الشخصي، كيف أَنظر لمستقبلي؟ عندما بلغت سن 80، انتبهت إلى موتي الوشيك : ربما عن طريق سكتة قلبية أو جلطة دماغية...في سنوات الستينات، تنبأت عرافة بموتي واقفا، هكذا في مرة واحدة. عندما صِرت ثمانينيا، تعودت إذا على فكرة الموت الوشيك. بعدها وصلت إلى 90 عاما، وبعدها 91، 92، والآن 98. في ظل تأخر الموت، تعودت على البقاء حيا.
Sciences Humaines n°319 - novembre 2019
Comentários