تأبّط ملفّا تهرّأ من كثرة ملازمته لجسم أنهكه الصّبر والتّعب.. شقّ الطّريق الموصلة الى المحطّة تتراقص في أذنيْه كلمات أمّه الدّافئة.. "رزقك الله..يا ولدي.. عملا به تنسى التّعب وسهر اللّيالي..فتح الله أبواب الرّزق في وجهك.."
يتفاءل خيرا..يتخّذ طريقا ألِفه وقد بثّ دعاء أمّه في روحه الأمل ..
فرصة العثور على شغل تتضاءل يوما بعد يوم في هذا الوطن.. وطن أصبحت الرِّشوة قوّامة الأعمال..فبات العمل رهينة ما ملكت يُمناك ..حفيَت قدماه تجوبان شوارع المدينة..تراودان حلما صاحَبه صُبحا.. مساء..حُلم سكن أعماقه..كيف لا يسكن أعماقه؟ وهو الذي نشأ وترعرع في عائلة فقيرة..هو الذي تجرّع الخصاصة أنواعا وتذوّق مذلّة السّؤال..هو الذي قست عليه الأيّام وجرّدته الأقدار من أحلامه..هو اليتيم الذي اختطفت منه المنيّة والده وعوده لم يشتدّ بعد..هو الذي تجرّع مرارة اليُتم ومرارة القهر..هو الذي ينام ويصحو على صورة حزينة أدمت مآقيه.. يتمزّق فؤاده ألف مرّة إذا رأى أمّه تعود كل مساء دامية اليديْن..مصفرّة الوجه من العمل في منازل أصحاب الدّنانير والملايين..تعود محملّة بسلّة فيها بقايا الطّعام وبعض الخضر والغلال تكرّمت بها فلانة وعلاّنة.
كان يتحرّق شوقا لذلك اليوم الذي يتمّ فيه دراسته الجامعية ويتحصّل على وظيفة تقيه وعائلته مغبّة الفقر وذلّ السؤال.. أضحت تلك الهواجس شغله الشّاغل يعيش بها ولها..ما انفكّ يرسل المطالب مرفوقة بشهاداته الجامعيّة والتّربصات التّي قام بها.. هيهات هيهات..ترتطم الأحلام بصخور الواقع الأليم.. ليس له شفيعا ولا واسطة..كم مرّة نجح في اختبارات كتابيّة..تزغرد أمّه المسكينة...تفرّق المشروبات على أهل الحيّ..تعود البسمة فترتسم على محيّاها..يراوغها الأمل..تتهلّل الوجوه تهنّئ الأستاذ..ما أروع هذا اللقب..راود أحلامه منذ صباه..كان يسعد لمّا يناديه أقاربه.."تعال يا أستاذ..خذ يا استاذ..أشتر لنا خبزا طازجا من الفرن يا استاذ"
تكبر معه حلمه..درس وٱجتهد..سهر الليّالي..جافى الكرى..كلّ شيء يهون من أجل لقب أستاذ يُقيّد على بطاقة تعريفه الوطنيّة..لكنّ الأستاذ شحيح..لم تنعم عليه الحياة بهذا اللقب العزيز ..يتقدّم الى الإختبار الشّفوي.. فتضيع كل الأحلام..نصحه أصدقاؤه بالتخلّي عن هذا الحلم المستعصي والبحث عن شغل آخر..رفض وأصرّ على تحقيق حلمه..كان يدافع عن أستاذه..بل يستميت في الدّفاع عنه..كان ومازال يقول أنّ مهنة التّدريس من أشرف المهن وأنّ من مارسها بإخلاص وضمير يكون مع الأنبياء والرّسل..يسخرون منه وينشغلون عنه.. يطول المشوار والأستاذ حلم مبتور..ينفضّ عقد الخلاّن عن مجلسه..تحصّل جميعهم على عمل..يكسبون منه مالا..يكفيهم ليالي الصّخب والمجون في حانات المدينة التّي ترتادها الحسنوات...مشرقات...متعطّرات...مُغريات..غير مكسوات الاّ بما ستر..يدخل الأصدقاء الحانة محترمين ويغادرونها غير محترمين..خاويي الجيوب والعقول..لقد سلبتهم الفاتنات أدبهم وعقولهم وزادهم..يندمون على ما فعلوا..يُقسمون بأغلظ الإيمان أنّهم سيُقاطعون هذه الدّور وهاته المحترفات..محترفات السّطو على المحافظ اللواتي تفنّن في الاستيلاء على أموالهم..يعودون الى بيوتهم يجرّون أذيال الخيبة..تفوح منهم روائح كريهة..روائح الخيانة والعَفن..ينامون غير آبهين بما يدور حولهم.. يستيقظون مع إطلالة صباح جديد..ينسون القسم والنّدم يستحمّون..يُسرعون الخطى الى مراكز عملهم..يستعجلون الوقت..يلتقون عند الغروب..يسيرون مفقودي العقول الى أوكار الثعالب..وتمرّ الأيّام..وهم هائمون في عالم الضّياع..ويقضي هو أيّامه يركض وراء لقب الأستاذ الذّي يستبدّ ويرفض الإنصياع..هجرته الحبيبة..لم تستطع معه صبرا.."ظروفه القاسية".قال والدها.. وأردف.."هل بعض الملاليم التي يتحصّل عليها من مساعدة أصحاب المحلات التّجارية تجعلك تضحّين بابن أخي وتنتظرينه حتى تغتالين شبابك؟ " وقبلت ابن عمّها صاحب المصنع الوحيد في الجهة..المصنع الذّي يشغّل مآت العمّال..لم تستطع رفض طلبه وتجاهل وعوده..حبيبها مازال يركض وراء لقب أستاذ ..سيشتعل رأسها شيبا وستُصاب بالعنوسة والأستاذ لم يستعدّ بعد لفتح بيت الزّوجية..ذرفت الدّموع يوم كُتب كتابها ..مرّ بها شريط الذّكريات الجميل..تلك الأوقات المسروقة من الزّمن.. همسات..قبلات يختطفها في غفلة منها ومن الطّفيليين..رسائل الغرام التي ظلّت تحتفظ بها في خزانتها ..تمنعها عن عيون أمّها وأختها الصغرى..هدايا بسيطة في عيد الميلاد وفي عيد الحبّ .. يقدّمها محمود عربون حبّ ووفاء ..كان يجمع ثمنها من ميزانيته المتواضعة..لم تبال بقيمة الهديّة.. قلبان متحبّان يتراشقان بعبارات الوجد والهيام.. يتقاسمان الأحلام..يبنيان عشّ غرام يزردان من الصّبر غلالة ورديّة تكفيهما الإنتظار..
"لكنّ الغرام لن يشتريَ الخبز ولن يدفع إيجار الشقّة" تقول أمّها..رجّحت كفّة العقل على العاطفة..هجرته مُكرَهة..خلّف هجرها في قلبه مزيدا من الألم والحسرة والنّقمة على الأقدار المتعنّة ..تهاوت الأحلام الواحدة تلو الأخرى..انقضّ صرخ الأماني انقضاض جبل دكّه زلزال رهيب فأغداه هشيما..أرسلت تعلمه بزواجها..اشتعلت نيران الأسى..التاع فؤاده وهو يفقد عزيزة قاسمته أحلامه وبثّت في فؤاده مشاعر دافئة كانت سنده وقت تشتدّ الشّدائد.."لكن للصّبر حدود " قالت أم كلثون..عذرها وتمنّى لها للسّعادة..حتىىإن كانت هذه للسّعادة مع غيره..لا يهمّ..المهمّ أن تُحضى بسعادة كبيرة..تقوقع داخل دائرة الأحزان.. رأى الماضي..الحاضر..المستقبل.. يتهاوى الواحد تلو الآخر..هاهي حبيبته ورفيقة دربه تضيع كما ضاع كلّ شيء..لماذا يعيش؟ أليتجرّع مرارة الخيبة؟ أليجترّ مرارة الأحزان؟ اختلى بنفسه..ذرف الدّموع الحارقة.. يكره أن يرى النّاس دموعه..عرف بداية الأحزان يوم وارى والده التّراب..يومها سيطر على دموعه..كان يقول أنّ الدّموع تكشف ضُعف الإنسان..وتقول أمّه أنّ الدّموع تغسل الآلام..يحترم أمّه..لكنّه يحترم أحزانه ويُجلّ دموعه..وصل المحطّة..أسدل ستارا على الذّكريات.. غادر الحافلة يمنّي النّفس بحلم يتحقّق ويغتال الآلام.. ولج الوزارة.. يعرف كلّ مكتب فيها..كلّ شبر منها..ألف الوجوهَ وألفتْه..سار متثاقل الخطى.. يحمل ملفّا بلّله عرق إبطه..لم يعبأ ..تعوّد على هذا الأمر..ناداه الحاجب..أستاذ..تفضّل..اهتزّ لسماع هذا اللقب الحبيب..نظر الى مُخاطبه وهزّ رأسه..أومأ اليه دون أن تفترّ شفتاه عن ابتسامة ..أنَّ للبسمة أن تعرف طريقها الى قلب أنهكه التّعب وأضناه ضياع أحلام؟ اقترب منه رجل آخر في عقده الرّابع أشْيَب الشّعر رثّ الهندام..همس قائلا.."تروج أخبار في الوزارة مفادها أنّه تمّ انتداب مائة وعشرين من حاملي الشّهادات العليا للتّدريس في احدى البلدان العربيّة المجاورة..وأظنّ أنّ اسمك أدرج في القائمة"
شعر بخفقات قلبه تتضاعف..هل استجاب الله الى دعاء تلك الأرملة الحزينة؟ هل سأزاول المهنة التي أحلم بها؟ هل سأدفع ديون أمّي ويكفّ الدّائنون عن مطالبتها بمستحقّاتهم؟ هل سأشتري ملابس العيد لأخوتي الصّغار؟ وتهاطلت الأسئلة تؤجّج الأمل وتلهب نيران الفرح..رُحماك ربّي..
ولج الرّدهة المُطلّة على مكتب شاسع..إشرأبّت الأعناق..تدافع الحالمون..هذا يصرخ..هذا يحتج..هذا يهدّد..هذا يدعو المجموعة الى الاعتصام في بهو الوزارة..انهارت الأعصاب.فقدوا السّيطرة على أنفسهم..طال الإنتظار..نهشت الخصاصة قلوبهم.. ضاعت أحلامهم وأهملت على مكاتب المسؤولين..حاول أن يتسلّل ليصل الى القائمة..دفعته الأكتاف والمناكب..رفسته الأرجل..لا يهتمّ..اسمه يا رب من بين الأسماء..تحدّى الزّحام بقلب واجف..توقّفت رجلاه أمام القائمة..تدافعت دقّات قلبه..ارتعشت عيناه..فركهما بيديه المُرتعشتين..يا إلاهي..ها هو..نعم إسمه..بعد سنوات عجاف..تمنّ عليه الاقدار بالرّجاء..يعيد قراءة الإسم..هو بعينه..محمود بن ........... منْ بين الزّحام يستمع الى زغرودة أمّه ممزوجة بزغاريد الجارات..يترأى له والده يوزّع قوارير المشروبات على أهل الحيّ.. اخوته يهرعون اليه..يتعلّقون بثيابه البالية..تفيض الدّموع غزيرة من مُقلتيه..تسيل على خدّه..لأوّل مرّة يسمح لها بمُغادرة مُستقرّها أمام الملأ..يدفع عنه المتزاحمين ..يغادر الوزارة..يركض وراء أحلام تتولّد من رحم الظّلام ...........
نعيمة المديوني
Comments