top of page
Search
Writer's pictureasmourajaat2016

أقدام على الرّمل بقلم الأديبة والروائيّة التونسيّة زهرة مراد



أنا أعْشَقُ ٱلْبَحْرَ. يُعْجِبُنِي ٱمْتِدَادُ لَوْنِهِ ٱلْأَزْرَقِ وَهُوَ هَادِئٌ تَسْرِي فَوْقَ صَفِيحَةِ سُكُونِهِ نَسَائِمُ ٱلصَّبَاحِ ٱلْبَاكِرِ... حِينَمَا تَتَدَاعَى مَوْجَاتُهُ وتُدَاعِبُ رِمَالَ ٱلشَّاطِئِ بِرِفْقٍ... أَعْشَقُ ٱلْبَحْرَ حِينَ تُغَازِلُ مِيَاهُهُ ضَوْءَ ٱلْقَمَرِ فِي لَيَالِي ٱلصَّيْفِ ٱلنَّدِيَّةِ. ويَسْحَرُنِي اِنْكِسَارُ أَشِعَّةِ شَمْسِ ٱلظَّهِيرَةِ فَوْقَ مَوْجَاتِهِ ٱلْمُتَلَاحِقَةِ. وَأَنْتَشِي أَكْثَرَ بِرُؤْيَتِهِ وَهُوَ هَائِجٌ مُزْبِدٌ فِي فَصْلِ ٱلرِّيحِ وَٱلْعَوَاصِفِ، حِينَ تَعْتُو أَمْوَاجُهُ وَتَعْلُو وَسُرْعَانَ مَا تَتَكَسَّرُ وَهِيَ تَصْطَدِمُ بِٱلصُّخُورِ وَتَتَنَاثَرُ مُتَطَايِرَةً فِي ٱلْفَضَاءِ وَتَتَفَتَّتُ عَلَى ٱلرِّمَالِ... أَشْعُرُ بِعَظَمَتِهِ وَتَهَابُهُ نَفْسِي... فِي تِلْكَ ٱللَّحْظَةِ. وَلَكِنَّنِي أَعْشَقُهُ...

كُنْتُ، أَنَا وَأَصْدِقَائِي، قَدْ قَرَّرْنَا أَنْ نَحْتَفِلَ مَعًا بِتَخَرُّجِنَا مِنْ ٱلْمَعْهَدِ ٱلْعَالِي لِلْفَنِّ ٱلْمَسْرَحِي. وَعَنَّ لِي أَنَّ ٱلْحَفْلَ سَيَكُونُ غَايَةً فِي ٱلْمُتْعَةِ عَلَى رَمْلِ ٱلشَّاطِئِ... اِقْتَرَحْتُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَتَحَمَّسُوا لِلْفِكْرَةِ. هَا أَنَا ٱلْيَوْمَ أَتَمَشَّى عَلَى ٱلشَّاطِئِ وَأَنْعَمُ بِرَوْنَقِهِ رَيْثَمَا يَلْتَحِقُ بِي ٱلْأَصْدِقَاءُ لِنَجْتَمِعَ... اِحْتِفَالًا. سَأَسْتَمْتِعُ بِٱلْمَشْيِ حَافِيَةً وَقَدَمَايَ تَغُوصَانِ فِي ٱلرِّمَالِ ٱلْمُبَلَّلَةِ ٱلنَّدِيَّةِ حَتَّى يَصِلُوا. كَمْ هُوَ مُنْعِشٌ أَنْ تَحْتَضِنَنَا ضَفَّةُ ٱلْبَحْرِ!... ٱلْيَوْمَ، اِكْتَشَفْتُ أَنَّ ٱلْبَحْرَ أَرْوَعُ وَأَنَا أَتَأَمَّلُهُ وَحْدِي فِي صَمْتٍ، بَيْنَمَا ٱلشَّاطِئُ خَالٍ لَا حَيَاةَ فِيهِ لِبَشَرٍ سِوَايَ. دَاعَبْتُ ٱلرَّمْلَ بِقَدَمَيَّ، وَلَاعَبْتُ ٱلْأَمْوَاجَ ٱلْخَفِيفَةَ تُلَامِسُ قَدَمَيَّ ٱلْحَافِيَتَيْنِ فِي مَدٍّ وَجَزْرٍ وَأَنَا أَمْشِي... أَمْشِي... أَنْظُرُ إِلَى ٱلْمَدَى ٱلْوَاسِعِ... أَتَأَمَّلُ عَرْضَ ٱلْبَحْرِ أَحْيَانًا فَأَشْعُرُ بِٱلْاِرْتِيَاحِ وَٱلرَّهْبَةِ مَعًا... وَيَشْرَدُ ذِهْنِي بَعِيدًا عَنِ ٱلْمَكَانِ أَحْيَانًا أُخْرَى فَأَسْتَرْجِعُ ذِكْرَيَاتِ ٱلْجَامِعَةِ وَمَا جَمَعَنِي بِٱلْأَصْدِقَاءِ...

حَمَلَتْنِي نَسَائِمُ ٱلْبَحْرِ إِلَى فَضَاءَاتٍ شَاسِعَةٍ... اِسْتَقْبَلَتْ رِئَتَايَ أَكْبَرَ كَمِّيَّةٍ مِنَ ٱلْأُوكْسِيجِينِ... وَٱمْتَزَجَتْ بِدَاخِلِي ٱلْمَشَاعِرُ... وَٱنْتَشَيْتُ وَأَنَا أُتَابِعُ ٱلنَّوَارِسِ حَائِمَةً فِي ٱلسَّمَاءِ.

بَعْدَ حِينٍ، لَمَّا نَجْتَمِعُ، كُلُّ ٱلْأَصْدِقَاءِ وَٱلْأَحِبّةِ، عَلَى ٱلرِّمَالِ ٱلْفِضِّيَّةِ بَيْنَمَا ٱلْبَحْرُ وَٱلْغَابَةُ ٱلْكَثِيفَةُ يَحْتَضِنَانِنَا، سَيَعْلُو صَوْتُ ٱلْمُوسِيقَى يُرَاقِصُ ٱلْفَضَاءَ... وَتَتَحَرَّكُ ٱلْأَقْدَامُ عَلَى ٱلرَّمْلِ... وَيَتَمَايَلُ ٱلْخَيْزُرَانُ عَلَى إِيقَاعَاتِ ٱلْعَزْفِ... وَتُدَاعِبُ ٱلْأَقْدَامُ ٱلرَّمْلَ علَى أَنْغَامِ لَحْنٍ فَرِيدٍ مَاتِعٍ بَدِيعٍ... وَتَتَمَطَّى ٱلْأَجْسَامُ رَاقِصَةً... سَابِحَةً فِي هَوَى أَشْجَانِهِ...

طَالَ اِنْتِظَارِي ولَمَّا يَتَّصِلِ ٱلْأَصْدِقَاءُ بَعْدُ. فَكَّرْتُ أَنَّهُمْ سَيُهَاتِفُونَنِي مَا إِنْ يَصِلُوا ٱلْمَدِينَةَ. إِنَّهُمْ يَزُورُونَ قْلِيبِيَةَ... ٱلْمَدِينَةَ ٱلسَّاحِلِيَّةَ ٱلْفَاتِنَةَ... لِأَوَّلِ مَرَّةٍ.

سِرْتُ وَٱلشَّاطِئَ حَتَّى بَلَغْتُ مَكَانًا قَصِيًّا قَلَّمَا يَرْتَادُهُ ٱلْمُصْطَافُونَ. جَلَسْتُ عَلَى ٱلرَّمْلِ ٱلْمُنْعِشِ وَأَخَذْتُ أُتَابِعُ حَرَكَاتِ ٱلْأَمْوَاجِ مَدًّا وَجَزْرًا... شَارِدَةَ ٱلذِّهْنِ... مُرْتَاحَةَ ٱلْبَالِ... وَقَدْ تَعَطَّلَ إِحْسَاسِي بِٱلزَّمَنِ... فَلَمْ أَدْرِ كَمْ مَكَثْتُ...

فَجْأَةً، تَنَاهَى إِلَى سَمْعِي ضَجِيجٌ. فَنَهَضْتُ مِنْ مَكَانِي. خَطَوْتُ خَطَوَاتٍ قَلِيلَةٍ أَسْتَطْلِعُ ٱلْأَمْرَ... فَلَمَحْتُ مَوْكِبًا غَرِيبًا يَصِلُ ٱلْمَكَانَ. تَخَفَّيْتُ خَلْفَ شَجَرَةٍ فِي ٱلْغَابَةِ ٱلْمُحَاذِيَةِ لِلشَّاطِئِ. وَبَقِيتُ أَرْقُبُ ٱلْمَشْهَدَ فِي صَمْتٍ.

نَزَلَتْ سَيِّدَةٌ جَمِيلَةٌ بَاذِخَةُ ٱلْأنَاقَةِ مِنْ عَرَبَةٍ مَلَكِيَّةٍ مَهِيبَةٍ... رِدَاؤُهَا ٱلطَّوِيلُ بِلَوْنِهِ ٱلْقِرْمِزِيِّ ٱلْبَدِيعِ يَفْتَحُ عَلَى ذِرَاعَيْهَا حَتَّى أعَلَى ٱلْكَتِفِ... شَعْرُهَا مُصَفَّفٌ بِطَرِيقَةٍ جَمِيلَةٍ يَنْسَدِلُ إِلَى ٱلْخَلْفِ... عَلَى ظَهْرِهَا... تُحَرِّكُهُ نَسَائِمُ ٱلْبَحْرِ لِيَزِيدَ مِنْ بَهَائِهَا... كَانَ يَصْحَبُهَا مَوْكِبٌ مِنَ ٱلرِّجَالِ مُدَجَّجِينَ بِٱلسِّلَاحِ. وَقَفَتِ ٱلْحَسْنَاءُ تَتَأَمَّلُ ٱلْبَحْرَ ثُمَّ تَنَهَّدَتْ وَٱسْتَدَارَتْ نَحْوَ رِجَالِهَا وَقَالَتْ: "سَأَتَمَشَّى عَلَى رِمَالِ ٱلشَّاطِئِ. اِبْقَوْا هُنَا وَإِنْ أَبْطَأْتُ... اِلْحَقُوا بِي."

وَسَارَتْ تَتَهَادَى عَلَى ٱلرَّمْلِ وَتَتَمَايَلُ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ.

تَخَفَّيْتُ وَرَاءَ أَشْجَارِ ٱلْغَابَةِ وَتَبِعْتُهَا بِهُدُوءٍ حَتَّى لَا أَلْفِتَ اِنْتِبَاهَهَا وَرِجَالَهَا. كَادَتْ تَتَفَطَّنُ لِوُجُودِي وَأَنَا أَتَنَقَّلُ بَيْنَ شَجَرَةٍ وَأُخْرَى. فَعَمَدْتُ إِلَى ٱلْاِبْتِعَادِ قَلِيلًا دَاخِلَ ٱلْغَابَةِ حَيْثُ كُنْتُ أَرْقُبُهَا مِنْ بَعِيدٍ دُونَ أَنْ تَشْعُرَ بِوُجُودِي. مَشَتْ طَوِيلًا... وَفَجْأَةً تَرَاءَى طَيْفُ شَخْصٍ بَدَا جَالِسًا عَلَى صَخْرَةٍ.

تَوَقَّفَتِ ٱلْحَسْنَاءُ لَحْظَةً. بَدَتْ مُتَرَدِّدَةً. هَلْ هِيَ خَائِفَةٌ مِنَ ٱلشَّخْصِ ٱلْغَرِيبِ؟ أَمْ تُرِيدُ ٱلتَّأَكُّدَ مِنْ هَوِيَّتِهِ؟

إِنَّهَا اِمْرَأَةٌ أُخْرَى، بَدَوِيَّةٌ... بِجَمَالٍ مُخْتَلِفٍ وَبِلِبَاسٍ وَهَيْأَةٍ مُخْتَلِفَيْنِ، تَحْمِلُ سَيْفًا وَهِيَ جَالِسَةٌ هُنَاكَ... تَنْظُرُ إِلَى صُنْدُوقٍ أَخْضَرَ ٱلْلَّوْنِ تَآكَلَتْ بَعْضُ جَوَانِبِهِ مَزْرُوعًا وَسَطَ ٱلرَّمْلِ قَرِيبًا مِنَ ٱلْغَابَةِ وَقَدْ بَدَا عَلَيْهَا ٱلْاِسْتِغْرَاقُ فِي ٱلتَّفْكِيرِ...

رَأَتْ ٱلْمَرْأَةُ ٱلْبَدَوِيَّةُ ٱلْمُسَلَّحَةُ ٱلْحَسْنَاءَ ٱلْأَنِيقَةَ مُتَّجِهَةً نَحْوَهَا فَظَلَّتْ تَنْظُرُ إِلَى ٱلْأشْجَارِ حِينًا وَإلَى ٱلصُّنْدُوقِ ٱلْأَخْضَرِ حِينًا آخَرَ دُونَ أَنْ تُحَرِّكَ سَاكِنًا. لَبَدْتُ فِي مَكَانٍ يَسْمَحُ لِي بِرُؤْيَةِ ٱلْمَرْأَتَيْنِ بَيْنَمَا قَلْبِي يَكَادُ يَنْفَطِرُ خِشْيَةَ أَنْ يَحْدُثَ ٱلْأَسْوَأُ. أَتُرَى وَصَلَ "ٱلدَّوَاعِشُ" إِلَى أَرْضِنَا!؟ أَتُرَاهُ مَوْعِدٌ مَضْرُوبٌ مُسَبَّقًا بَيْنَ ٱلْمَرْأَتَيْنِ لِأَمْرٍ سِرِّيٍّ؟ مَنْ هَاتَانِ ٱلْمَرْأتَانِ يَا إِلَهِي؟ لَعَلَّ كَارِثَةً قَرِيبَةً سَتَحُلُّ بِنَا! هَلْ يَعْبَثُ بَعْضُهُمْ بِمَصَائِرِنَا؟! أَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَا مُرْسَلَتَيْنِ مِنْ قِبَلِ ٱلْمُتَطَرِّفِينَ؟!

اِقْتَرَبْتُ وَأَرْهَفْتُ ٱلسَّمْعَ أَكْثَرَ. فَإِذَا بِٱلْحَسْنَاءِ تَسْأَلُ بِنَبْرَةٍ حَازِمَةٍ وَقَدْ تَوَقَّفَتْ عَلَى بُعْدِ خُطُوَاتٍ مِنَ ٱلْمَرْأَةِ ٱلْبَدَوِيَّةِ:

- مَنْ أَنْتِ وَمَاذَا تَفْعَلِينَ فِي مَمْلَكَتِي؟

فَهِمْتُ حِينَهَا أَنَّ لَا مَوعِدَ بَيْنَهُمَا. تَابَعْتُ ٱلْإِنْصَاتَ. رَدَّتْ ٱلْمَرْأَةُ ٱلْبَدَوِيَّةُ دُونَ أَنْ تَنْهَضَ:

- مَمْلَكَتُكِ؟! غَرِيبٌ مَا أَسْمَعُ! كَيْفَ تَقُولِينَ مَا قُلْتِ وَأَنْتِ تَقِفِينَ عَلَى أَرْضِنَا؟ لَقَدْ وَرِثْتُ هَذِهِ ٱلْأَرْضَ عَنْ أَجْدَادِي وَمَا عَلِمْتُ يَوْمًا أَنَّهُمْ قَدْ تَخَلَّوْا عَنْهَا؟ أَنْتِ... مَنْ تَكُونِينَ؟ وَكَيْفَ جِئْتِ؟ وَمَا ٱلَّذِي يَجْعَلُكِ تُخَاطِبِينَنِي بِهَذِهِ ٱلثِّقَةِ... أَلَا تَعْرِفِينَ مَنْ أَنَا؟

قَالَتْ ٱلْحَسْنَاءُ بِنَبْرَةٍ فِيهَا تَعَالٍ:

- قِفِي وَأَنْتِ تَتَحَدَّثِينَ إِلَيَّ... أَنَا مَلِكَةُ ٱلْمَدِينَةِ. هَذِهِ مَمْلَكَتِي... أَنْشَأْتُهَا بِنَفْسِي وَسَهِرْتُ عَلَى أَمْنِهَا وَقُوَّتِهَا وَٱزْدِهَارِهَا مُنْذُ زَمَنٍ.

ضَحِكَتِ ٱلْمَرْأَةُ ٱلْبَدَوِيَّةُ دُونَ أَنْ تَنْهَضَ مِنْ مَكَانِهَا. حَدَّقَتْ فِي ٱلصُّنْدُوقِ ٱلْأَخْضَرِ ٱلْمُتَآكِلَةِ بَعْضُ جَوَانِبِهِ وَهُوَ مَزْرُوعٌ فِي ٱلرَّمْلِ وَقَالَتْ:

- ٱللَّعْنَةُ عَلَى ٱلتَّارِيخِ...

ضَحِكَتِ ٱلْمَرْأَةُ ٱلْبَدَوِيَّةُ دُونَ أَنْ تَنْهَضَ مِنْ مَكَانِهَا. حَدَّقَتْ فِي ٱلصُّنْدُوقِ ٱلْأَخْضَرِ ٱلْمُتَآكِلَةِ بَعْضُ جَوَانِبِهِ وَهُوَ مَزْرُوعٌ فِي ٱلرَّمْلِ وَقَالَتْ:

- ٱللَّعْنَةُ عَلَى ٱلتَّارِيخِ...

وَأَضَافَتْ:

- بَلْ ٱللَّعْنَةُ، كُلُّ ٱللَّعْنَةِ، عَلَى ٱلَّذِينَ زَيَّفُوا حَقَائِقَ ٱلتَّارِيخِ...

زَادَتْ حَيْرَتِي وَقُلْتُ لِنَفْسِي: "شَكْلُ ٱلْمَرْأَتَيْنِ غَرِيبٌ وَمُرِيبٌ. هَذِهِ... بَاذِخَةُ ٱلْجَمَالِ وَٱلْأنَاقَةِ، وَتِلْكَ... مُسَلَّحَةٌ، لِبَاسُهَا بِأَلْوَانٍ زَاهِيَةٍ... مَا ٱلَّذِي جَمَعَهُمَا فِي هَذَا ٱلْمَكَانِ بِٱلذَّاتِ؟! مَظْهَرُهُمَا لَا يُوحِي بِأَنَّهَمَا مِنْ أَتْبَاعِ "ٱلدَّوَاعِشِ"... فَلَوْ كَانَ ٱلْأَمْرُ كَذَلِكَ لَلَبِسَتْ كِلْتَاهُمَا ذَاكَ ٱلْجِلْبَابَ ٱلْأَسْوَدَ أَوِ ٱلْبُرْقُعَ ٱلَّذِي يَمْنَعُ مِنَ ٱلتَّعَرُّفِ عَلَيْهِمَا... يَبْدُو أَنَّ فِي ٱلْأَمْرِ سِرًّا يَجِبُ أَنْ أَكْتَشِفَهُ..."

أَرْهَفْتُ ٱلسَّمْعَ مُجَدَّدًا. وَدَقَّقْتُ ٱلنَّظَرَ.

بَدَا عَلَى وَجْهِ ٱلْحَسْنَاءِ نَوعٌ مِنَ ٱلْحَيْرَةِ. تَرَاجَعَتْ خُطُوَاتٍ قَلِيلَةً ثُمَّ أَعَادَتْ عَلَى مَسَامِعِ ٱلْبَدَوِيَّةِ بِنَبْرَةٍ أَقَلَّ حِدَّةٍ أَنْ تَنْهَضَ لِتَتَحَاوَرَا.

حِينَهَا، هَبَّتِ ٱلْمَرْأَةُ ٱلْبَدَوِيَّةُ وَاقِفَةً... كَانَتْ طَوِيلَةَ ٱلْقَامَةِ، شَامِخَةً كَٱلنَّخْلَةِ، قَوِيَّةً، لَهَا نَظْرَةٌ ثَاقِبَةٌ... تَلْبَسُ لِبَاسَ ٱلْبَدْوِ ٱلْجَمِيلِ ٱلْمُزَخْرَفِ. نَظَرَتْ فِي عَيْنَيْ زَائِرَتِهَا ٱلْحَسْنَاءِ.

تَأَمَّلَتْهَا ٱلْحَسْنَاءُ بِدَوْرِهَا لَحَظَاتٍ ثُمَّ قَالَتْ:

- كَأَنَّنِي أَعْرِفُكِ. أَوْ رُبَّمَا رَأَيْتُ اِمْرَأَةً تُشْبِهُكِ، أَوْ لَعَلِّي رَأَيْتُ نِسَاءً يَلْبَسْنَ مِثْلَ ثَوْبِكِ ٱلْمُلَوَّنِ... لَا أَدْرِي أَيْنَ... لَكِنَّ مَلَامِحَكِ تَبْدُو غَيْرَ غَرِيبَةٍ عَنِّي... هَذَا "ٱلرِّدَاءُ" ٱلْأَحْمَرُ ٱلَّذِي تَرْتَدِينَ يُغَطِّيكِ عَدَا رَأْسَكِ وَيَدَيْكِ، وَهَذِهِ ٱلْحُلِيُّ ٱلْمُزْدَانَةُ مِنَ ٱلْفِضَّةِ... يَبْدُو أَنَّنِي كُنْتُ رَأَيْتُ ذَلِكَ قَبْلَ ٱلْيَوْمِ...

رَدَّتْ ٱلْمَرْأَةُ ٱلْبَدَوِيَّةُ مُبْتَسِمَةً:

- لَعَلَّكِ زُرْتِنَا سَابِقًا.

قَالَتْ ٱلْمَرْأَةُ ٱلْأنِيقَةُ فِي تَعَالٍ:

- زُرْتُكُمْ؟! أَنَا فِي مَمْلَكَتِي. أَنَا مَنْ أَدْعُو ٱلزَّائِرِينَ. أَلَا تُدْرِكِينَ قَدْرَ ٱلْمُلُوكِ وَقِيمَتَهُمْ؟!

ضَحِكَتْ ٱلْمَرْأَةُ ٱلْبَدَوِيَّةُ وَأَمْسَكَتْ بِلِجَامِ حِصَانِهَا ٱلَّذِي كَانَ قَرِيبًا مِنْهَا وَٱعْتَلَتْ صَهْوَتَهُ وَقَهْقَهَتْ بَيْنَمَا نَسَمَاتُ ٱلْبَحْرِ تَهُزُّ أَطْرَافَ رِدَائِهَا ٱلْأَحْمَرِ.

أَضَافَتْ ٱلْمَرْأَةُ ٱلْأَنِيقَةُ وَقَدْ بَدَتْ عَلَيْهَا حَيْرَةٌ:

- صَحِيحٌ أَنَّنِي لَمْ أُولَدْ هُنَا... وَلَمْ أَنْشَأْ فِي هَذِهِ ٱلْأَرْضِ.. لَكِنَّنِي جِئْتُهَا ضَيْفَةً حِينَ هَرَبْتُ مِنْ أَخِي لِأَنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْتُلَنِي مِنْ أَجْلِ ٱلثَّرْوَةِ وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِٱلْحُكْمِ. هَرَبْتُ مِنْ مَوْطِنِي ٱلْأَوَّلِ وَنَزَلْتُ هُنَا، فِي هَذِهِ ٱلرُّبُوعِ حَيْثُ اِسْتَقْبَلَنِي أَهْلُهَا بِكُلِّ كَرَمٍ وَسَخَاءٍ. تَمَكَّنْتُ مِنْ أَنْ أَشْتَرِيَ مِنْهُمْ قِطْعَةَ صَغِيرَةً مِنَ الأَرْضِ، شَيَّدْتُ فَوْقَهَا قَلْعَةً لِمَنْ قَدِمُوا مَعِي مِنْ شُبَّانٍ وَبَنَاتٍ. وَقَدْ أَغْدَقْتُ ٱلْعَطَاءَ عَلَى سُكَّانِ ٱلْمَكَانِ ٱلْأَصْلِيِّينَ لِحُسْنِ أَخْلَاقِهِمْ، فَتَعَاوَنُوا مَعِي وَعَمِلْنَا مَعًا، وَٱسْتَطَعْتُ بِمُسَاعَدَتِهِمْ أَنْ أُشَيِّدَ مَدِينَةً قَوِيَّةً وَأُوَسِّعَهَا. تَحَوَّلَتْ ٱلْمَدِينَةُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى اِمْبَرَاطُورِيَّةٍ عَظِيمَةٍ طَوَّرْنَا فِيهَا ٱلتِّجَارَةَ وَٱعْتَنَيْنَا بِٱلزِّرَاعَةِ وبِٱلْمِعْمَارِ وَٱلْفَنِّ...

تَرَجَّلَتِ ٱلْمَرْأَةُ ٱلْبَدَوِيَّةُ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ عَلَى صَهْوَةِ حِصَانِهَا وَقَاطَعَتْ ٱلْحَسْنَاءَ ٱلْأَنِيقَةَ قَائِلَةً:

- هَذِهِ أَنْتِ دِيدُونْ إِذَنْ! عِلِّيسَةُ صَاحِبَةُ ٱلتِّمْثَالِ ٱلْجَمِيلِ ٱلْمُنْتَصِبِ فِي مَتْحَفِ ٱللُّوفِرْ بِبَارِيسَ! لَقَدْ تَعَرَّفْتُ عَلَيْكِ مِنْ قَبْلُ... دُونَ أنْ أَرَاكِ... نَعَمْ. أَنْتِ مَنْ تَحْكِي عَنْكِ ٱلْأَخْبَارُ، وَلَا نَدْرِي إِنْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا أَمْ لَا، يَبْدُو أَنَّكِ تَمَكَّنْتِ مِنْ شِرَاءِ قِطْعَةٍ مِنْ أَرْضِنَا بِفَضْلِ تَحَيُّلِكِ وَدَهَائِكِ. زَعَمْتِ لِأَجْدَادِي أَنَّكِ تَحْتَاجِينَ إِلَى أَرْضٍ بِقَدْرِ "جِلْدِ ثَوْرٍ". وَبَعْدَ مَا بَاعُوكِ قِطْعَةَ ٱلْأَرْضِ، تَعَمَّدْتِ قَدَّ جِلْدِ ٱلثَّوْرِ إِلَى سُيُورٍ رَقِيقَةٍ تَمَكَّنْتِ بِوَاسِطَتِهَا أَنْتِ وَأَهْلُكِ مِنْ تَحْدِيدِ مَقَاسَاتِ قِطْعَةِ أَرْضٍ عَلَى رَبْوَةٍ بَنَيْتُمْ عَلَيْهَا مَدِينَةً وَاسِعَةً مُطِلَّةً عَلَى ٱلْبَحْرِ... أَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ٱلْأَمْرُ تَحَيُّلًا؟

قَالَتِ ٱلْحَسْنَاءُ وَعَلَى وَجْهِهَا عَلَامَاتُ ٱلْاِسْتِغْرَابِ:

- مَهْلًا! مَهْلًا! قُلْتِ أَجْدَادَكِ؟! فَهِمْتُ ٱلْآنَ. أَنْتِ مِنْهُمْ. لِذَلِكَ أَحْسَسْتُ كَأَنِّي رَأَيْتُكِ مِنْ قَبْلُ... أَمَّا مَا قُلْتِهِ عَنْ شِرَاءِ ٱلْأَرْضِ فَلَيْسَ ذَلِكَ صَحِيحًا. إِنَّهَا حِكَايَاتٌ مُلَفَّقَةٌ. تَعْرِفِينَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَنْقُصُ أَمَّا ٱلْأَخْبَارُ وَٱلْحِكَايَاتُ فَتَزِيدُ. دَعْكِ مِنَ ٱلْأَسَاطِيرِ. قُلْتُ لَكِ إِنَّ أَهْلَ هَذِهِ ٱلرُّبُوعِ كَانُوا طَيِّبِينَ وَلَهُمْ مِنَ ٱلْكَرَمِ مَا يَحْمِيهِمْ مِنَ ٱلْخِدَاعِ. كُنْتُ حَدَّثْتُهُمْ بِمَا تَعَرَّضْتُ لَهُ مِنْ قَهْرٍ وَظُلْمٍ مِنْ أَخِي بِجْمِالِيُونْ فَأَنْصَفُونِي بِتَلْبِيَةِ طَلَبِي. لَمْ يَكُنْ فِي نِيَّتِي إِلَّا ٱلْعَيْشُ بِسَلَامٍ مَعَهُمْ هُنَا.

نَظَرَتْ إِلَيْهَا ٱلْبَدَوِيَّةُ مُبْتَسِمَةً:

- أَعْرِفُ أَنَّ أَجْدَادِي طَيِّبُونَ وَشُجْعَانُ أَيْضًا. لَكِنَّكِ كُنْتِ مَاكِرَةً وَمُتَكَبِّرَةً. دَعَاكِ جَدِّي لِتَكُونِي زَوْجَةً لَهُ فَأَبَيْتِ، وَأَقْدَمْتِ عَلَى طَعْنِ نَفْسِكِ بِخِنْجَرٍ مَسْمُومٍ، ورَمَيْتِ بِنَفْسِكِ فِي ٱلنَّارِ ٱلْمُتَأَجِّجَةِ... خَيَّرْتِ ٱلْمَوْتَ عَلَى ٱلزَّوَاجِ وَمُصَاهَرَةِ أَهْلِي ٱلّذِينَ آوَوْكِ وَأَكْرَمُوكِ وَأَهْلَكِ تَكَبُّرًا عَلَيْنَا. وَٱخْتَرْتِ ٱلْمَوْتَ، عَلَى أَنْ تَكُونِي زَوْجَةً لِمَنْ كَانَ لَهُ وَلِأَهْلِهِ فَضْلُ خِدْمَتِكِ وَقَوْمِكِ وَحَاشِيَتِكِ.

أضَافَتِ ٱلْمَلِكَةُ عِلِّيسَةُ وَفِي صَوتِهَا اِسْتِغْرَابٌ:

- أَنْتِ حَفِيدَتُهُمْ إِذَنْ؟

أَجَابَتِ ٱلْبَدَوِيَّةُ وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَى ٱلصُّنْدُوقِ ٱلْأَخْضَرِ ٱلْمُتَآكِلَةِ بَعْضُ جَوَانِبِهِ ٱلْمَزْرُوعِ فِي ٱلرَّمْلِ:

- نَعَمْ. مَعَكِ حَقٌّ إِنْ لَمْ تَعْرِفِينِي. فَقَدْ عِشْتِ فِي أَوَاخِرِ ٱلْقَرْنِ ٱلتَّاسِعِ قَبْلَ ٱلْمِيلَادِ. وَأَسَّسْتِ مَدِينَتَكِ ٱلْحَدِيثَةَ فِي دِيَارِنَا سَنَةَ 814. أَمَّا أَنَا فَعِشْتُ فِي ٱلْقَرْنِ ٱلسَّابِعِ بَعْدَ ٱلْمِيلَادِ. يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا تَفْصِلُ عَهْدَيْنَا.

ثُمَّ اِسْتَدَارَتْ نَحْوَ ٱلْبَحْرِ وَأَضَافَتْ:

- أَنَا تِيهِيَا... أَنَا ٱلْكَاهِنَةُ كَمَا كَانَ يَحْلُو لِلْكَثِيرِينَ أنْ يُنَادُونِي... سَمَّوْنِي دِيهِيَا، وَسَمَّوْنِي ٱلسَّاحِرَةَ أَيْضًا... أَلَمْ يُسَمُّوكِ أَلِيسَّا وَأَلِيسَّارْ وَآخَرُونَ سَمَّوْكِ عِلِّيسَةَ؟ أَنَا تِيهِيَا بِنْتُ تَابْنَة بِنْتُ نِيفَانْ ابِنُ بَاوْرَا... مَلِكَةُ ٱلْأَمَازِيغِ. ٱلْأَسْيَادُ ٱلْأَحْرَارُ... كَانَ ٱلرُّومَانُ يُسَمُّونَنَا ٱلْبَرْبَرَ أَوْ ٱلْبَرَابِرَةَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّنَا مُتَوَحِّشُونَ... فَقَدْ كُنَّا نَعِيشُ حَيَاةً رِيفِيَّةً خَالِصَةً بَيْنَمَا كَانُوا هُمْ يَمْتَهِنُونَ ٱلتِّجَارَةَ وَيَسْكُنُونَ ٱلْقُصُورَ. كَانُوا يَعْتَبِرُونَ أَنْفُسَهُمْ ٱلْأَكْثَرَ تَحَضُّرًا فِي ٱلدُّنْيَا!

وَضَحِكَتْ ٱلْكَاهِنَةُ بَيْنَمَا ٱلْمَلِكَةُ عِلِّيسَةُ تُتَابِعُهَا بِعَيْنَيْهَا وَهِيَ تَتَنَقَّلُ هُنَا وَهُنَاكَ بِخُطُوَاتٍ بَطِيئَةٍ نَاظِرَةً إِلَى ٱلْغَابَاتِ ٱلْخَضْرَاءِ ٱلْمُحَاذِيَةِ لِامْتِدَادِ ٱلسَّاحِلِ تَارَةً، مُتَأَمِّلَةً ٱلصُّنْدُوقَ ٱلْأَخْضَرَ ٱلْمُتَآكِلَةِ بَعْضُ جَوَانِبِهِ ٱلْمَزْرُوعِ فِي ٱلرَّمْلِ تَارَةً أُخْرَى.

أَضَافَتِ ٱلْكَاهِنَةُ:

- هَذِهِ ٱلْأَرَاضِي وَهَذِهِ ٱلسَّوَاحِلُ لَنَا. نَحْنُ أَوَّلُ مَنْ اِسْتَوْطَنَهَا وَعَاشَ فِيهَا. نَحْنُ أَصْلُ هَذِهِ ٱلرُّبُوعِ وَأَهْلُهَا وَسَادَتُهَا فِي شَمَالِ إِفْرِيقِيَا غَيْرَ أَنَّ ٱلشُّعُوبَ وَٱلْمِلَلَ ٱلْأُخْرَى مَا ٱنْفَكَّتْ تَطْمَعُ فِي غَزْوِنَا، تَسْتَوْلِي عَلَى خَيْرَاتِنَا لِمَوْقِعِنَا الْمُطِلِّ عَلَى حَوْضِ الْبَحْرِ الْمُتَوَسِّطِ وَلِخُصُوبَةِ أَرَاضِينَا...

قَاطَعَتْهَا عِلِّيسَةُ قَائِلَةً وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَى ٱلصُّنْدُوقِ ٱلْأَخْضَرِ ٱلْمُتَآكِلَةِ بَعْضُ جَوَانِبِهِ ٱلْمَزْرُوعِ فِي ٱلرَّمْلِ:

- لَقَدْ كُنْتُ أَخْبَرْتُكِ أَنَّنِي لَمْ آتِ إِلَى بِلَادِكُمْ غَازِيَةً إِنَّمَا هَارِبَةً مِنْ ظُلْمِ أَخِي بِجْمَالِيُونْ!

قَهْقَهَتِ ٱلْكَاهِنَةُ وَقَالَتْ:

- تَقُولِينَ ذَلِكَ يَا سَيِّدَةَ قَرْطَاجَ وَلَا أدْرِي إنْ كَانَ عَلَيَّ أنْ أُصَدِّقَكِ أَمْ لَا! كَأنَّكِ تُنْكِرِينَ مَا فَعَلْتُمْ لَنَا، رِجَالُكِ وَأَنْتِ، حِينَ قَرَّرْتُمْ التَّوَسُّعَ خَارِجَ الْمَدِينَةِ الَّتِي بَنَيْتُمُوهَا... طَمَعْتُمْ فِي مَنَاطِقَ وَمَرَافِئَ أُخْرَى وَهُوَ مَا جَلَبَ لَكُمْ وَلِأَجْدَادِي الْوَبَالَ بَعْدَ ذَلِكَ... فَقَدْ غَزَانَا، بِسَبَبِكُمْ، ٱلرُّومَانُ وَٱقْتَحَمُوا ٱلْمَدِينَةَ ٱلَّتِي بَنَيْتُمْ وأَحْرَقُوهَا وَذَرُّوا ٱلْمِلْحَ عَلَى أَرْضِهَا. ثُمَّ غَزَانَا ٱلْبِيزَنْطِيُّونَ وَٱلْوَنْدَالُ... وَحَلَّ ٱلْعَرَبُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي ٱلرُّبُوعِ...

اِقْتَرَبَتْ عِلِّيسَةُ مِنَ ٱلصُّنْدُوقِ ٱلْأَخْضَرِ ٱلْمُتَآكِلَةِ بَعْضُ جَوَانِبِهِ ٱلْمَزْرُوعِ فِي ٱلرَّمْلِ وَهِيَ تَسْأَلُ:

- مَاذَا تَقْصِدِينَ يَا دِيهِيَا؟

- أَقْصِدُ مَا تَعْلَمِينَ تَمَامًا... لَقَدْ لَفَتَ نَجَاحُ قَرْطَاجَ انْتِبَاهَ ٱلرُّومَان وَبَاتَتْ أَرَاضِينَا مَحَطَّ أَنْظَارِهِمْ وَأَطْمَاعِهِمْ... وَقَدْ أَغَارُوا عَلَى بِلَادِنَا مَرَّاتٍ. وَلَوْلَا أَهْلِي مِنَ ٱلْأمَازِيغِ، يَا عِلِّيسَةُ، ٱلّذِينَ كَانُوا مِنْ أَهَمِّ مُكَوِّنَاتِ جَيْشِكُمْ وَقْتَهَا، لَمَا اِسْتَطَاعَتْ قَرْطَاجُ أَنْ تَتَغَلَّبَ عَلَى ٱلرُّومَانِ فِي عَدِيدِ ٱلْحُرُوبِ. إِلَّا أَنَّ جَشَعَكُمْ جَعَلَكُمْ تَنْفَرِدُونَ بِٱلْقَرَارَاتِ وَتَتَعَنَّتُون، مِمَّا أَدَّى إلَى سُقُوطِ سُلْطَانِكُمْ. لَقَدْ عَرَفَ ٱلرُّومَانُ نِقَاطَ ضُعْفِكُمْ، وَٱسْتَفَادُوا مِنْ أَجْدَادِي وَٱسْتَطَاعُوا اِسْتِمَالَتَهُمْ إلَى صُفُوفِهِمْ بَعْدَ أنْ كَانُوا ذَاقُوا مَرَارَةَ ٱلْهَزِيمَةِ فِي ٱلْحَرْبِ ٱلْبُونِيَّةِ ٱلثَّانِيَةِ عَلَى يَدِ أَحَدِ قَادَةِ ٱلْجَيْشِ مِنْ قَوْمِي... حَنَّبَعْلُ، ذَاكَ ٱلْبَطَلُ الّذِي كَان كُلَّمَا ذُكِرَ اِسْمُهُ، اِهْتَزَّ عَرْشُ رُومَا اِهْتِزَازًا...

كَانَتْ عِلِّيسَةُ تَرْقُبُ ٱلصُّنْدُوقَ ٱلْأَخْضَرَ ٱلْمُتَآكِلَةَ بَعْضُ جَوَانِبِهِ ٱلْمَزْرُوعَ فِي ٱلرَّمْلِ وَهِيَ تُنْصِتُ إِلَى ٱلْكَاهِنَةِ.

أَضَافَتِ دِيهِيَا سَاخِرَةً:

- اِنْتَهَى عَهْدُ قَرْطَاجَ يَا مَلِكَةَ ٱلْمَلِكَاتِ... اِنْتَهَى وَصَارَ مِنَ ٱلْمَاضِي ٱلسَّحِيقِ... لَكِنَّ ٱلأَطْلَالَ... بَقِيَتْ...

رَدَّتْ عِلِّيسَةُ مُسْتَاءَةً وَقَدْ حَوَّلَتْ بَصَرَهَا عَنِ صُنْدُوقِ ٱلْكَاهِنَةِ ٱلْأَخْضَرِ:

- أَعْلَمُ ذَلِكَ... هِيَ نِهَايَةُ كُلِّ ٱلدُّوَلِ مَهْمَا عَظُمَتْ وَطَالَ ٱلزَّمَنُ... ٱلتَّارِيخُ فِي حَرَاكٍ مُسْتَمِرٍّ، وَأَحْوَالُ ٱلشُّعُوبِ تَتَغَيَّرُ. ٱلْأَفْرَادُ أَيْضًا... يَتَغَيَّرُونَ. تَتَنَاحَرُ ٱلْأَقْوَامُ مِنْ أَجْلِ ٱلْبَقَاءِ وَٱلسُّلْطَةِ إلَى أنْ تَضْعُفَ وَتَتَهَاوَى... ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ ٱلتَّارِيخِ. أُخْبِرْتُ كَيْفَ لَاحَقَ ٱلرُّومَانُ ٱلْقَائِدَ ٱلْعَظِيمَ حَنَّبَعْلَ. إِلَّا أَنَّهُ حَارَبَهُمْ وَلَمْ يَسْتَسْلِمْ أَبَدًا. وَقَدْ فَضَّلَ ٱلْاِنْتِحَارَ عَلَى أنْ يَقَعَ فِي قَبْضَتِهِم. إنَّهُ لَعَمْرِي قَائِدٌ رَمْزٌ، لَمْ يَقْبَلْ ٱلذُّلَّ ولَمْ يَرْضَ ٱلْهَوَانَ.

صَمَتَتْ عِلِّيسَةُ لَحْظَةً ثُمَّ أَضَافَتْ:

- وَعَلِمْتُ أَنَّ ٱلرُّومَانَ خَرَّبُوا مَدِينَتِي تَخْرِيبًا ثُمَّ أَعَادُوا بِنَاءَهَا حَسَبَ طُرُقِ مِعْمَارِهِمْ... إِنَّ لِكُلِّ حُكْمٍ بِدَايَةً... وَنِهَايَةً. لَكِنْ! لِمَاذَا لَمْ أَعْثُرْ، فِي مَا اِطَّلَعْتُ عَلَيْهِ، عَلَى أَخْبَارِكِ ٱلشَّيِّقَةِ وَقَدْ كُنْتِ مَلِكَةً كَمَا كُنْتِ تَذْكُرِينَ؟!...

قَالَتْ ٱلْكَاهِنَةُ بِأَسَى:

- ٱللَّعْنَةُ عَلَى مُزَيِّفِي ٱلتَّارِيخِ!! لَقَدْ امْتَدَّ سُلْطَانِي عَلَى كَامِلِ سَوَاحِلِ شَمَالِ إِفْرِيقِيَا وَجِبَالِهَا وَسُهُولِهَا وَهِضَابِهَا... وَكَانَتْ مَدِينَةُ خِنْشِلَةَ فِي جِبَالِ ٱلْأُورَاسْ ٱلْعَالِيَةِ عَاصِمَةَ مَمْلَكَتِي. كَانَ ٱلْكُلُّ يَحْسُبُ لِي أَلْفَ حِسَابٍ. ٱلرُّومَانُ، كَانُوا يَهَابُونَنِي فَقَدْ هَزَمْتُهُمْ مَرَّاتٍ، وَتَغَلَّبْتُ عَلَى غَيْرِهُمْ مِنَ ٱلْغُزَاةِ ٱلْعَرَبِ مِمَّنْ طَمِعُوا فِي أَرْضِ قَوْمِي، وَكَبَّدْتُهُمْ شَرَّ ٱلْهَزَائِمِ. ٱلْجَمِيعُ يَشْهَدُ لِي بِذَلِكَ. لَكِنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى ٱسْتِغْلَالِ خَيْرَاتِنَا وَحُبُوبِنَا وَغِلَالِنَا فَأَحْرَقْتُ ٱلْأَشْجَارَ وَٱلْمَزَارِعَ حَرْقًا... وَلَعَلَّهُ مَا كَانَ عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ...

وَصَمَتَتْ لَحْظَةً ثُمَّ تَابَعَتْ:

- دَافَعْتُ عَنْ قَوْمِي وبِلاَدِي بِكُلِّ مَا أُوتِيتُ مِنْ قُوَّةٍ. أَلْحَقْتُ بِأَعْدَاءِ مَمْلَكَتِي شَرَّ ٱلْهَزَائِمِ وَأَذَقْتُهُمُ ٱلذُّلَّ وَٱلْمَهَانَةَ. وَتَمَكَّنْتُ مِنْ صَدِّ حَسَّانِ بْنُ ٱلنُّعْمَانِ ٱلْعَرَبِي عَلَى أَعْقَابِهِ وَكَانَ سَيْفِي هَذَا مُسَلَّطًا عَلَى رَقَبَتِهِ (وَأَشْهَرَتْ سَيْفَهَا عَالِيًا) دُونَ أَنْ أَقْتُلَهُ. كُنْتُ أَسْتَطِيعُ قَطْعَ رَأْسِهِ أَوْ غَرْسَ سَيْفِي فِي صَدْرِهِ، لَكِنَّنِي لَمْ أَفْعَلْ، ظَنًّا مِنِّي أَنَّهُ بَعْدَ ٱلْهَزِيمَةِ ٱلْمُهِينَةِ الّتِي أَلْحَقْتُهَا به وَبِجَيْشِهِ، لَنْ يَعُودَ إِلَى مَمْلَكَتِي. لَكِنَّهُ عَادَ. عَادَ بِجَيْشٍ ضَخْمٍ يُسَاعِدُهُ عَدَدٌ مِنَ ٱلْمُرْتَزَقَةِ وَٱلطَّمِعِينَ بَعْدَ أَنْ خَانَنِي مَنْ جَعَلْتُهُ فِي مَقَامِ وَلَدِي: خَالِدُ بْنُ يَزِيدْ الْأَعْرَابِيّ، الَّذِي اِسْتَبْقَيْتُهُ إِلَى جَانِبِي وَقَدْ حَرَّرْتُ بَقِيَّةَ أَسْرَى الْعَرَبِ، هُوَ مَنْ كَانَ يُخْبِرُ حَسَّانَ بِكُلِّ أَسْرَارِي. فَعَادَ بْنِ النُّعْمَانْ وَجَيْشُهُ، وَتَمَكَّنُوا مِنْ قَتْلِي غَدْرًا...

كَانَتِ ٱلْكَاهِنَةُ تَرْوِي ذَلِكَ بِنَبْرَةٍ حَزِينَةٍ تُوحِي بِٱلْمَرَارَةِ. ثُمَّ سَكَتَتْ عَنْ ٱلْكَلَامِ ٱلْمُبَاحِ وَٱعْتَلَتْ صَهْوَةَ حِصَانِها مِنْ جَدِيدٍ بَيْنَمَا ٱلرِّيَاحُ تُرَاقِصُ ثَوْبَهَا...

تَعِبْتُ مِنْ مُكُوثِي فِي مَكَانِي فَتَحَوَّلْتُ بِهُدُوءٍ إِلَى شَجَرَةٍ عَالِيَةٍ تَسَلَّقْتُهَا دُونَ أَنْ أُحْدِثَ أَيَّ ضَجِيجٍ. وَإِذَا بِي أَرَى طَيْفَيْ شَخْصَيْنِ يُصَارِعَانِ ٱلْمَوجَ ٱلْهَائِجَ. كِدْتُ أَصْرُخُ وَأَطْلُبُ لَهُمَا ٱلنَّجْدَةَ. لَكِنَّنِي عَدَلْتُ عَنْ ذَلِكَ وَأَنَا أَرَاهُمَا يَتَقَدَّمَانِ نَحْوَ ٱلشَّاطِئِ بَعِيدًا عَنْ ٱلْمَكَانِ ٱلَّذِي تَقِفُ فِيهِ ٱلْكَاهِنَةُ وَعِلِّيسَةُ... لَمْ تَتَفَطَّنِ ٱلْمَرْأَتَانِ إِلَيْهِمَا وَهُمَا يَتَسَلَّلَانِ إِلَى ٱلْغَابَةِ...

خِفْتُ كَثِيرًا... مَرَّتْ بِذِهْنِي اِحْتِمَالَاتٌ عَدِيدَةٌ أَسْوَؤُهَا حُدُوثُ عَمَلِيَّةِ ٱغْتِيَالٍ جَدِيدَةٍ بَعْدَ أنْ كَانَتْ قَدْ هَدَأَتْ مَوجَةُ ٱلْاِغْتِيَالَاتِ ٱلَّتِي اِجْتَاحَتْ ٱلْبِلَادَ بَعْدَ ثَوْرَةِ 17 ديسمبر. رَأَيْتُ ٱلرَّجُلَيْنِ مُلَثَّمَيْنِ يَخْرُجَانِ مِنَ ٱلمَاءِ في لِبَاسٍ أَسْوَدَ وَيَجْلِسَانِ مُسْتَنِدَيْنِ إِلَى جِذْعِ شَجَرَةٍ وَهُمَا يَنْظُرَانِ فِي اِتِّجَاهِ ٱلصُّنْدُوقِ ٱلْأَخْضَرِ ٱلْمُتَآكِلَةِ بَعْضُ جَوَانِبِهِ ٱلْمَزْرُوعِ فِي ٱلرَّمْلِ. ظَلَلْتُ أَرْقُبُهُمَا بَيْنَمَا أُرْهِفُ سَمْعِي لِأُتَابِعَ مَا تَقُولُهُ ٱلْمَرْأَتَانِ.

قَالَتْ مَلِكَةُ قَرْطَاجَ:

- عُمُومًا، أَنْتِ مُتِّ وَاقِفَةً فِي سَاحَةِ ٱلْقِتَالِ. وَهَذَا شَرَفٌ كَبِيرٌ يُحْسَبُ لَكِ، حَتَّى إِنْ تَجَاهَلَكِ ٱلْمُؤَرِّخُونَ عَنْ قَصْدٍ أَوْ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ.

قَالَتِ ٱلْكَاهِنَةُ وَهِيَ تُمْسِكُ لِجَامَ ٱلْحِصَانِ وَقَدِ اِسْتَعَادَتْ نَبْرَةُ صَوْتِهَا صَفَاءَهَا:

- يَكْفِينِي شَرَفًا مَا قَالَهُ عَنِّي أَبُو ٱلْعَبَّاسِ أَحْمَدُ ٱلْمَرَّاكِشِي فِي كِتَابِهِ "ٱلْبَيَانُ ٱلْمُغْرِبُ فِي اِخْتِصَارِ أَخْبَارِ مُلُوكِ ٱلْأَنْدَلُسِ وَٱلْمَغْرِبِ": [جَمِيعُ مَنْ بِأَفْرِيقِيَا مِنَ ٱلرُّومَانِ مِنْهَا خَائِفُونَ وَجَمِيعُ الْأَمَازِيغِ لَهَا مُطِيعُونَ]1، وَمَا قَالَهُ عَنِّي ٱلْمُؤَرِّخُ بْنُ خَلْدُونَ فِي كِتَابِهِ "ٱلْعِبَرُ وَدِيوَانُ ٱلْمُبْتَدَإ وَٱلْخَبَرِ فِي أَيَّامِ ٱلْعَرَبِ وَٱلْعَجَمِ وَٱلْبَرْبَرِ، وَمَنْ عَاصَرَهُمْ مِنْ ذَوِي ٱلسُّلْطَانِ ٱلْأَكْبَرِ": [دِيهِيَا فَارِسَةُ ٱلْأَمَــــــازِيغِ ٱلّتِي لَمْ يَأْتِ بِمِثْلِهَا زَمَانٌ... كَانَتْ تَرْكَبُ حِصَانًا وَتَسْعَى بَيْنَ ٱلْقَوْمِ مِنْ ٱلْأُورَاسْ إلَى طَرَابُلْسَ تَحْمِلُ ٱلسِّلَاحَ لِتُدَافِعَ عَنْ أَرْضِ أَجْدَادِهَا]2.

لَقَدْ نَصَبَ لِي أَهْلِي، فِي مَدِينَتِي، تِمْثَالًا يَتَذَكَّرُونَنِي بِهِ. وَقَدْ تَرَكْتُ فِي هَذِهِ ٱلْأَرْضِ أَحْفَادًا لَا تَنْحَنِي لَهُمْ جِبَاهٌ لِظَالِمٍ. مِيزَاتُهُمْ ٱلشَّجَاعَةُ وَٱلْإِقْدَامُ وَشَرَفُ ٱلْمُبَادَرَةِ فِي كُلِّ مَجَالَاتِ ٱلْحَيَاةِ. كُنَّا ٱلْأَسْيَادَ ٱلْأَحْرَارَ وَسَنَبْقَى. ٱلشَّجَاعَةُ تَسْرِي فِي عُرُوقِنَا. وَلَا نَرْضَى ٱلْهَوَانَ. نَمُوتُ لِتَحْيَى أوْطَانُنَا وَيَعِيشَ أَحْفَادُنَا... هَكَذَا نَحْنُ، لَا نَرْهَبُ ٱلْمَوْتَ أبَدًا وَلَا نَخَافُهُ، ولَا نَهَابُ ٱلْمُغَامَرَةَ. لَقَدْ عِشْتُ أَكْثَرَ مِنِ اِثْنَيْ عَشَرَ عَقْدًا مِنَ ٱلزَّمَنِ قَضَيْتُ مِنْهَا خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ عَامًا أَحْكُمُ كُلَّ شَمَالِ إفْرِيقِيَا وَهَا أَنَا ٱلْآنَ أَقِفُ عَلَى ٱلْأَطْلَالِ، مِثَلَكِ تَمَامًا...

صَمَتَتِ ٱلْمَرْأَتَانِ لَحْظَةً اِنْتَبَهْتُ خِلَالَهَا إِلَى أَمْرٍ غَرِيبٍ...

28 views0 comments

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page