أصبحتَ بعيدا....
تساءلتُ فجأة أين أنتَ الآن؟
لا شيء هنا سوى بعض أركانٍ تتنهّد ونوافذ صامتة كنتَ تفتحها كل صباح ونحن نيام أصبحت بدورها أكثر غربة وغرابة.
شعرتُ برجفة وكأنّي بردانة هذا الصباح والشمس تتسلّل من بين الستائر حالمة كعادتها غير عابئة بما يكتنفنا كلّ يوم من أوجاع .
تقوم بواجبها ثم ترحل بهدوء مخلّفة وراءها ألوانا وانتظارا...
لماذا لا أترك باب حلمي مفتوحا قليلا إذا ؟ لعلّك تطلّ عليّ ويعاودك ذلك الحنين لضمّي وتقبيل رأسي الصغير الذي امتلأ اليوم بالهموم...
كم قاسٍ هذا الغياب وأنا استعيد كل تفاصيل حياتي معك...هل أنسى حين تدخل كلّ مساء "بقراطيس" المكسّرات لنسهر على كأس الشاي الأخضر الذي تحبه خفيفا وأكثر سكّرا؟؟
أكاد ألمحك وأنت تحتفي بضحكاتنا ..
أدرك جيّدا بأنك لن تعود إلى هنا، خيّرت مكانا آخر ومدينة أجمل من مدينتنا هذه المكتظة بالضجيج والقلق والنفاق...
هناك ربّما مساحة هدوء ونسيم نقيّ وعصافير خضراء وصفراء تزقزق طربا لحدائقك الغنّاء ...
هل تذكر عصافير شارعنا الطويل وهي تملأ السماء البعيدة في حلقات لولبيّة خارقة؟؟
كنّا نشاهدها معا في مساءات القهوة التي نرتشفها حين عودتي من العمل ... قهوتي التي تحبّها يا أبـــــي.....
تجنّبتُ من أوّل كتابة هذه الكلمات أن لا أناديك بأبي، فالألم يعتصرني بشدّة – أشتاااااااااااق أن أنادي أبي...
ياااه كم هي غالية هذه الكلمة.... !!!!
من سأنادي الآن؟؟ غصّة في حلقي تأبى الخروج – يأبى كلّ شيء أن يكون جميلا كما كان حين كان الوقت يغنّي وقلوبنا تراقص أمانينا الكثيرة التي لا أحد يحققها سواك.....
يا أبي الذي لا تتكرّر.... يا وطنا كبيرا لا ظلم فيه ولا ضياع.....
كم يلزمني من عمر لكي أتوقّف عن هذا الحزن الكبير بلا أنت.....؟؟؟
يعتقد البعض أنّ ثيابي الملوّنة وشعري المنسدل وابتسامتي الحاضرة، انّي خالية من الوجع....وجع الفقد وجع الوحدة وجع الاشتياق إليك حدّ الجنون...
وانت يا أبي من علّمتني حب تلك الألوان.... وأنا صغيرة كنتَ تصنع لي دمى الحلوى وتحضر لي فساتين ملوّنة في الأعياد... علّمتني كيف ابتسم حتى في أحلك الظروف لكي نخفف وطأة المصاب.....
لا شيء أنساه حبيبي يا أبي، حتى ادوات حلاقتك وصندوقك الصغير الذي أجد فيه بقايا رائحتك...
لا شيء يمكن نسيانه مهما أخذتني الحياة بحلوها ومرّها بنجاحها وفشلها فتتقاذفني تيارات الذكرى إلى النظرة الاخيرة على وجهك وانت ممدّد وكانّك تبتسم..، تنبعث منك رائحة طيّبة ...
واليوم في ذكرى وفاتك، مازال السؤال قائما : هل رحلتَ فعلا؟؟؟
ألن تعود ذات مساء تحمل بين يديك قراطيس اللوز وابتسامة بحجم الأفق؟؟
فبمن احتفي أنا يا أبــــــي؟ وتونس تحتفي بعيد الآباء؟
لا أحد يملأ مكانك الشاغر، ولا أحد سيشاركني مساءات القهوة وابتسامة ظلّت مثلي يتيمة تنشد كلمة : أبــــــي.
Komentáře