يزدحم الميناء بالمسافرين.. يتأبّط الرّبيع فؤاده يستعدّ للرّحيل.. يجتاز عتبة الأنين.. يدعوه الحنين للبقاء حيث يريد.. تكبّله مواجع ورغبة في وأد ماضي عنيد.. أ يعيد الكرّة ويسبح في يمّ من جليد أم يغوص في الملح وقد شهد الخريف اصفرار أحلامه وضياع آماله. . أ يتوق الرّبيع إلى تجديد العهود وتوثيق الوعود وقد ناله من الإرهاق ما أثقل صدره وكدّر صفوه.. يلج محراب التزهّد يرنو إلى مصالحة مع الزّمان.. غير بعيدة تجلس المقادير تراقب العابرين.. هالها أن يزهد هذا اللّعين.. يعتزل الأنين وينعم بمشوار طويل.. يتفسّح في بساتين النّعيم.. أغرته وإغراء الأقدار عنيف.. لا يُقاوم ولا يملك المرء غير الإذعان وبسط الولاء.. تاقت روحه إلى مُغازلة الأمل من جديد.. طرق بابا كان عليْه في ما مضى منيعا.. عسيرا.. فُتِحت الأبواب وانطلق شذى عطر الجوى.. ما قاومه الغرّير.. تاه في سحر الجمال ولو لحين.. فاز بالرّضا والقبول ونسي أنّ للمقادير صولاتها وجولاتها.. سبح في برك النّعيم.. تعبّد في محراب الغرام.. ما تاب عن أخطائه.. أقسم أن يدفن أحزانه.. أن يتجرّد من أزراره.. أن يعتلي العرش عاريا.. وفعلها المغرور.. والغرور داء مقيت يُلقى بصاحبه في دهاليز ظلماء.. وتمرّ الأيّام سريعة والغرّير يقفز على الصّخور مزهوا مختالا.. وفي غفلة منه زلّت رجله.. سقط غير مأسوف على غروره.. ألقي ببصره.. هنا وهناك.. يبحث عن يد تمتدّ نحوه.. تساعده على القيام.. ما من مغيث.. اقتعد الأرض واعتنق الخجل.. التفت إلى الوراء.. قهقهات عالية.. أصوات ساخرة.. ذكريات مبعثرة.. حامت حوله أفاعي.. كبّلته.. اختنق.. حاول أن يتملّص من قبضتها.. ما استطاع.. تعب الرّبيع.. أ حانت نهاية المشوار.. أ حلّت ساعة الخلاص.. كيف يستسلم وينساق مكبّلا إلى النّهاية دون مقاومة.. لن يذعن للمقادير.. حاول وحاول.. باءت محاولاته بالفشل.. ارتقد الأديم.. بسمل وتلا الشّهادة.. أخيرا سينام نومته الأخيرة.. هيهات هيهات.. من داخله ينطلق صوت وهن.. أ هذا ما ترومه.. أ تستسلم وترفع الرّاية البيضاء.. أ تُذعن لضعفك يستولي عليك من جديد.. ماهكذا عهدناك.. انهض فما عاش من ارتقد العدم.. انهض وارسم بأصابع الشّمس مشوارا جديدا بعيدا عن الألم.. إلى الأمام سر ولا تقعد بين الحُفر.. صفعه ذلك الصّوت وأعاد اليه رشده.. وكمن لدغته أفعى انتفض وسار يتّكئ على عصا الأمل.. هاهو يبتعد بين الجنان يرسم السّواقي ويزيّن السّماء بألوان قوس قزح.. يفتح الأحضان لمن يرغب في بهجة الحياة....
نعيمه المديوني
Commentaires