*للأديبة التونسيّة زهرة مراد
أَحَسَّتْ فَجْأَةً بِالْوَهَنِ. وَأَلَمَّ بِهَا دُوَارٌ تَرَاءَى لَهَا عَلَى إِثْرِهِ أَنَّ هَيْكَلَهَا الْعَظْمِيَّ يَتَهَاوَى عَظْمَةً، عَظْمَةً، تَحْتَ جِلْدِهَا. وَحَاصَرَهَا لَوْنٌ رَمَادِيٌّ، تَدَاعَتْ مَعَهُ لِلسُّقوطِ عَلَى أَرْضِيَّةِ الْغُرْفَةِ.
لَمْ تَفْقِدْ الْوَعْيَ تَمَامًا. لَكِنَّهَا لَا تَقْوَى عَلَى الْحَرَكَةِ، حَتَّى إِنَّ الْكَلَامَ كَأَدَهَا! اِسْتَسْلَمَتْ فِي الْبِدَايَةِ صَاغِرَةً حَتَّى تَرَاءَى لَهَا طَيْفٌ يَمُرُّ أَمَامَ عَيْنَيْهَا وَيَدُورُ حَوْلَ رَأْسِهَا كَنَسْرٍ يَنْتَظِرُ أَنْ تُفَارِقَ فَرِيسَتُهُ الْحَيَاةَ. فَتَحَتْ عَيْنَيْهَا وَصَرَخَتْ فِي صَمْتٍ: "اِبْتَعِدْ... لَا تَقْتَرِبْ... أَنَا بَاقِيَةٌ... لَنْ أَرْحَلَ وَلَنْ أُفَارِقَ الْأَرْضَ... بَاقِيَةٌ أَسْقِي حَدِيقَةَ بَيْتِي وَأَرْعَى زُهُورَهَا وَرَيَاحِينَهَا..."
اِبْتَسَمَ الطَّيْفُ سَاخِرًا وَتَوَقَّفَ عَنِ الدَّوَرَانِ. لَمْ يَنْبُسْ بِكَلِمَةٍ، لَكِنَّهُ نَاصَبَهَا النَّظَرَ. أَضَافَتْ: "كَأَنَّكَ تَقُولُ إِنَّكَ اِخْتَرْتَنِي لِتَصْطَحِبَنِي إِلَى عَالَمِ الْغَيْمِ الْكَثِيفِ... لِأَصِيرَ غَيْمَةً مَمْلُوءَةً بِالْمَاءِ الزُّلَالِ، أَسْقِي الزَّهْرَ وَالزَّرْعَ لِتَنْمُوَ الظِّلَالُ وَيَكْبُرَ الْحُبُّ...
اِعْلَمْ أَيُّهَا الْقَادِمُ مِنْ عَالَمٍ لَا أَعْرِفُهُ، أَنَّنِي لَنْ أُغَادِرَ، وَلَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَ رُوحِي وَجَسَدِي. لِذَلِكَ، جِدْ لَكَ شَيْئًا آخَرَ تَفْعَلُهُ. اُنْظُرْ إِلَى جَنَّةِ بَيْتِي! تَمَلَّى أَلْوَانَ الْحَيَاةِ الْجَمِيلَةِ فِي أَزْهَارِهَا! تَمَتَّعْ بِعِطْرِ وُرُودِهَا وَاسْتَنْشِقْ أَرِيجَ رَيَاحِينِهَا...!"
وَإِذَا بِالطَّيْفِ يَتَضَاءَلُ وَيَأْكُلُه الضَّوْءُ الْقَادِمُ مِنْ نَافِذَةٍ تُطِلُّ عَلَى حَدِيقَةِ الْمَنْزِلِ. وَإِذَا بِهَا تَشْعُرُ بِعَظْمَاتِ هَيْكَلِهَا تَعُودُ تَدْرِيجِيًّا إِلَى أَمَاكِنِهَا، فَيَتَحَوَّلُ الْوَهَنُ إِلَى طَاقَةٍ اِسْتَطَاعَتْ بِهَا أَنْ تَنْهَضَ مِنْ جَدِيدٍ...
Commenti